منتدى دار النجاح

الإشعارات
مسح الكل

غياث العرب من استمرار الوهن والجرب الجزء الأول

16 مشاركات
1 الأعضاء
0 Reactions
14.3 K مشاهدة
محمد نبيل كاظم
المشاركات: 819
Admin
بداية الموضوع
(@mohammed-nabil-kazim)
عضو
انضم: مند 5 سنوات
بسم الله الرحمن الرحيم
خلاصة خمسة عشر كتاباً في كتاب:
(1):خلاصة كتاب" الأزمة الدستورية في العالم الإسلامي" د. محمد مختار الشنقيطي.

1- قال صلى الله عليه وسلـم: " أول عرى الإسلام نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة". أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في المعجم الكبير، وابن حبان في صحيحه بإسناد جيد عن أبي أمامة الباهلي.
2- قال محمد إقبال: في رسالته إلى المستشرق الإنكليزي نيكلسون عام (1921م): " ما من ريب أن المسلمين نجحوا في بناء إمبراطورية عظيمة، لكنهم – وهم يفعلون ذلك- أدخلوا الروح الوثنية إلى قيمهم السياسية، وأضاعوا بعض الإمكانات العظيمة الكامنة في دينهم"، وأضاف: " إنني أعتبر من الخسارة أن تقدم الإسلام كإيمان فاتح، أدى إلى تجميد نمو أجنة بذور التنظيم الاقتصادي والسياسي للمجتمع التي أجدها مبثوثة في القرآن والسنة النبوية" .
3- وما ذكره الفقيه الدستوري السنهوري، من إحجام الفقهاء عن الخوض في مسائل الخلافة والقانون العام فأبقاهما في حالة طفولة، وهذا نفس تعبير إقبال عنه بالأجنة، وفسره ابن خلدون قريباً من هذا المعنى، بالقول" كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان، لا تزيد عليها، لأن عصابة الدولة القائمين بها لا بد من توزيعهم على الممالك والثغور التي تصير إليهم،..."فإذا توزعت العصائب على الثغور والممالك، فلا بد من نفاد عددها ، وهذا ما لاحظه كثير من المفكرين العرب وغير العرب، من أن الفتوحات الإسلامية كانت سريعة للغاية، بما جعل الأمة تتجاوز ذاتها لحظة ميلادها، حيث انتقلت بالإسلام من أمة عربية إلى أمة إسلامية مترامية الأطراف، لم يقدر العرب على إستيعابها، خاصة أنهم فكروا بالفتح أكثر مما فكروا بالإسلام ونظمه، فآثروا كرسي الحكم، على مبادئ الحكم الشرعية.
4- بيَّن مالك ابن نبي أن مرحلة الدولة النبوية والخلافة الراشدة، كانت مرحلة تخلق دستوري، طبقت عملياً القيم القرآنية في الحكم التشاوري الراشد، إلى أن وقعت الفتنة الكبرى، وكانت معركة صفين حداً فاصلاً بين الراشدية والملكية، وهي محطة انكسار في منحى الصعود السريع في انتشار الإسلام وتمدده، وأن الانتفاضات والثورات الحاصلة بعدها كانت صدى لعدم قبول الضمير الإسلامي لهذا الانكسار وهذا التغير الحاصل، وإن لم تنجح في إرجاع الأمور إلى نصابها الراشدي، فحلت الثقافة الكسروية في طاعة الحاكم المطلقة، مع إنكار القلب على الدوام هذه الطاعة العمياء.
5- أدرك " جان جاك روسو" التناغم في مصطلح التوحيد، لا بالمعنى الكلامي، بل بالمعنى اللغوي الشامل لوحدة الخليقة ووحدة الحياة تحت سلطان الخالق، وهذا ما أدركه " مالك بن نبي" في استعداد العالم الإسلامي أن يكون مواطنه (مواطن عالمي) بسبب توفر الشروط النفسية للإنسان الجديد لديه في العالم المعاصر، شرط أن تحل مشكلة الأزمة الدستورية في بلادنا الإسلامية، وسيؤدي ذلك إلى التصالح مع الذات والتصالح مع البشرية قاطبة.
6- وذكر مؤرخ الملل والنحل الشهرستاني، فقال: : " وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان"، وروى جرير بن عبد الله حواراً بينه وبين ذي عمرو (أحد حكماء اليمن) فقال: " ...إني مخبرك خبراً: إنكم معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير تأمرتم في آخر، فإذا كانت بالسيف كانوا ملوكاً، يغضبون غضب الملوك، ويرضون رضا الملوك". وفي رواية: تآمرتم، وشرحهما السيوطي فقال:" بالمد: تشاورتم، وبالهمزة: أقمتم أميراً بينكم على رضا".
7- التأمر من غير إمرة، استثناءً للضرورة، وجد في قصة غزوة مؤتة، بعد مقتل قادتها الثلاثة، وردت عند البخاري عن أنس، فيها: " ثم أخذها –أي الراية- خالد بن الوليد" عن غير إمرة"، ففتح الله عليه"، ومن فقه البخاري أن عنون لها بعنوان (باب من تأمر في الحرب من غير إمرة إذا خاف العدو)، وهذه الحالة الاستثنائية لها شروطها وهي مقررة في جميع القوانين الدستورية في العالم، حتى يزول الخطر الداهم، لكن كثير من فقهائنا – مع الأسف خلطوا بين الحالتين- فجعلوا الرخصة؛ عزيمة، والفرع، أصل، والاستثناء، حالة دائمة، فمنحوا السلطة غير الشرعية، حقوق السلطة الشرعية.
8- قال ابن تيمية في السياسة الشرعية: " إرادة العلو على الخلق ظلم، لأن الناس من جنس واحد، فإرادة الإنسان أن يكون هو الأعلى ونظيره تحته ظلم".، وقال قدامة بن جعفر، في كتاب الخراج وصناعة الكتابة: " الرئاسة إنما هي رئاسة عفو الطاعة، لا رئاسة الاستكراه والقهر، والمملكة مملكة الرضا والمحبة، لا مملكة التسلط والقهر".، و ذكر أرسطو منذ 2300سنة، أن الأفضل للدولة أن يحكمها قانون جيد، من أن يحكمها رجل جيد.
