1- قال صلى الله عليه وسلـم: " أول عرى الإسلام نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة". أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في المعجم الكبير، وابن حبان في صحيحه بإسناد جيد عن أبي أمامة الباهلي.
2- قال محمد إقبال: في رسالته إلى المستشرق الإنكليزي نيكلسون عام (1921م): " ما من ريب أن المسلمين نجحوا في بناء إمبراطورية عظيمة، لكنهم – وهم يفعلون ذلك- أدخلوا الروح الوثنية إلى قيمهم السياسية، وأضاعوا بعض الإمكانات العظيمة الكامنة في دينهم"، وأضاف: " إنني أعتبر من الخسارة أن تقدم الإسلام كإيمان فاتح، أدى إلى تجميد نمو أجنة بذور التنظيم الاقتصادي والسياسي للمجتمع التي أجدها مبثوثة في القرآن والسنة النبوية" .
3- وما ذكره الفقيه الدستوري السنهوري، من إحجام الفقهاء عن الخوض في مسائل الخلافة والقانون العام فأبقاهما في حالة طفولة، وهذا نفس تعبير إقبال عنه بالأجنة، وفسره ابن خلدون قريباً من هذا المعنى، بالقول" كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان، لا تزيد عليها، لأن عصابة الدولة القائمين بها لا بد من توزيعهم على الممالك والثغور التي تصير إليهم،..."فإذا توزعت العصائب على الثغور والممالك، فلا بد من نفاد عددها ، وهذا ما لاحظه كثير من المفكرين العرب وغير العرب، من أن الفتوحات الإسلامية كانت سريعة للغاية، بما جعل الأمة تتجاوز ذاتها لحظة ميلادها، حيث انتقلت بالإسلام من أمة عربية إلى أمة إسلامية مترامية الأطراف، لم يقدر العرب على إستيعابها، خاصة أنهم فكروا بالفتح أكثر مما فكروا بالإسلام ونظمه، فآثروا كرسي الحكم، على مبادئ الحكم الشرعية.
4- بيَّن مالك ابن نبي أن مرحلة الدولة النبوية والخلافة الراشدة، كانت مرحلة تخلق دستوري، طبقت عملياً القيم القرآنية في الحكم التشاوري الراشد، إلى أن وقعت الفتنة الكبرى، وكانت معركة صفين حداً فاصلاً بين الراشدية والملكية، وهي محطة انكسار في منحى الصعود السريع في انتشار الإسلام وتمدده، وأن الانتفاضات والثورات الحاصلة بعدها كانت صدى لعدم قبول الضمير الإسلامي لهذا الانكسار وهذا التغير الحاصل، وإن لم تنجح في إرجاع الأمور إلى نصابها الراشدي، فحلت الثقافة الكسروية في طاعة الحاكم المطلقة، مع إنكار القلب على الدوام هذه الطاعة العمياء.
5- أدرك " جان جاك روسو" التناغم في مصطلح التوحيد، لا بالمعنى الكلامي، بل بالمعنى اللغوي الشامل لوحدة الخليقة ووحدة الحياة تحت سلطان الخالق، وهذا ما أدركه " مالك بن نبي" في استعداد العالم الإسلامي أن يكون مواطنه (مواطن عالمي) بسبب توفر الشروط النفسية للإنسان الجديد لديه في العالم المعاصر، شرط أن تحل مشكلة الأزمة الدستورية في بلادنا الإسلامية، وسيؤدي ذلك إلى التصالح مع الذات والتصالح مع البشرية قاطبة.
6- وذكر مؤرخ الملل والنحل الشهرستاني، فقال: : " وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان"، وروى جرير بن عبد الله حواراً بينه وبين ذي عمرو (أحد حكماء اليمن) فقال: " ...إني مخبرك خبراً: إنكم معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير تأمرتم في آخر، فإذا كانت بالسيف كانوا ملوكاً، يغضبون غضب الملوك، ويرضون رضا الملوك". وفي رواية: تآمرتم، وشرحهما السيوطي فقال:" بالمد: تشاورتم، وبالهمزة: أقمتم أميراً بينكم على رضا".
7- التأمر من غير إمرة، استثناءً للضرورة، وجد في قصة غزوة مؤتة، بعد مقتل قادتها الثلاثة، وردت عند البخاري عن أنس، فيها: " ثم أخذها –أي الراية- خالد بن الوليد" عن غير إمرة"، ففتح الله عليه"، ومن فقه البخاري أن عنون لها بعنوان (باب من تأمر في الحرب من غير إمرة إذا خاف العدو)، وهذه الحالة الاستثنائية لها شروطها وهي مقررة في جميع القوانين الدستورية في العالم، حتى يزول الخطر الداهم، لكن كثير من فقهائنا – مع الأسف خلطوا بين الحالتين- فجعلوا الرخصة؛ عزيمة، والفرع، أصل، والاستثناء، حالة دائمة، فمنحوا السلطة غير الشرعية، حقوق السلطة الشرعية.
8- قال ابن تيمية في السياسة الشرعية: " إرادة العلو على الخلق ظلم، لأن الناس من جنس واحد، فإرادة الإنسان أن يكون هو الأعلى ونظيره تحته ظلم".، وقال قدامة بن جعفر، في كتاب الخراج وصناعة الكتابة: " الرئاسة إنما هي رئاسة عفو الطاعة، لا رئاسة الاستكراه والقهر، والمملكة مملكة الرضا والمحبة، لا مملكة التسلط والقهر".، و ذكر أرسطو منذ 2300سنة، أن الأفضل للدولة أن يحكمها قانون جيد، من أن يحكمها رجل جيد.