9- الحديث صريح في مسألة الحكم: " لا قَيْلَ ولا مَلِك إلا الله عز وجل" في مسند أحمد 32/199، قال عنه شعيب الأرنؤوط وآخرون "صحيح"، وفي حديث آخر:" أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثُه...رجل كان يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله" رواه مسلم، 3/1688، وقال: " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده" ولا هنا ناهية وليست نافية، لأن القيصرية استمرت قروناً بعد العهد النبوي، ولهذا أحب الصحابة لقب أمير وكرهوا لقب ملك، وذكر أبو حامد الغزالي: " أن قيصر ملك الروم أرسل رسولاً إلى عمر لينظر أحواله، فلما دخل المدينة سأل أهلها وقال: أين ملككم؟ قالوا ليس لنا ملك، بل لنا أمير" في كتاب التبر المسبوك في نصيحة الملوك، قال ألبرت أنشتاين: " الدولة يجب أن تكون خادمة لنا، لا أن نكون نحن عبيداً لها" (ألبرت أنشتاين، أفكار وآراء، ترجمة رمسيس شحاتة).
10- ولو دققنا فيما شجر بين الناس بعد انتهاء المرحلة الراشدية، فأدى إلى ما عرف بالتسنن والتشيع: هو المشكلة السياسية التي تكاد تكون متقاربة بين السنة والشيعة أول الأمر، لأن موضوع الخلاف بينهما هو موضوع يتعلق بالإمامة في الأصل، وهو موضوع سياسي، ولهذا ذكر " مارشال هودغسون" أن الشيعة والعثمانية كانتا مجرد موقفين من قضية الإمامة، لا انشطاراً شاملاً في صف المؤمنين، والناظر لمسألة التشيع والتسنن، يرى أنهما كانا من أعراض الأزمة الدستورية ووليدا أزمتها، ولو دقق المحقق في الأمر لوجد أن السنة حصروا الإمام في قريش، والشيعة حصروه في آل البيت، وقال الشيعة بعصمة الأئمة، وقال السنة بعدالة الصحابة، (وهي صيغة مخففة من العصمة)، وتبنى الشيعة التقية، وتبنى السنة المداراة، وهما في النهاية انتهيا إلى مداهنة الحاكم الجائر، خوفاً من سطوته، أو خوفاً على الأمة من التمزق، وهذا يجعل الفكر السني والشيعي وليدا الفعل التاريخي نفسه، والنتيجة متقاربة لديهما في النهاية، وهي قبول ما رآه السنة – على مضض- غصباً لحق الأمة، وقبل الشيعة -على مضض- ما رأوه غصباً لحق الأئمة، وهذا ما يجعل الأزمة الدستورية لديهما واحدة، ولكن بفقهين مختلفين.
11- وصف إمام الحرمين الجويني المشكلة السياسية فقال: " المسلمون هم المخاطبون – في القرآن- والإمام في التزام أحكام الإسلام كواحد من الأنام، ولكنه مستناب في تنفيذ الأحكام" في كتابه (غياث الأمم في التياث الظلم)، ولهذا رفض خيار الصحابة التوريث في الحكم، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: " جئتم بها هِرَقْلية، وفوقية تبايعون لأبنائكم! " في تاريخ دمشق، وقال ابن تيمية : " موسى جاء بالعدل، وعيسى جاء بتكميلها بالفضل، والنبي صلى الله عليه وسلـم قد جمع في شريعته بين العدل والفضل" في كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، إشارة إلى قول الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) 90/النحل، وقد عبر الماوردي عن أهمية الدولة للدين: " لما في السلطان من حراسة الدين والدنيا، والذب عنهما ودفع الأهواء منه، وحراسة التبديل فيه، وزجر من شذَّ عنه بارتداد، أو بغى فيه بعناد، أو سعى فيه بفساد....، فليس دين زال سلطانه، إلا بدلت أحكامه، وطمست أعلامه، وكان لكل زعيم فيه بدعة، ولكل عصر فيه وهاية" في كتاب (أدب الدنيا والدين)، ولهذا كان كثير من أنبياء بنو إسرائيل ملوكاً، ويدل على ذلك أحاديث كثيرة: " من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية" (ابن حبان/ صحيح)، و " من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية " (رواه مسلم)، وقد سن النبي الإمرة ولو كانوا ثلاثة: " إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم" (أبو داود)، ولم يقيده عمر بسفر فقال: " إذا كان نفر ثلاث فليؤمروا أحدهم، ذاك أمير أمَّره رسول الله " (ابن خزيمة/ صحيح).
12- قال ابن تيمية: " ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها" وقال: " إن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة" وسائر ما أوجبه الإسلام، وقال ابن جماعة: " يجب نصب إمام لحراسة الدين، وسياسة أمور المسلمين، وكف أيدي المعتدين....لأن الخلق لا تصلح أحوالهم إلا بسلطان يقوم بسياستهم، ويتجرد لحراستهم" في كتاب (تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام)، ويقر " ما يكل كوك" بعظمة ما فعله رسول الله بقوله: " حوَّل محمدٌ قبائل العرب الضعيفة إلى أمة عزيزة"، وقال هشام جعيّط: " أورث محمد أمته والعالم، ديناً مكتملاً، ودولة مهيمنة على جزيرة العرب، مترابطين بشكل لا يقبل الانفكاك (كتاب الفتنة/33.)، وذكر أبو بكر لأعرابية سألته: " ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم، قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم أولئك على الناس"( رواه: البخاري 5/41).
13- عن ابن عمر قال: دخلت على حفصة، فقالت: أعلمت أن أباك غيرُ مستخلف؟ قال: قلت: ما كان ليفعل، قالت: إنه فاعل، قال: فحلفتُ أني أكلمه في ذلك، - بعد طعنه - ...فكلمته وقلت: لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم، ثم جاءك وتركها، رأيتَ أن قد ضيَّع؟، فرعاية الناس أشد، قال: فوافقه قولي، ....إلا أنه كما فعل رسول الله غير مستخلف" (رواه: مسلم)، ولهذا رتب مجلساً من كبار أهل الحل والعقد، وهم الستة المرضيين، ليختاروا أميراً للمسلمين، فكان طريقة جديدة متطورة عن خلافة أبي بكر، وخلافته كذلك، تحقيقاً وتطويراً لمبدأ الشورى، وروى عبادة بن الصامت – فيما يتعلق ببيعة الإسلام -: " وأن نقوم، أو نقول، بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم" (البخاري)، وأكد ابن تيمية، وقبله الماوردي، قال: " مقاصد الدين صلاح الدين والدنيا كلها ترجع إلى العدل، لقوله تعالى: (وأمرتُ لأعدل بينكم..) 15/الشورى+ وقوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) 58/النساء، وسأل الصحابي سعد بن تميم النبي" قلتُ يا رسول الله ما للخليفة من بعدك؟ [من الطاعة] قال: مثل الذي لي إذا عدل في الحُكم، وقسط في القِسط، ورحِم ذا الرحم فخفَّف، فمن فعل غير ذلك، فليس مني ولستُ منه " (البخاري في التاريخ الكبير، صححه الألباني، والأرناؤوط في سنن أبي داود)، وكان من آخر ما أوصى به عمر وهو على فراش الموت: " إني قد تركتُ فيكم ثنتين لن تبرحوا بخير ما لزمتموهما: العدل في الحكم، والعدل في القَسْم" (سنن البيهقي: 10/277)، ونقل عن ابن تيمية قوله: " إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة" ، (الفتاوى:28/164) ، ومثله في حديث صحيح ( رواه ابن ماجة: 5/296).
14- أرجعت الباحثة " لويز مارلو" روح المساواة في التراث الإسلامي، إلى ما تضمنته عقيدة التوحيد من المساواة، والروح العشائرية العربية التي تأبى الهرمية السلطوية" (كتاب أجنبي)، وعن أم الحصين في حجة النبي سمعته يقول: " إن أُمِّر عليكم عبد مجدَّعٌ –حسبتها قالت أسود- يقودكم بكتاب الله تعالى، فاسمعوا له وأطيعوا" (مسلم:2/944)، وأكثر من ذلك عدم حرمان ذوي الإعاقة من المشاركة في الحكم، بدلالة: ما ذكر خليفة بن خياط أن النبي: استخلف على المدينة ابن أم مكتوم ثلاث عشرة مرة في غزواته" (تاريخ خليفة بن خياط/96)، وللمرأة نصيب في الإسلام من المسؤولية السياسية، بدلالة ثناء القرآن على ملكة سبأ، وذكره مشاورة قومها، وهذا له دلالة تشريعية، أن الحكم في الإسلام لا ينبغي أن يكون أقل من حكم وثني لسبأ، في مسألة الشورى، وهذا ما استنبطه رشيد رضا من القرآن، واستنكر القرآن شركهم، ولم يستنكر حكمهم من قبل امرأة، ودلالة أخرى في بيعة العقبة الثانية شاركت فيها امرأتان: نسيبة بنت كعب- وأسماء بنت عمرو (مسند أحمد: 25/92 حسنه الأرناؤوط)، وحضرت نسيبة بيعة الرضوان، وعن أم سلمة سمعت رسول الله يقول: " أيها الناس، فقلت للجارية: استأخري عني، قالت: إنما دعا الرجال ولم يدعُ النساء، فقلتُ: إني من الناس" (رواه: مسلم: 4/1795)، واستن عمر بهذا فكان يستشير " الشفاء بنت عبد الله" ويقدمها في الرأي ويرضاها ويفضلها، وربما ولاها شيئاً من أمر السوق" (الاستيعاب في معرفة الأصحاب)، وعدم إشراك المرأة في الوظائف العامة في التاريخ، كان لاعتبارات اجتماعية وليس لأدلة شرعية.
15- قال الماوردي: " السلطان إن لم يكن على دين، تجتمع به القلوب، حتى يرى أهله الطاعة فيه فرضاً، والتناصر عليه حتماً، لم يكن للسلطان لُبْثٌ، ولا لأيامه صفوٌ، وكان سلطان قهرٍ، ومفسدة دهرٍ" (أدب الدنيا والدين/135)، وأخبر النبي إشارة إلى اختيار أبي بكر، قال: " ويأبى الله والمؤمنون إلا أبابكر" فأرجع الاختيار إلى الأمة" المؤمنون" وذكرُ اللهِ ذِكْرُ قدر، ونبأ إعجازي، (صحيح مسلم: 4/1856)، وعن عمر: " من بايع رجلاً عن غير مشورةٍ من المسلمين، فلا يبايَع هو ولا الذي بايعه" (ابن حبان: صححه الأرناؤوط)، لأن غياب المشاورة، غياب للتمثيل السياسي: قال تعالى: (وأمرهم شورى بينهم)، ويتعذر تحقيقها مباشرة من كل الناس، ولهذا سنَّ الإسلام مبدأ النيابة عن الأمة، كما حدث في اختيار اثني عشر نقيباً في بيعة العقبة الثانية، وجعل على رأسهم نقيب النقباء " أسعد بن زرارة" ومثل كل قبيلة بعدد مكافئ، (الطبقات الكبرى: 3/620)، ووردت تسمية أخرى " العرفاء" في قصة سبي هوازن عقب معركة حنين. (البخاري: 9/71)، فأصبح هؤلاء النقباء والعرفاء، بمثابة النواب عن الأمة في اختيار الحاكم فيما بعد، وأضيف إليهم مشاورة قادة الجند، وجمهور الحجاج، عند اختيار عثمان، فتوسعت قاعدة الشورى كلما أمكن ذلك.