9- الحديث صريح في مسألة الحكم: " لا قَيْلَ ولا مَلِك إلا الله عز وجل" في مسند أحمد 32/199، قال عنه شعيب الأرنؤوط وآخرون "صحيح"، وفي حديث آخر:" أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثُه...رجل كان يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله" رواه مسلم، 3/1688، وقال: " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده" ولا هنا ناهية وليست نافية، لأن القيصرية استمرت قروناً بعد العهد النبوي، ولهذا أحب الصحابة لقب أمير وكرهوا لقب ملك، وذكر أبو حامد الغزالي: " أن قيصر ملك الروم أرسل رسولاً إلى عمر لينظر أحواله، فلما دخل المدينة سأل أهلها وقال: أين ملككم؟ قالوا ليس لنا ملك، بل لنا أمير" في كتاب التبر المسبوك في نصيحة الملوك، قال ألبرت أنشتاين: " الدولة يجب أن تكون خادمة لنا، لا أن نكون نحن عبيداً لها" (ألبرت أنشتاين، أفكار وآراء، ترجمة رمسيس شحاتة).
10- ولو دققنا فيما شجر بين الناس بعد انتهاء المرحلة الراشدية، فأدى إلى ما عرف بالتسنن والتشيع: هو المشكلة السياسية التي تكاد تكون متقاربة بين السنة والشيعة أول الأمر، لأن موضوع الخلاف بينهما هو موضوع يتعلق بالإمامة في الأصل، وهو موضوع سياسي، ولهذا ذكر " مارشال هودغسون" أن الشيعة والعثمانية كانتا مجرد موقفين من قضية الإمامة، لا انشطاراً شاملاً في صف المؤمنين، والناظر لمسألة التشيع والتسنن، يرى أنهما كانا من أعراض الأزمة الدستورية ووليدا أزمتها، ولو دقق المحقق في الأمر لوجد أن السنة حصروا الإمام في قريش، والشيعة حصروه في آل البيت، وقال الشيعة بعصمة الأئمة، وقال السنة بعدالة الصحابة، (وهي صيغة مخففة من العصمة)، وتبنى الشيعة التقية، وتبنى السنة المداراة، وهما في النهاية انتهيا إلى مداهنة الحاكم الجائر، خوفاً من سطوته، أو خوفاً على الأمة من التمزق، وهذا يجعل الفكر السني والشيعي وليدا الفعل التاريخي نفسه، والنتيجة متقاربة لديهما في النهاية، وهي قبول ما رآه السنة – على مضض- غصباً لحق الأمة، وقبل الشيعة -على مضض- ما رأوه غصباً لحق الأئمة، وهذا ما يجعل الأزمة الدستورية لديهما واحدة، ولكن بفقهين مختلفين.
11- وصف إمام الحرمين الجويني المشكلة السياسية فقال: " المسلمون هم المخاطبون – في القرآن- والإمام في التزام أحكام الإسلام كواحد من الأنام، ولكنه مستناب في تنفيذ الأحكام" في كتابه (غياث الأمم في التياث الظلم)، ولهذا رفض خيار الصحابة التوريث في الحكم، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: " جئتم بها هِرَقْلية، وفوقية تبايعون لأبنائكم! " في تاريخ دمشق، وقال ابن تيمية : " موسى جاء بالعدل، وعيسى جاء بتكميلها بالفضل، والنبي صلى الله عليه وسلـم قد جمع في شريعته بين العدل والفضل" في كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، إشارة إلى قول الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) 90/النحل، وقد عبر الماوردي عن أهمية الدولة للدين: " لما في السلطان من حراسة الدين والدنيا، والذب عنهما ودفع الأهواء منه، وحراسة التبديل فيه، وزجر من شذَّ عنه بارتداد، أو بغى فيه بعناد، أو سعى فيه بفساد....، فليس دين زال سلطانه، إلا بدلت أحكامه، وطمست أعلامه، وكان لكل زعيم فيه بدعة، ولكل عصر فيه وهاية" في كتاب (أدب الدنيا والدين)، ولهذا كان كثير من أنبياء بنو إسرائيل ملوكاً، ويدل على ذلك أحاديث كثيرة: " من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية" (ابن حبان/ صحيح)، و " من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية " (رواه مسلم)، وقد سن النبي الإمرة ولو كانوا ثلاثة: " إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم" (أبو داود)، ولم يقيده عمر بسفر فقال: " إذا كان نفر ثلاث فليؤمروا أحدهم، ذاك أمير أمَّره رسول الله " (ابن خزيمة/ صحيح).
12- قال ابن تيمية: " ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها" وقال: " إن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة" وسائر ما أوجبه الإسلام، وقال ابن جماعة: " يجب نصب إمام لحراسة الدين، وسياسة أمور المسلمين، وكف أيدي المعتدين....لأن الخلق لا تصلح أحوالهم إلا بسلطان يقوم بسياستهم، ويتجرد لحراستهم" في كتاب (تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام)، ويقر " ما يكل كوك" بعظمة ما فعله رسول الله بقوله: " حوَّل محمدٌ قبائل العرب الضعيفة إلى أمة عزيزة"، وقال هشام جعيّط: " أورث محمد أمته والعالم، ديناً مكتملاً، ودولة مهيمنة على جزيرة العرب، مترابطين بشكل لا يقبل الانفكاك (كتاب الفتنة/33.)، وذكر أبو بكر لأعرابية سألته: " ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم، قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم أولئك على الناس"( رواه: البخاري 5/41).
13- عن ابن عمر قال: دخلت على حفصة، فقالت: أعلمت أن أباك غيرُ مستخلف؟ قال: قلت: ما كان ليفعل، قالت: إنه فاعل، قال: فحلفتُ أني أكلمه في ذلك، - بعد طعنه - ...فكلمته وقلت: لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم، ثم جاءك وتركها، رأيتَ أن قد ضيَّع؟، فرعاية الناس أشد، قال: فوافقه قولي، ....إلا أنه كما فعل رسول الله غير مستخلف" (رواه: مسلم)، ولهذا رتب مجلساً من كبار أهل الحل والعقد، وهم الستة المرضيين، ليختاروا أميراً للمسلمين، فكان طريقة جديدة متطورة عن خلافة أبي بكر، وخلافته كذلك، تحقيقاً وتطويراً لمبدأ الشورى، وروى عبادة بن الصامت – فيما يتعلق ببيعة الإسلام -: " وأن نقوم، أو نقول، بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم" (البخاري)، وأكد ابن تيمية، وقبله الماوردي، قال: " مقاصد الدين صلاح الدين والدنيا كلها ترجع إلى العدل، لقوله تعالى: (وأمرتُ لأعدل بينكم..) 15/الشورى+ وقوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) 58/النساء، وسأل الصحابي سعد بن تميم النبي" قلتُ يا رسول الله ما للخليفة من بعدك؟ [من الطاعة] قال: مثل الذي لي إذا عدل في الحُكم، وقسط في القِسط، ورحِم ذا الرحم فخفَّف، فمن فعل غير ذلك، فليس مني ولستُ منه " (البخاري في التاريخ الكبير، صححه الألباني، والأرناؤوط في سنن أبي داود)، وكان من آخر ما أوصى به عمر وهو على فراش الموت: " إني قد تركتُ فيكم ثنتين لن تبرحوا بخير ما لزمتموهما: العدل في الحكم، والعدل في القَسْم" (سنن البيهقي: 10/277)، ونقل عن ابن تيمية قوله: " إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة" ، (الفتاوى:28/164) ، ومثله في حديث صحيح ( رواه ابن ماجة: 5/296).