16- قالت حيَّة بنت أبي حيَّة: " ذكرتُ غزوةَ بعضنا بعضاً في الجاهلية، وما جاء به الإسلام من الأُلفة...فقلت: يا عبد الله! حتى متى ترى أمر الناس هذا؟ قال - أبو بكر- ما استقامت الأئمة" (سنن الدارمي: وحسنه المحقق)، وقال صلى الله عليه وسلـم: " من دعا بدعوى الجاهلية، فهو من جُثاء جهنم، قالوا يا رسول الله، وإن صام وإن صلى؟ قال: وإن صام وإن صلى، وزعم أنه مسلم" (مسند أحمد: صححه الأرناؤوط)، وفسر الزمخشري المراد بأولي الأمر منكم في القرآن: " أمراء الحق، لأن أمراء الجور، الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، لأنهم لا يؤدون أمانة، ولا يحكمون بعدل، ولا يرُدون شيئاً إلى كتاب ولا إلى سنة، إنما يتبعون شهواتهم، وهم منسلخون عن صفات الذين هم أولوا الأمر عند الله ورسوله، وأحق أسمائهم اللصوص المتغلبة" (الكشاف للزمخشري: 1/524)، ويدل على ذلك منطوق حديث: " من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطع إن استطاع" ( صحيح مسلم: 3/1472).
17- قال الإمام الشافعي: " كل من كان حول مكة من العرب، لم يكن يعرف إمارة، وكانت تأنف أن يعطي بعضها بعضاً طاعة الإمارة، فلما دانت لرسول الله بالطاعة، لم تكن ترى ذلك يصلح لغير رسول الله، فأمروا أن يطيعوا أولي الأمر الذين أمَّرهم رسول الله، لا طاعة مطلقة، بل طاعة مستثناة، فيما لهم وعليهم" ( الرسالة: 1/79)، وأكد الطاعة المشروطة الحسن البصري لوالي العراق عمر بن هبيرة، حين استفتاه بالكتاب يأتيه من السلطان فيه مخالفة لشرع الله، فقال له: اعرضه على كتاب الله، فإن وجدته موافقاً له فخذ به، وإن وجدته مخالفاً فأبعده" (بدائع السلك: 2/96)، قال الإمام الشافعي والزمخشري: " تنازع الأمراء والرعية يكون بالرد إلى الكتاب والسنة"، والإمارة مغرم وأمانة وليس مغنم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلـم: " إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه" (مسلم)، وجاء في مصنف عبد الرزاق الصنعاني، تحت عنوان: " باب القود من السلطان" عن حبيب بن صهبان قال: سمعت عمر يقول: " ظهور المسلمين حِمى الله لا تحِلُّ لأحد، إلا أن يُخرجها حدٌّ" (المصنف: 9/464)، وأقاد عمر من أمرائه، اتباعاً للنبي، فعن عطاء قال: كتب عمر إلى عماله أن يوافوه بالموسم فوافوه، فقام فقال: يا أيها الناس إني بعثت عمالي هؤلاء ولاة بالحق عليكم، ولم أستعملهم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من دمائكم، ولا من أموالكم، فمن كانت له مظلمة عند أحد منهم فليقم،...فقام رجل فقال: عاملك ضربني مائة سوط، فقال عمر: قم فاستقد منه، فقام إليه عمرو بن العاص فقال له: يا أمير المؤمنين، إنك إن تفتح هذا على عمالك كبُر عليهم، وكانت سنة يأخذ بها من بعدك، فقال عمر: ألا أُقِيده منه وقد رأيتُ رسولَ الله يقيد من نفسه؟! فقال عمرو: دعنا إذاً فلنرضه، فقال: دونكم، قال: فأرضوه بأن اشتريتْ منه بمائتي دينار، كل سوط بدينارين" ( الخراج: لأبي يوسف/129).
18- أدرك ابن تيمية مبكراً أن قيادة الناس انتقلت بعد وفاة النبي من يد الفرد المعصوم، إلى يد الأمة المعصومة، في رده على الشيعة، بقوله:" عصمة الأمة تغني عن عصمة الأئمة، لأنها هي الحافظة للشرع، (منهاج السنة: 6/467)، ولهذا روي عن عطاء بن يسار عن عبد الله ابن مسعود عن النبي ص قال: " سيكون أمراء من بعدي يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، لا إيمان بعده" (صحيح ابن حبان: 1/403- صححه الألباني)، وحديث: " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب" (مسند أحمد: 1/208 صحيح-وأبو داود: 6/394- صحيح)، وحديث: " إن الله لا يقدس أمة لا يأخذ الضعيف حقه من القويِّ وهو غيرُ متعتع" (صحيح الجامع الصغير: 1/379 الألباني)، وقال رسول الله ص: " إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة" (البخاري: 4/85)، وهذا الاصطلاح له مدلول قدسية عظيم، في النظام الإسلامي السياسي، لأنه عطاء الله للأمة، لأن حقوق الأمة هي حقوق الله، تعظيماً لحرمتها، والحاكم مستأمن عليها لا مالك لها، قال النبي: " ما أعطيكم ولا أمنعكم، إنما أنا قاسمٌ أضع حيث أُمِرتُ" (البخاري)، وكتب ابن الجوزي: " أكثر السلاطين يُحصِّلون الأموال من وجوه رديئة، وينفقونها في وجوه لا تصلح، وكأنهم تملكوها، وليست مال الله" (صيد الخاطر: 402)، ودخل التابعي اليمني الزاهد" أبا مسلم الخولاني" على معاوية رضي الله عنه قال: السلام عليك أيها الأجير...فوعظه وحثه على العدل" (سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/13).
19- ويؤكد ما سبق حديث: " ما من والٍ يلي رعيةً من المسلمين، فيموت وهو غاشٌ لهم، إلا حرَّم الله عليه الجنة" (البخاري)، وفي رواية: " ثم لا يجهدُ لهم وينصح"، وقال صلى الله عليه وسلـم: " ستكون بعدي أمراءُ من صدَّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولستُ منه، وليس بوارد عليَّ الحوض..." (النسائي: 7/160 صححه الألباني)، وعن خباب بن الأرت قال: " خرج علينا رسول الله فقال: اسمعوا فقلنا: سمعنا، - مرتين- فقال: إنه سيكون عليكم أمراء، فلا تعينوهم على ظلمهم" (مسند أحمد: صححه الأرنؤوط)، وقال أناس لابن عمر: " إنا ندخل على سلطاننا، فنقول لهم خلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، قال: كنا نعدها نفاقاً" (البخاري: 9/71)، وكان النبي يأخذ البيعة والعهد من أصحابه على السمع والطاعة، ويلقنهم الاستثناء فيها، لئلا تكون مطلقة، بقوله: " فيما استطعتم" (البخاري)، ويلقن النساء المبايعات مثل ذلك، كما أخبرت أميمة بنت رقيقة، فقال لنا: "فيما استطعْتُنَّ وأطقْتُنَّ، قلتُ: الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا" (ابن ماجة: 4/128-صححه الأرنؤوط)، وذكَّرَ أبو مريم الأزدي معاوية حين دخل عليه فقال: " سمعت رسول الله يقول: " من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخَلَّتهم وفقرهم، احتجب الله عنه دون حاجته وخَلَّته وفقره، قال: فجعل [معاوية] رجلاً على حوائج الناس" (أبو داود: 5/570 صححه الأرناؤوط)، وشدد عمر على ولاته لما سمع بأن أميره سعد بن أبي وقاص بنى قصراً جعل له باب دون الناس؛ فأرسل إليه من يحرق الباب، واعتذر سعد" (مسند أحمد: 1/558)، ولم يكن لرسول الله بوَّاب ولا حاجب.
20- ويرى ابن حزم أن أبي بكر لم يقتل مرتداً غير ممتنع تاب أو لم يتب، وإنما قاتل المرتد المحارب " (المحلى: ابن حزم 12/116 )، أما حديث: " من بدل دينه فاقتلوه" (البخاري: 4/61)، من العام المخصص، بحديث: " التارك لدينه المفارق للجماعة" (مسلم: 3/1302)، ولهذا قال الفقيه الحنفي الكاساني: " والقتل ليس من لوازم الردة عندنا، لأن المرتدة لا تقتل بلا خلاف بين أصحابنا" (بدائع الصنائع للكاساني: 15/420)، وهذا ما يرجح القول بعدم قتل المرتد المسالم، إبقاءً على فاعلية النص الرئيس في القرآن: لا إكراه في الدين)، وفسر ابن عباس قوله تعالى: ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم، أو من تحت أرجلكم) 65 / الأنعام ، " أي الأئمة المفسدون، والرعاع المقربون منهم، بسبب الطغيان.
21- كان العرب على أخلاق الفطرة، والبداوة السياسية والدينية، بحيث يفتخرون بأن الجبابرة تسجد لصبيانهم، فقال عمرو بن كلثوم: إذا ما الملك سام الناس خسفاً.........أبينا أن نُقِرَّ الذلَّ فيــــنا.
وكان العرب بدو وحضر يأنفون التسلط عليهم، وتأسست مملكة الحيرة في العراق – ومملكة الغساسنة في الشام – ومملكة سبأ في اليمن – وإمارة كندة في نجد، وهذه الممالك كانت تابعة لفارس أو الروم أو الأحباش، تحقق من ورائها أغراضاً خاصة لحماية حدودها من فوضى العرب وتقلبات أمزجتهم، ولما قُتِل ملك كندة، حاول ولده الشاعر امرؤ القيس أن يستعيد ملك أبيه دون جدوى، لأن العرب لا تقر بالسيادة عليهم؛ التي يعتبرونها سيادة كل فرد فيهم صغيراً أم كبيراً، وهذا أعلى درجة في الشعور بالحرية، وحاول عثمان بن الحويرث الشاعر القرشي الداهية، أن يقنع ملك الروم القيصر، أن ينصبه ملكاً على أهل مكة قبل الإسلام، فأقر له ذلك، ولما أخبر قومه " قريش" بذلك وخوَّفهم من قطع تجارتهم في بلاده الشام، كادوا أن يقبلوا منه ذلك على غير عادتهم في الأنفة من أن يملكهم أحد، فصاح ابن عمه الأسود بن المطلب على مسمع قومه: يا لعباد الله! ملك بتهامة؟! فانحاشوا عنه وانفضت قريش عن هذا الأمر فلم يتم، والسبب في ذلك كما نعلم ثقافة العرب حينها المبنية على الاعتزاز بالنفس، والحرية الفردية، وعدم قبول سيادة أحد على أحد، إلا في المكارم، وهذه هي الفطرة والبداوة الأصلية للعرب.
22- حاول ابن مروان أن يأخذ البيعة ليزيد بن معاوية من أهل المدينة، بإشارة من معاوية رضي الله عنه، وقال عن ذلك: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: " سنة هرقل وقيصر" ( صححه الألباني)، وزاد ابن رجب الحنبلي الأمر توضيحاً فقال: " الإمامة العظمى لا تستحق بالنسب، ولهذا أنكر الصحابة على من بايع لولده" (فتح الباري شرح صحيح البخاري)، وفي رواية أبي بكرة عن رؤيا رجل لرسول الله ميزان دلي من السماء، فرجح بالرسول ثم بأبي بكر ثم بعمر، فاستاء النبي للرؤيا وقال: " خلافة نبوة، ثم يؤتي الله المُلك من يشاء" (مسند أحمد: 34/94 حسَّنه الأرناؤوط).
قال المثنى بن حارثة الشيباني حين عرض النبي عليه الإسلام في مكة يوم حجه (الجاهلي)، فقال: إني أرى هذا الأمر الذي تدعو إليه مما تكرهه الملوك،...فإن شئت أن نجيرك إلا من الملوك فعلنا" (دلائل النبوة: للقاضي عبد الجبار)، - [قيل أن النبي صلى الله عليه وسلـم قال: " إن هذا الأمر لا يحمله إلا من أحاط به من جميع جوانبه] م. ن، ولقد تنبأ رسول الله بعدم استمرار العرب على ما تركهم عليه من شورى في الحكم، في قوله على مسمع سفينة الصحابي: " الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم مُلكٌ بعد ذلك، ...قال سعيد بن جهمان: " فقلت له: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم؟ قال: كذبوا بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شرِّ الملوك" (الترمذي: 4/73 صححه الألباني).