14- أرجعت الباحثة " لويز مارلو" روح المساواة في التراث الإسلامي، إلى ما تضمنته عقيدة التوحيد من المساواة، والروح العشائرية العربية التي تأبى الهرمية السلطوية" (كتاب أجنبي)، وعن أم الحصين في حجة النبي سمعته يقول: " إن أُمِّر عليكم عبد مجدَّعٌ –حسبتها قالت أسود- يقودكم بكتاب الله تعالى، فاسمعوا له وأطيعوا" (مسلم:2/944)، وأكثر من ذلك عدم حرمان ذوي الإعاقة من المشاركة في الحكم، بدلالة: ما ذكر خليفة بن خياط أن النبي: استخلف على المدينة ابن أم مكتوم ثلاث عشرة مرة في غزواته" (تاريخ خليفة بن خياط/96)، وللمرأة نصيب في الإسلام من المسؤولية السياسية، بدلالة ثناء القرآن على ملكة سبأ، وذكره مشاورة قومها، وهذا له دلالة تشريعية، أن الحكم في الإسلام لا ينبغي أن يكون أقل من حكم وثني لسبأ، في مسألة الشورى، وهذا ما استنبطه رشيد رضا من القرآن، واستنكر القرآن شركهم، ولم يستنكر حكمهم من قبل امرأة، ودلالة أخرى في بيعة العقبة الثانية شاركت فيها امرأتان: نسيبة بنت كعب- وأسماء بنت عمرو (مسند أحمد: 25/92 حسنه الأرناؤوط)، وحضرت نسيبة بيعة الرضوان، وعن أم سلمة سمعت رسول الله يقول: " أيها الناس، فقلت للجارية: استأخري عني، قالت: إنما دعا الرجال ولم يدعُ النساء، فقلتُ: إني من الناس" (رواه: مسلم: 4/1795)، واستن عمر بهذا فكان يستشير " الشفاء بنت عبد الله" ويقدمها في الرأي ويرضاها ويفضلها، وربما ولاها شيئاً من أمر السوق" (الاستيعاب في معرفة الأصحاب)، وعدم إشراك المرأة في الوظائف العامة في التاريخ، كان لاعتبارات اجتماعية وليس لأدلة شرعية.
15- قال الماوردي: " السلطان إن لم يكن على دين، تجتمع به القلوب، حتى يرى أهله الطاعة فيه فرضاً، والتناصر عليه حتماً، لم يكن للسلطان لُبْثٌ، ولا لأيامه صفوٌ، وكان سلطان قهرٍ، ومفسدة دهرٍ" (أدب الدنيا والدين/135)، وأخبر النبي إشارة إلى اختيار أبي بكر، قال: " ويأبى الله والمؤمنون إلا أبابكر" فأرجع الاختيار إلى الأمة" المؤمنون" وذكرُ اللهِ ذِكْرُ قدر، ونبأ إعجازي، (صحيح مسلم: 4/1856)، وعن عمر: " من بايع رجلاً عن غير مشورةٍ من المسلمين، فلا يبايَع هو ولا الذي بايعه" (ابن حبان: صححه الأرناؤوط)، لأن غياب المشاورة، غياب للتمثيل السياسي: قال تعالى: (وأمرهم شورى بينهم)، ويتعذر تحقيقها مباشرة من كل الناس، ولهذا سنَّ الإسلام مبدأ النيابة عن الأمة، كما حدث في اختيار اثني عشر نقيباً في بيعة العقبة الثانية، وجعل على رأسهم نقيب النقباء " أسعد بن زرارة" ومثل كل قبيلة بعدد مكافئ، (الطبقات الكبرى: 3/620)، ووردت تسمية أخرى " العرفاء" في قصة سبي هوازن عقب معركة حنين. (البخاري: 9/71)، فأصبح هؤلاء النقباء والعرفاء، بمثابة النواب عن الأمة في اختيار الحاكم فيما بعد، وأضيف إليهم مشاورة قادة الجند، وجمهور الحجاج، عند اختيار عثمان، فتوسعت قاعدة الشورى كلما أمكن ذلك.
16- قالت حيَّة بنت أبي حيَّة: " ذكرتُ غزوةَ بعضنا بعضاً في الجاهلية، وما جاء به الإسلام من الأُلفة...فقلت: يا عبد الله! حتى متى ترى أمر الناس هذا؟ قال - أبو بكر- ما استقامت الأئمة" (سنن الدارمي: وحسنه المحقق)، وقال صلى الله عليه وسلـم: " من دعا بدعوى الجاهلية، فهو من جُثاء جهنم، قالوا يا رسول الله، وإن صام وإن صلى؟ قال: وإن صام وإن صلى، وزعم أنه مسلم" (مسند أحمد: صححه الأرناؤوط)، وفسر الزمخشري المراد بأولي الأمر منكم في القرآن: " أمراء الحق، لأن أمراء الجور، الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، لأنهم لا يؤدون أمانة، ولا يحكمون بعدل، ولا يرُدون شيئاً إلى كتاب ولا إلى سنة، إنما يتبعون شهواتهم، وهم منسلخون عن صفات الذين هم أولوا الأمر عند الله ورسوله، وأحق أسمائهم اللصوص المتغلبة" (الكشاف للزمخشري: 1/524)، ويدل على ذلك منطوق حديث: " من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطع إن استطاع" ( صحيح مسلم: 3/1472).
17- قال الإمام الشافعي: " كل من كان حول مكة من العرب، لم يكن يعرف إمارة، وكانت تأنف أن يعطي بعضها بعضاً طاعة الإمارة، فلما دانت لرسول الله بالطاعة، لم تكن ترى ذلك يصلح لغير رسول الله، فأمروا أن يطيعوا أولي الأمر الذين أمَّرهم رسول الله، لا طاعة مطلقة، بل طاعة مستثناة، فيما لهم وعليهم" ( الرسالة: 1/79)، وأكد الطاعة المشروطة الحسن البصري لوالي العراق عمر بن هبيرة، حين استفتاه بالكتاب يأتيه من السلطان فيه مخالفة لشرع الله، فقال له: اعرضه على كتاب الله، فإن وجدته موافقاً له فخذ به، وإن وجدته مخالفاً فأبعده" (بدائع السلك: 2/96)، قال الإمام الشافعي والزمخشري: " تنازع الأمراء والرعية يكون بالرد إلى الكتاب والسنة"، والإمارة مغرم وأمانة وليس مغنم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلـم: " إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه" (مسلم)، وجاء في مصنف عبد الرزاق الصنعاني، تحت عنوان: " باب القود من السلطان" عن حبيب بن صهبان قال: سمعت عمر يقول: " ظهور المسلمين حِمى الله لا تحِلُّ لأحد، إلا أن يُخرجها حدٌّ" (المصنف: 9/464)، وأقاد عمر من أمرائه، اتباعاً للنبي، فعن عطاء قال: كتب عمر إلى عماله أن يوافوه بالموسم فوافوه، فقام فقال: يا أيها الناس إني بعثت عمالي هؤلاء ولاة بالحق عليكم، ولم أستعملهم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من دمائكم، ولا من أموالكم، فمن كانت له مظلمة عند أحد منهم فليقم،...فقام رجل فقال: عاملك ضربني مائة سوط، فقال عمر: قم فاستقد منه، فقام إليه عمرو بن العاص فقال له: يا أمير المؤمنين، إنك إن تفتح هذا على عمالك كبُر عليهم، وكانت سنة يأخذ بها من بعدك، فقال عمر: ألا أُقِيده منه وقد رأيتُ رسولَ الله يقيد من نفسه؟! فقال عمرو: دعنا إذاً فلنرضه، فقال: دونكم، قال: فأرضوه بأن اشتريتْ منه بمائتي دينار، كل سوط بدينارين" ( الخراج: لأبي يوسف/129).
18- أدرك ابن تيمية مبكراً أن قيادة الناس انتقلت بعد وفاة النبي من يد الفرد المعصوم، إلى يد الأمة المعصومة، في رده على الشيعة، بقوله:" عصمة الأمة تغني عن عصمة الأئمة، لأنها هي الحافظة للشرع، (منهاج السنة: 6/467)، ولهذا روي عن عطاء بن يسار عن عبد الله ابن مسعود عن النبي ص قال: " سيكون أمراء من بعدي يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، لا إيمان بعده" (صحيح ابن حبان: 1/403- صححه الألباني)، وحديث: " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب" (مسند أحمد: 1/208 صحيح-وأبو داود: 6/394- صحيح)، وحديث: " إن الله لا يقدس أمة لا يأخذ الضعيف حقه من القويِّ وهو غيرُ متعتع" (صحيح الجامع الصغير: 1/379 الألباني)، وقال رسول الله ص: " إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة" (البخاري: 4/85)، وهذا الاصطلاح له مدلول قدسية عظيم، في النظام الإسلامي السياسي، لأنه عطاء الله للأمة، لأن حقوق الأمة هي حقوق الله، تعظيماً لحرمتها، والحاكم مستأمن عليها لا مالك لها، قال النبي: " ما أعطيكم ولا أمنعكم، إنما أنا قاسمٌ أضع حيث أُمِرتُ" (البخاري)، وكتب ابن الجوزي: " أكثر السلاطين يُحصِّلون الأموال من وجوه رديئة، وينفقونها في وجوه لا تصلح، وكأنهم تملكوها، وليست مال الله" (صيد الخاطر: 402)، ودخل التابعي اليمني الزاهد" أبا مسلم الخولاني" على معاوية رضي الله عنه قال: السلام عليك أيها الأجير...فوعظه وحثه على العدل" (سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/13).
19- ويؤكد ما سبق حديث: " ما من والٍ يلي رعيةً من المسلمين، فيموت وهو غاشٌ لهم، إلا حرَّم الله عليه الجنة" (البخاري)، وفي رواية: " ثم لا يجهدُ لهم وينصح"، وقال صلى الله عليه وسلـم: " ستكون بعدي أمراءُ من صدَّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولستُ منه، وليس بوارد عليَّ الحوض..." (النسائي: 7/160 صححه الألباني)، وعن خباب بن الأرت قال: " خرج علينا رسول الله فقال: اسمعوا فقلنا: سمعنا، - مرتين- فقال: إنه سيكون عليكم أمراء، فلا تعينوهم على ظلمهم" (مسند أحمد: صححه الأرنؤوط)، وقال أناس لابن عمر: " إنا ندخل على سلطاننا، فنقول لهم خلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، قال: كنا نعدها نفاقاً" (البخاري: 9/71)، وكان النبي يأخذ البيعة والعهد من أصحابه على السمع والطاعة، ويلقنهم الاستثناء فيها، لئلا تكون مطلقة، بقوله: " فيما استطعتم" (البخاري)، ويلقن النساء المبايعات مثل ذلك، كما أخبرت أميمة بنت رقيقة، فقال لنا: "فيما استطعْتُنَّ وأطقْتُنَّ، قلتُ: الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا" (ابن ماجة: 4/128-صححه الأرنؤوط)، وذكَّرَ أبو مريم الأزدي معاوية حين دخل عليه فقال: " سمعت رسول الله يقول: " من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخَلَّتهم وفقرهم، احتجب الله عنه دون حاجته وخَلَّته وفقره، قال: فجعل [معاوية] رجلاً على حوائج الناس" (أبو داود: 5/570 صححه الأرناؤوط)، وشدد عمر على ولاته لما سمع بأن أميره سعد بن أبي وقاص بنى قصراً جعل له باب دون الناس؛ فأرسل إليه من يحرق الباب، واعتذر سعد" (مسند أحمد: 1/558)، ولم يكن لرسول الله بوَّاب ولا حاجب.