23- ويرى ابن خلدون: أن الجور يكون في الحكم الملكي غالباً، وأن العدل المحض إنما هو في الخلافة الشرعية، ...وكان قرع الطبول والنفخ في الأبواق [مستنكراً أول الإسلام] حتى انقلبت الخلافة مُلكاً وخالطوا الموالي من الفرس والروم فاستحسنوه" (المقدمة: 320). وكان يراه كما هو عند ابن تيمية ثلاثة: خليفة أمير- خليفة مَلِك – مَلِك، قال ابن تيمية: " الفرق بين الإمام، وبين من ينبغي أن يكون هو الإمام؛ لا يخفى إلا على الطغام" (منهاج السنة: 1/556)، وفي قصة مهاجري الحبشة وعدم سجودهم لملكها، وتحريض عمرو وعمارة إياه عليهم بهذا، فقال جعفر: لا نسجد إلا لله، مع أن عمرو وعمارة العربيان سجدوا له مسايرة ومجاراة، وهذا له دلالته العميقة على صلابة القيم الإسلامية، مهما كانت الظروف.
لم ينشأ الإسلام من فراغ، بل هو تتمة لما فعله عشرات الأنبياء قبله، فجاء للإكمال والإتمام، حتى أنه لم يناقض كل ما عند العرب من قيم صالحة، فقال النبي: " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" (مسند أحمد: 14/513 صحيح)، وقال: " مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، ....فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" (البخاري ومسلم)، ولقد امتدح النبي عدالة النجاشي ملك الحبشة، وامتدح حلف الفضول في الجاهلية، وقال: " لو دعيت به في الإسلام لأجبت" (البدر المنير والشرح الكبير: 7/325)، ولهذا تحاكم القيم الإنسانية كافة إلى قيم الإسلام، أو عدم المعارضة لها.
24- عندما تحول الحكم في الدولة الإسلامية من شورى وراشدية، إلى ملك وكسروية، كان بتأثير توسع الفتوحات ونقل تراث الأمم وترجمته إلى العربية، ومنها تراث الدولة الساسانية الفارسية، فعن الصولي: حدثنا شادي المغني قال: كنت عند الوزير العباسي القاسم بن عبيد الله وهو يشرب، فقرأ عليه ابن فراس من عهد أردشير فأعجبه، فقال له ابن فراس: هذا والله – وأومأ إليَّ- أحسن من بقرة هؤلاء وآل عمرانهم، وجعلا يتضاحكان" (الذهبي: سير أعلام النبلاء)، مع أن دستور روما كان أقرب إلى الإسلام من عهد أردشير، وفيه: " كل من يحاول أن ينصِّب نفسه ملكاً يجوز قتله من غير محاكمة، وكل من يحاول أن يتولى منصباً عاماً من غير رضاء الشعب يعاقب بالإعدام" (قصة الحضارة: وِل ديورانت: 9/35)، وهذا يذكرنا بقول عمر: " من تأمَّر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه" (رواه: ابن سعد بسند صحيح: ابن حجر: فتح الباري: 7/68).
وأقر مؤلف كتاب التاج – المنسوب إلى الجاحظ- اعتماد المسلمين على التراث الساساني، فقال: " وعنهم أخذنا قوانين المُلْك والمملكة، وترتيب الخاصة والعامة، وسياسة الرعية" (التاج في أخلاق الملوك المنسوب للجاحظ)، ويُرجِع المسعودي هذا التأثير إلى عهد هشام بن عبد الملك بن مروان (71-125هـ)، حين تُرجِم له كتاباً فارسياً فيه تاريخ ملوكهم، وعوائد حكمهم، لمدة أربعمائة وثلاث وثلاثون سنة، ونقل إلى العربية سنة 113هـ، وأول ملوكهم فيه أردشير" (التنبيه والإشراف للمسعودي: 92)، واعترف المسعودي بغزارة ما نقله من الحضارة الفارسية في شتى ميادين الحياة الدينية والدنيوية، في الجزء السابع من كتابه مروج الذهب ومعادن الجوهر" وأخطر ما في تراثهم الذي اخترق الثقافة الإسلامية في الصميم، هو عهد أردشير الذي قارنه أحد وزراء العباسيين وفضله على سورة البقرة وآل عمران.
25- لكن هذا التأثر لم يستطع أن يزيل المنهج القرآني والنبوي والراشدي من عقول أبناء الأمة كافة، علماء وغير علماء، وبقي في ضميرهم وثقافتهم النظرية على الأقل، في حنين دائم لعودة الشورى والراشدية وتطبيقها على أرض الواقع، نقل عن أبي حامد الغزالي قوله: " السلطان الظالم عليه أن يُكفَّ عن ولايته، وهو إما معزول، أو واجب العزل... وهو على التحقيق ليس بسلطان" ( الإحياء: 2/140)، كما نقل عنه العكس: " السلطان الظالم الجاهل مهما ساعدته الشوكة، وعسُر خلعه، وكان في الاستبدال به فتنة ثائرة لا تطاق، وجب تركه ووجبت الطاعة له" (الإحياء)، وعلل ذلك بقوله: " الضرورات تبيح المحظورات، وقال ابن حجر: " الخروج بالسيف على أئمة الجور...مذهب للسلف قديمٌ، لكن استقر الأمر على ترك ذلك، لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه" (تهذيب التهذيب/ لابن حجر: 2/288)، وكان ابن تيمية أعمق فهما للمسألة حين قال: " إن الظالم يَظلمُ، فيُبتَلَى الناس بفتنة تُصيبُ من لم يظلم، فيعجز عن ردِّها حينئذ، بخلاف ما لو مُنع الظالم ابتداءً، فإنه يزول سبب الفتنة" (منهاج السنة: 3/323).