20- ويرى ابن حزم أن أبي بكر لم يقتل مرتداً غير ممتنع تاب أو لم يتب، وإنما قاتل المرتد المحارب " (المحلى: ابن حزم 12/116 )، أما حديث: " من بدل دينه فاقتلوه" (البخاري: 4/61)، من العام المخصص، بحديث: " التارك لدينه المفارق للجماعة" (مسلم: 3/1302)، ولهذا قال الفقيه الحنفي الكاساني: " والقتل ليس من لوازم الردة عندنا، لأن المرتدة لا تقتل بلا خلاف بين أصحابنا" (بدائع الصنائع للكاساني: 15/420)، وهذا ما يرجح القول بعدم قتل المرتد المسالم، إبقاءً على فاعلية النص الرئيس في القرآن: لا إكراه في الدين)، وفسر ابن عباس قوله تعالى: ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم، أو من تحت أرجلكم) 65 / الأنعام ، " أي الأئمة المفسدون، والرعاع المقربون منهم، بسبب الطغيان.
21- كان العرب على أخلاق الفطرة، والبداوة السياسية والدينية، بحيث يفتخرون بأن الجبابرة تسجد لصبيانهم، فقال عمرو بن كلثوم: إذا ما الملك سام الناس خسفاً.........أبينا أن نُقِرَّ الذلَّ فيــــنا.
وكان العرب بدو وحضر يأنفون التسلط عليهم، وتأسست مملكة الحيرة في العراق – ومملكة الغساسنة في الشام – ومملكة سبأ في اليمن – وإمارة كندة في نجد، وهذه الممالك كانت تابعة لفارس أو الروم أو الأحباش، تحقق من ورائها أغراضاً خاصة لحماية حدودها من فوضى العرب وتقلبات أمزجتهم، ولما قُتِل ملك كندة، حاول ولده الشاعر امرؤ القيس أن يستعيد ملك أبيه دون جدوى، لأن العرب لا تقر بالسيادة عليهم؛ التي يعتبرونها سيادة كل فرد فيهم صغيراً أم كبيراً، وهذا أعلى درجة في الشعور بالحرية، وحاول عثمان بن الحويرث الشاعر القرشي الداهية، أن يقنع ملك الروم القيصر، أن ينصبه ملكاً على أهل مكة قبل الإسلام، فأقر له ذلك، ولما أخبر قومه " قريش" بذلك وخوَّفهم من قطع تجارتهم في بلاده الشام، كادوا أن يقبلوا منه ذلك على غير عادتهم في الأنفة من أن يملكهم أحد، فصاح ابن عمه الأسود بن المطلب على مسمع قومه: يا لعباد الله! ملك بتهامة؟! فانحاشوا عنه وانفضت قريش عن هذا الأمر فلم يتم، والسبب في ذلك كما نعلم ثقافة العرب حينها المبنية على الاعتزاز بالنفس، والحرية الفردية، وعدم قبول سيادة أحد على أحد، إلا في المكارم، وهذه هي الفطرة والبداوة الأصلية للعرب.
22- حاول ابن مروان أن يأخذ البيعة ليزيد بن معاوية من أهل المدينة، بإشارة من معاوية رضي الله عنه، وقال عن ذلك: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: " سنة هرقل وقيصر" ( صححه الألباني)، وزاد ابن رجب الحنبلي الأمر توضيحاً فقال: " الإمامة العظمى لا تستحق بالنسب، ولهذا أنكر الصحابة على من بايع لولده" (فتح الباري شرح صحيح البخاري)، وفي رواية أبي بكرة عن رؤيا رجل لرسول الله ميزان دلي من السماء، فرجح بالرسول ثم بأبي بكر ثم بعمر، فاستاء النبي للرؤيا وقال: " خلافة نبوة، ثم يؤتي الله المُلك من يشاء" (مسند أحمد: 34/94 حسَّنه الأرناؤوط).
قال المثنى بن حارثة الشيباني حين عرض النبي عليه الإسلام في مكة يوم حجه (الجاهلي)، فقال: إني أرى هذا الأمر الذي تدعو إليه مما تكرهه الملوك،...فإن شئت أن نجيرك إلا من الملوك فعلنا" (دلائل النبوة: للقاضي عبد الجبار)، - [قيل أن النبي صلى الله عليه وسلـم قال: " إن هذا الأمر لا يحمله إلا من أحاط به من جميع جوانبه] م. ن، ولقد تنبأ رسول الله بعدم استمرار العرب على ما تركهم عليه من شورى في الحكم، في قوله على مسمع سفينة الصحابي: " الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم مُلكٌ بعد ذلك، ...قال سعيد بن جهمان: " فقلت له: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم؟ قال: كذبوا بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شرِّ الملوك" (الترمذي: 4/73 صححه الألباني).
23- ويرى ابن خلدون: أن الجور يكون في الحكم الملكي غالباً، وأن العدل المحض إنما هو في الخلافة الشرعية، ...وكان قرع الطبول والنفخ في الأبواق [مستنكراً أول الإسلام] حتى انقلبت الخلافة مُلكاً وخالطوا الموالي من الفرس والروم فاستحسنوه" (المقدمة: 320). وكان يراه كما هو عند ابن تيمية ثلاثة: خليفة أمير- خليفة مَلِك – مَلِك، قال ابن تيمية: " الفرق بين الإمام، وبين من ينبغي أن يكون هو الإمام؛ لا يخفى إلا على الطغام" (منهاج السنة: 1/556)، وفي قصة مهاجري الحبشة وعدم سجودهم لملكها، وتحريض عمرو وعمارة إياه عليهم بهذا، فقال جعفر: لا نسجد إلا لله، مع أن عمرو وعمارة العربيان سجدوا له مسايرة ومجاراة، وهذا له دلالته العميقة على صلابة القيم الإسلامية، مهما كانت الظروف.
لم ينشأ الإسلام من فراغ، بل هو تتمة لما فعله عشرات الأنبياء قبله، فجاء للإكمال والإتمام، حتى أنه لم يناقض كل ما عند العرب من قيم صالحة، فقال النبي: " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" (مسند أحمد: 14/513 صحيح)، وقال: " مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، ....فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" (البخاري ومسلم)، ولقد امتدح النبي عدالة النجاشي ملك الحبشة، وامتدح حلف الفضول في الجاهلية، وقال: " لو دعيت به في الإسلام لأجبت" (البدر المنير والشرح الكبير: 7/325)، ولهذا تحاكم القيم الإنسانية كافة إلى قيم الإسلام، أو عدم المعارضة لها.
24- عندما تحول الحكم في الدولة الإسلامية من شورى وراشدية، إلى ملك وكسروية، كان بتأثير توسع الفتوحات ونقل تراث الأمم وترجمته إلى العربية، ومنها تراث الدولة الساسانية الفارسية، فعن الصولي: حدثنا شادي المغني قال: كنت عند الوزير العباسي القاسم بن عبيد الله وهو يشرب، فقرأ عليه ابن فراس من عهد أردشير فأعجبه، فقال له ابن فراس: هذا والله – وأومأ إليَّ- أحسن من بقرة هؤلاء وآل عمرانهم، وجعلا يتضاحكان" (الذهبي: سير أعلام النبلاء)، مع أن دستور روما كان أقرب إلى الإسلام من عهد أردشير، وفيه: " كل من يحاول أن ينصِّب نفسه ملكاً يجوز قتله من غير محاكمة، وكل من يحاول أن يتولى منصباً عاماً من غير رضاء الشعب يعاقب بالإعدام" (قصة الحضارة: وِل ديورانت: 9/35)، وهذا يذكرنا بقول عمر: " من تأمَّر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه" (رواه: ابن سعد بسند صحيح: ابن حجر: فتح الباري: 7/68).
وأقر مؤلف كتاب التاج – المنسوب إلى الجاحظ- اعتماد المسلمين على التراث الساساني، فقال: " وعنهم أخذنا قوانين المُلْك والمملكة، وترتيب الخاصة والعامة، وسياسة الرعية" (التاج في أخلاق الملوك المنسوب للجاحظ)، ويُرجِع المسعودي هذا التأثير إلى عهد هشام بن عبد الملك بن مروان (71-125هـ)، حين تُرجِم له كتاباً فارسياً فيه تاريخ ملوكهم، وعوائد حكمهم، لمدة أربعمائة وثلاث وثلاثون سنة، ونقل إلى العربية سنة 113هـ، وأول ملوكهم فيه أردشير" (التنبيه والإشراف للمسعودي: 92)، واعترف المسعودي بغزارة ما نقله من الحضارة الفارسية في شتى ميادين الحياة الدينية والدنيوية، في الجزء السابع من كتابه مروج الذهب ومعادن الجوهر" وأخطر ما في تراثهم الذي اخترق الثقافة الإسلامية في الصميم، هو عهد أردشير الذي قارنه أحد وزراء العباسيين وفضله على سورة البقرة وآل عمران.
25- لكن هذا التأثر لم يستطع أن يزيل المنهج القرآني والنبوي والراشدي من عقول أبناء الأمة كافة، علماء وغير علماء، وبقي في ضميرهم وثقافتهم النظرية على الأقل، في حنين دائم لعودة الشورى والراشدية وتطبيقها على أرض الواقع، نقل عن أبي حامد الغزالي قوله: " السلطان الظالم عليه أن يُكفَّ عن ولايته، وهو إما معزول، أو واجب العزل... وهو على التحقيق ليس بسلطان" ( الإحياء: 2/140)، كما نقل عنه العكس: " السلطان الظالم الجاهل مهما ساعدته الشوكة، وعسُر خلعه، وكان في الاستبدال به فتنة ثائرة لا تطاق، وجب تركه ووجبت الطاعة له" (الإحياء)، وعلل ذلك بقوله: " الضرورات تبيح المحظورات، وقال ابن حجر: " الخروج بالسيف على أئمة الجور...مذهب للسلف قديمٌ، لكن استقر الأمر على ترك ذلك، لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه" (تهذيب التهذيب/ لابن حجر: 2/288)، وكان ابن تيمية أعمق فهما للمسألة حين قال: " إن الظالم يَظلمُ، فيُبتَلَى الناس بفتنة تُصيبُ من لم يظلم، فيعجز عن ردِّها حينئذ، بخلاف ما لو مُنع الظالم ابتداءً، فإنه يزول سبب الفتنة" (منهاج السنة: 3/323).
26- الشورى تتصدر قيم البناء السياسي، والشريعة تتصدر قيم الأداء السياسي، بدون توفر هذين الشرطين، لا يمكن أن نتحدث عن دولة إسلامية وهوية إسلامية، ولتحصين هوية الدولة ومرجعيتها، لا بد من النص في الدستور على منع سنِّ أي قانون يناقض الإسلام، أو الإسلام المصدر الوحيد للتشريع، أو المصدر الأساسي، اليوم أكثر من أي وقت مضى يزداد وعي العرب والمسلمين بضرورة التشبث بالقيم السياسية الإسلامية النصية، وفي أعماق ضميرهم الفردي والجمعي النموذج التطبيقي النبوي والراشدي لها، وقد جرب المتنكرون لها – كمال أتاتورك ، والحبيب بورقيبة – نماذج دولة علمانية لم تكن سوى تطرف علماني قهري فشل فشلاً ذريعاً، فخابت جهودهما في هذا السبيل، وهذا ما أكده برهان غليون كذلك، من استحالة الدولة العلمانية في العالم الإسلامي، وأكده الكاتب التركي " أحمد كورو" من أن الديمقراطية في تركيا أدت إلى الرجوع إلى الأصول وإلى الإسلام، وأن العلمانية في بلاد الإسلام لا تقف على رجليها دون قهر عسكري، أو وصاية استعمارية خارجية، والقرآن كتاب واقعي لا مكان فيه لأبطال الملاحم...لم تستطع المسيحية أن تتقبل فكرة أن يظل الإنسان الكامل إنساناً، ولكن محمداً ظلَّ إنساناً فقط "علي عزت بيغوفيتش" الإسلام بين الشرق والغرب.