26- الشورى تتصدر قيم البناء السياسي، والشريعة تتصدر قيم الأداء السياسي، بدون توفر هذين الشرطين، لا يمكن أن نتحدث عن دولة إسلامية وهوية إسلامية، ولتحصين هوية الدولة ومرجعيتها، لا بد من النص في الدستور على منع سنِّ أي قانون يناقض الإسلام، أو الإسلام المصدر الوحيد للتشريع، أو المصدر الأساسي، اليوم أكثر من أي وقت مضى يزداد وعي العرب والمسلمين بضرورة التشبث بالقيم السياسية الإسلامية النصية، وفي أعماق ضميرهم الفردي والجمعي النموذج التطبيقي النبوي والراشدي لها، وقد جرب المتنكرون لها – كمال أتاتورك ، والحبيب بورقيبة – نماذج دولة علمانية لم تكن سوى تطرف علماني قهري فشل فشلاً ذريعاً، فخابت جهودهما في هذا السبيل، وهذا ما أكده برهان غليون كذلك، من استحالة الدولة العلمانية في العالم الإسلامي، وأكده الكاتب التركي " أحمد كورو" من أن الديمقراطية في تركيا أدت إلى الرجوع إلى الأصول وإلى الإسلام، وأن العلمانية في بلاد الإسلام لا تقف على رجليها دون قهر عسكري، أو وصاية استعمارية خارجية، والقرآن كتاب واقعي لا مكان فيه لأبطال الملاحم...لم تستطع المسيحية أن تتقبل فكرة أن يظل الإنسان الكامل إنساناً، ولكن محمداً ظلَّ إنساناً فقط "علي عزت بيغوفيتش" الإسلام بين الشرق والغرب.
27- يخبرنا الكواكبي: يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة البديل المناسب، ومعرفة الغاية شرط للقيام بالعمل، ومعرفة الطريق الموصل إليه شرط نجاحه، ولا يكفي المعرفة الاجمالية، فلا بد من التفصيل والخطط الواضحة، التي يوافق عليها الغالبية العظمى من الناس، وإفهام العوام ما ينبغي معرفته من ذلك، لأنهم القاعدة العريضة التي تساند الثورة، ولو استغرق ذلك سنوات وسنوات، ولا يكفي أن تعرفه وتعيه النخبة فقط، وإلا كان الفشل حليف كل المراحل، ولا ينبغي إثارة المستبد قبل نضج الظروف المواتية، أو يستغلها عدو خارجي فيسهل عليه احتلال البلاد وأسرها من جديد، والخشية كبيرة من أعداء الأمة – أمريكا والغرب وروسيا- الدخول على خط الثورات لإبادة أطرافها جميعاً لصالح مصالحهم الخاصة.
ذكر "حسن حنفي": أن جل رواد الفكر العلماني في العالم العربي مسيحيون من نصارى الشام، الذين تربوا في مدارس إرساليات تبشيرية وأجنبية، يدعون إلى فصل الدين عن الدولة، لكن حنفي يؤكد أن طبيعة الحكم الإسلامي علماني، ولهذا لا يحتاج إلى علمانية مستوردة من الغرب، طالما أن قيمه تحقق مطالب العلمانيين في التقدم والحرية، مع المحافظة على الخصوصية الإسلامية القيمية، التي تحفظ للمسلمين هويتهم المنشودة، وبهذا يمكننا أن نحقق مطالب الفريقين دون إلغاء أحدهما الآخر، وذلك بتطبيق الشريعة الإسلامية، ومقاصدها الكلية التي تحفظ حقوق الإنسان وكرامته.
وأوضح الجابري أن العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة غير ذات جدوى في الإسلام، لأنه لا توجد فيه كنيسة ولا رجال دين بالمعنى الغربي والمسيحي، لذا فإن المسألة العلمانية في عالمنا العربي مزيفة، لأصالة القيم السياسية في القرآن من العهد المكي الذي نزلت فيه سورة الشورى، والشريعة مليئة بالنصوص السياسية المؤسسة لقيم بناء الدولة في القرآن والسنة، ولكن إجراءات التطبيق هي التي لم تحددها الشريعة، لأنها من مهام الناس والمجتهدين حسب درجة التطور الاجتماعي الذي يصلون إليه في مراحل تاريخهم واجتماعهم البشري والإنساني، ويرى الجابري التخلص من شعار العلمانية لدينا، لما يحمله من دلالات سلبية في العقل الجمعي الإسلامي، فضلاً عن كونه محمَّل بدلالات غربية ليست على مقاس ثقافتنا وبيئتنا وظروف بلادنا وهويتنا.
28- قال رشيد رضا: " لم يوجد في أهل الحل والعقد من الرؤساء المسلمين من اهتدى إلى وضع نظام شرعي للخلافة بالمعنى الدستوري المعاصر، كما وضعوا المطولات من الكتب الشرعية في الأحكام، ولو وضعوا كتاباً معززاً بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة للشورى والخلافة لما وقعنا فيما وقعنا فيه اليوم" (الخلافة: لرشيد رضا/148)، وقال ستيفن سميث: " حاول المؤسسون الأميركيون أن يحققوا بالأفعال ما حاول أفلاطون تحقيقه قبلهم بألفي عام بالأقوال" (مصدر إنجليزي).
وكلما زادت مساحة الحرية في بلد كلما زاد ذكر الإسلام في دستورها، واختزال الإسلام في عدد من مواد الدساتير يعتبر إخلالاً مخلاً بقيم الإسلام السياسية وعظمتها، والسلفيون المعادون للديمقراطية، ليس لديهم فقه دستوري يميزون به بين القيم الدستورية الكبرى التي تكفل للأمة ممارسة حقها في تطبيق الإسلام، فتقع في فخ النكران الذي يحرمها الحق في الدفاع عن الحق الذي هو الإسلام بكليته، دون خلط بين الفقه (القوانين التفصيلية) وبين الدستور( المبادئ الكلية)، وهذا ما أدركه ابن القيم بقوله: السياسة نوعان: سياسة ظالمة تحرمها الشريعة، وسياسة عادلة تؤيدها الشريعة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها...وأن أي طريق استُخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، وليست مخالفة له" (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: 1/31)، "والمسألة ببساطة هي أن مزيداً من الديمقراطية؛ يعني مزيداً من الإسلام" نوح فيلدمان، ورومان مارتينيز " السياسة الدستورية".