27- يخبرنا الكواكبي: يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة البديل المناسب، ومعرفة الغاية شرط للقيام بالعمل، ومعرفة الطريق الموصل إليه شرط نجاحه، ولا يكفي المعرفة الاجمالية، فلا بد من التفصيل والخطط الواضحة، التي يوافق عليها الغالبية العظمى من الناس، وإفهام العوام ما ينبغي معرفته من ذلك، لأنهم القاعدة العريضة التي تساند الثورة، ولو استغرق ذلك سنوات وسنوات، ولا يكفي أن تعرفه وتعيه النخبة فقط، وإلا كان الفشل حليف كل المراحل، ولا ينبغي إثارة المستبد قبل نضج الظروف المواتية، أو يستغلها عدو خارجي فيسهل عليه احتلال البلاد وأسرها من جديد، والخشية كبيرة من أعداء الأمة – أمريكا والغرب وروسيا- الدخول على خط الثورات لإبادة أطرافها جميعاً لصالح مصالحهم الخاصة.
ذكر "حسن حنفي": أن جل رواد الفكر العلماني في العالم العربي مسيحيون من نصارى الشام، الذين تربوا في مدارس إرساليات تبشيرية وأجنبية، يدعون إلى فصل الدين عن الدولة، لكن حنفي يؤكد أن طبيعة الحكم الإسلامي علماني، ولهذا لا يحتاج إلى علمانية مستوردة من الغرب، طالما أن قيمه تحقق مطالب العلمانيين في التقدم والحرية، مع المحافظة على الخصوصية الإسلامية القيمية، التي تحفظ للمسلمين هويتهم المنشودة، وبهذا يمكننا أن نحقق مطالب الفريقين دون إلغاء أحدهما الآخر، وذلك بتطبيق الشريعة الإسلامية، ومقاصدها الكلية التي تحفظ حقوق الإنسان وكرامته.
وأوضح الجابري أن العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة غير ذات جدوى في الإسلام، لأنه لا توجد فيه كنيسة ولا رجال دين بالمعنى الغربي والمسيحي، لذا فإن المسألة العلمانية في عالمنا العربي مزيفة، لأصالة القيم السياسية في القرآن من العهد المكي الذي نزلت فيه سورة الشورى، والشريعة مليئة بالنصوص السياسية المؤسسة لقيم بناء الدولة في القرآن والسنة، ولكن إجراءات التطبيق هي التي لم تحددها الشريعة، لأنها من مهام الناس والمجتهدين حسب درجة التطور الاجتماعي الذي يصلون إليه في مراحل تاريخهم واجتماعهم البشري والإنساني، ويرى الجابري التخلص من شعار العلمانية لدينا، لما يحمله من دلالات سلبية في العقل الجمعي الإسلامي، فضلاً عن كونه محمَّل بدلالات غربية ليست على مقاس ثقافتنا وبيئتنا وظروف بلادنا وهويتنا.
28- قال رشيد رضا: " لم يوجد في أهل الحل والعقد من الرؤساء المسلمين من اهتدى إلى وضع نظام شرعي للخلافة بالمعنى الدستوري المعاصر، كما وضعوا المطولات من الكتب الشرعية في الأحكام، ولو وضعوا كتاباً معززاً بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة للشورى والخلافة لما وقعنا فيما وقعنا فيه اليوم" (الخلافة: لرشيد رضا/148)، وقال ستيفن سميث: " حاول المؤسسون الأميركيون أن يحققوا بالأفعال ما حاول أفلاطون تحقيقه قبلهم بألفي عام بالأقوال" (مصدر إنجليزي).
وكلما زادت مساحة الحرية في بلد كلما زاد ذكر الإسلام في دستورها، واختزال الإسلام في عدد من مواد الدساتير يعتبر إخلالاً مخلاً بقيم الإسلام السياسية وعظمتها، والسلفيون المعادون للديمقراطية، ليس لديهم فقه دستوري يميزون به بين القيم الدستورية الكبرى التي تكفل للأمة ممارسة حقها في تطبيق الإسلام، فتقع في فخ النكران الذي يحرمها الحق في الدفاع عن الحق الذي هو الإسلام بكليته، دون خلط بين الفقه (القوانين التفصيلية) وبين الدستور( المبادئ الكلية)، وهذا ما أدركه ابن القيم بقوله: السياسة نوعان: سياسة ظالمة تحرمها الشريعة، وسياسة عادلة تؤيدها الشريعة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها...وأن أي طريق استُخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، وليست مخالفة له" (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: 1/31)، "والمسألة ببساطة هي أن مزيداً من الديمقراطية؛ يعني مزيداً من الإسلام" نوح فيلدمان، ورومان مارتينيز " السياسة الدستورية".
29- - تعانق الديني والمدني: في فكر كلٍ من: [محمد إقبال، ومالك بن نبي، ومحمد أسد، وعلي عزت بيغوفتش]، بل أدركه ( جان جاك روسو) الفرنسي و (غوستاف لوبون )، وعبر علي عزت عن ذلك بقوله: " يؤثر الدين في العالم فقط عندما يصبح هو نفسه دنيوياً؛ من خلال دعوته للتوحيد بين العقيدة والسياسة" لأن رسالة الإسلام خلق إنسان متسق مع روحه وبدنه، وأعطى محمدٌ صلى الله عليه وسلـم المثل الأعلى للإنسان والجندي في الوقت نفسه، ولهذا الحكم على قيمة دعوة النبي ورسالته، في نوع الرجولة التي ابتدعها..." (تجديد الفكر الديني في الإسلام: 147).
لا يكفي استيراد الفكر الشوري من الآخرين، بل لا بد من غرسه في بيئتنا وتربتنا لتحويله إلى أشجار مثمرة، فكم من بذرة وضعت في تربة غير صالحة أو لم تروى بماء مناسب تذبل من جديد وتموت، ويمكننا أن نضرب لهذا مثل زراعة الأعضاء في الأجسام القابلة، وإلا فشلت عملية الزرع، قال محمد إقبال: " لا يمكن لفكرة ما أن تستحوذ على روح شعب من الشعوب، ما لم تكن – على نحو ما – مِلكاً خاصاً لهذا الشعب" (تطور الفكر الفلسفي في إيران: إقبال/81)، وتعتبر فكرة الإجماع الفقهي وسيلة لتحويلها إلى إجماع شعبي للأمة في اختيار الطريق السديد للنهضة الإسلامية الحديثة، كما يمكن تحويل مفهوم الاجتهاد من عمل الفقهاء، إلى عمل جميع المختصين، كلٌ في اختصاصه المفيد لجميع الأمة، ولأسلمة دولنا لا ينبغي تكييف الإسلام مع الديمقراطية، بل تكييف الديمقراطية مع الإسلام، وليس البحث عن مكانة للشريعة في الدستور، بل البحث عن مكانة الدستور في الشريعة، بالبحث عن القيم السياسية في القرآن والسنة، وترجمتها إلى مواد دستورية، والبحث عن شكل الإجراءات الإدارية الخادمة لها.
30- أدرك الملك البريطاني وليام وزوجته ماري، عبر الثورات الأوربية، فأقرا وثيقة الحقوق الدستورية التي تنص على: حرية التعبير+ العدل في التقاضي+ تمثيل الشعب ببرلمان منتخب+ منع الملك من سن قانون أو ضريبة لا يقرها البرلمان، فانتقلت بريطانيا من الملكية المطلقة إلى الملكية الدستورية، فحقنت الدماء، وحل الاستقرار، وربح الحاكم والمحكوم، وهذا فيه عبرة للحاضر والمستقبل.
وأخطأ السلطان عبد الحميد الثاني حينما عبر عن ضرر الديمقراطية في شعبه فقال: " الأتراك الشباب قوم خياليون، فإعلان الدستور، وتشكيل حكومة نيابية في بلادنا؛ يعني حدوث الفوضى، وانقسام الناس شيَعاً وأحزاباً يقاتل بعضها بعضاً، ويؤدي بالدولة إلى خراب" (مذكراتي السياسية/ للسلطان عبد الحميد: 105)، فأدى إلى سقوط حكمه نتيجة الاستبداد، فركب الفاسدون وأعداء الديمقراطية الموجة، بدلاً من أن يركبها هو وبشكل فيه صدق وإخلاص، والعهد النبوي والراشدي والمنهج القرآني هو الدليل والمرجع، ثراء النصوص الإسلامية في مجال القيم السياسية، وفقر تاريخنا في التطبيق والإجراءات العملية لها، يدفعنا اليوم إلى إثبات المقولة الأولى بالعودة إلى المرجعيات النصية، والانفتاح على غيرنا ممن له باع طويل في تطبيقها عبر التاريخ والحاضر، خاصة إذا كانت تجارب الأمم في هذا المجال ثرية، ويمكننا أن نفصل بين مجال الحريات السياسية في الغرب التي لا تتعارض مع قيمنا، وبين الحريات الاجتماعية التي لا تتوافق مع منظومتنا الأخلاقية فيها، فنستثمر الأولى ونعدل في الثانية أو نرفضها.
31- ومن المفارقات لدى العلمانيين التباكي على حقوق الأقليات، ومساندة العسكر، ولا يتباكون على حقوق الأكثريات، وأنهم يكرهون الإسلام أكثر مما يحبون الحرية والمساواة، وهذه ازدواجية في المعايير وظلم غير مبرر، حتى لدى الغربيين مدعي الديمقراطية، إذا كانت لغير المسلمين شجعوا عليها، وإذا كانت للمسلمين حاربوها، قال يزيد الصايغ: " لن تولد الجمهورية الثانية في مصر إلا عندما تفكَّك جمهورية الضباط" (فوق الدولة: جمهورية الضباط في مصر: 29)، وكتب " لوتواك" في صحيفة نيويورك تايمز يوم 24/أغسطس/ 2013م، فيما يتعلق بالثورة السورية الحديثة، فقال: " سلحوا المتمردين كلما بدا أن الأسد سيصعد، وأوقفوا عنهم الدعم، كلما بدا أنهم سينتصرون عليه"، وأخطر مسار يحل بالثورات العربية هو مسار اليأس والقنوط من النصر والفرج والتغيير، بحلول الثقافة الجبرية والاستسلامية، وتغيير مفهومها إلى ما قاله مانديلا: " الثورة ليست مجرد ضغط على الزناد، ولكنها حركة تهدف إلى إقامة مجتمع العدل والإنصاف" (كتاب: رحلتي من أجل الحرية/ 294).
نتائج هذه الدراسة:
جمعت هذه الدراسة بين المدرسة التأصيلية، والمدرسة التاريخية، والمدرسة الإجرائية، ونتج عنها:
1- البرهنة على ثراء توفر القيم السياسية في نصوص الوحي والشريعة الإسلامية.
2- تعرض تطبيق القيم السياسية الإسلامية إلى تأثرها بالفراغ السياسي العربي قبل الإسلام، والحضارات الوثنية الأمبراطورية المجاورة في فارس والروم.
3-لا زال الضمير الإسلامي يتطلع إلى التطبيق النزيه للقيم السياسية كما في العهد النبوي والراشدي.
4-استئناف المنهج الراشدي في الحكم يوجب الخروج من فقه الضرورات وهواجس الفتنة، إلى ترجمة القيم السياسية عملياً ونظرياً بشكل إجرائي وإداري منظم يناسب قيم الإسلام والعصر.
5- حكمت هذه الدراسة أربع مسارات متقابلة ثنائية: (القيم، والإجراءات) – (الوحدة، والشرعية) – (الفوضى، أو الطغيان)، - (الذات والهوية، والآخر المخالف)، ويضاف إليها ثنائية: (الفتنة، والثورة) – (والدين، والدولة )– (والإمبراطورية، والدولة الحديثة).
انتهى التلخيص.