29- - تعانق الديني والمدني: في فكر كلٍ من: [محمد إقبال، ومالك بن نبي، ومحمد أسد، وعلي عزت بيغوفتش]، بل أدركه ( جان جاك روسو) الفرنسي و (غوستاف لوبون )، وعبر علي عزت عن ذلك بقوله: " يؤثر الدين في العالم فقط عندما يصبح هو نفسه دنيوياً؛ من خلال دعوته للتوحيد بين العقيدة والسياسة" لأن رسالة الإسلام خلق إنسان متسق مع روحه وبدنه، وأعطى محمدٌ صلى الله عليه وسلـم المثل الأعلى للإنسان والجندي في الوقت نفسه، ولهذا الحكم على قيمة دعوة النبي ورسالته، في نوع الرجولة التي ابتدعها..." (تجديد الفكر الديني في الإسلام: 147).
لا يكفي استيراد الفكر الشوري من الآخرين، بل لا بد من غرسه في بيئتنا وتربتنا لتحويله إلى أشجار مثمرة، فكم من بذرة وضعت في تربة غير صالحة أو لم تروى بماء مناسب تذبل من جديد وتموت، ويمكننا أن نضرب لهذا مثل زراعة الأعضاء في الأجسام القابلة، وإلا فشلت عملية الزرع، قال محمد إقبال: " لا يمكن لفكرة ما أن تستحوذ على روح شعب من الشعوب، ما لم تكن – على نحو ما – مِلكاً خاصاً لهذا الشعب" (تطور الفكر الفلسفي في إيران: إقبال/81)، وتعتبر فكرة الإجماع الفقهي وسيلة لتحويلها إلى إجماع شعبي للأمة في اختيار الطريق السديد للنهضة الإسلامية الحديثة، كما يمكن تحويل مفهوم الاجتهاد من عمل الفقهاء، إلى عمل جميع المختصين، كلٌ في اختصاصه المفيد لجميع الأمة، ولأسلمة دولنا لا ينبغي تكييف الإسلام مع الديمقراطية، بل تكييف الديمقراطية مع الإسلام، وليس البحث عن مكانة للشريعة في الدستور، بل البحث عن مكانة الدستور في الشريعة، بالبحث عن القيم السياسية في القرآن والسنة، وترجمتها إلى مواد دستورية، والبحث عن شكل الإجراءات الإدارية الخادمة لها.
30- أدرك الملك البريطاني وليام وزوجته ماري، عبر الثورات الأوربية، فأقرا وثيقة الحقوق الدستورية التي تنص على: حرية التعبير+ العدل في التقاضي+ تمثيل الشعب ببرلمان منتخب+ منع الملك من سن قانون أو ضريبة لا يقرها البرلمان، فانتقلت بريطانيا من الملكية المطلقة إلى الملكية الدستورية، فحقنت الدماء، وحل الاستقرار، وربح الحاكم والمحكوم، وهذا فيه عبرة للحاضر والمستقبل.
وأخطأ السلطان عبد الحميد الثاني حينما عبر عن ضرر الديمقراطية في شعبه فقال: " الأتراك الشباب قوم خياليون، فإعلان الدستور، وتشكيل حكومة نيابية في بلادنا؛ يعني حدوث الفوضى، وانقسام الناس شيَعاً وأحزاباً يقاتل بعضها بعضاً، ويؤدي بالدولة إلى خراب" (مذكراتي السياسية/ للسلطان عبد الحميد: 105)، فأدى إلى سقوط حكمه نتيجة الاستبداد، فركب الفاسدون وأعداء الديمقراطية الموجة، بدلاً من أن يركبها هو وبشكل فيه صدق وإخلاص، والعهد النبوي والراشدي والمنهج القرآني هو الدليل والمرجع، ثراء النصوص الإسلامية في مجال القيم السياسية، وفقر تاريخنا في التطبيق والإجراءات العملية لها، يدفعنا اليوم إلى إثبات المقولة الأولى بالعودة إلى المرجعيات النصية، والانفتاح على غيرنا ممن له باع طويل في تطبيقها عبر التاريخ والحاضر، خاصة إذا كانت تجارب الأمم في هذا المجال ثرية، ويمكننا أن نفصل بين مجال الحريات السياسية في الغرب التي لا تتعارض مع قيمنا، وبين الحريات الاجتماعية التي لا تتوافق مع منظومتنا الأخلاقية فيها، فنستثمر الأولى ونعدل في الثانية أو نرفضها.
31- ومن المفارقات لدى العلمانيين التباكي على حقوق الأقليات، ومساندة العسكر، ولا يتباكون على حقوق الأكثريات، وأنهم يكرهون الإسلام أكثر مما يحبون الحرية والمساواة، وهذه ازدواجية في المعايير وظلم غير مبرر، حتى لدى الغربيين مدعي الديمقراطية، إذا كانت لغير المسلمين شجعوا عليها، وإذا كانت للمسلمين حاربوها، قال يزيد الصايغ: " لن تولد الجمهورية الثانية في مصر إلا عندما تفكَّك جمهورية الضباط" (فوق الدولة: جمهورية الضباط في مصر: 29)، وكتب " لوتواك" في صحيفة نيويورك تايمز يوم 24/أغسطس/ 2013م، فيما يتعلق بالثورة السورية الحديثة، فقال: " سلحوا المتمردين كلما بدا أن الأسد سيصعد، وأوقفوا عنهم الدعم، كلما بدا أنهم سينتصرون عليه"، وأخطر مسار يحل بالثورات العربية هو مسار اليأس والقنوط من النصر والفرج والتغيير، بحلول الثقافة الجبرية والاستسلامية، وتغيير مفهومها إلى ما قاله مانديلا: " الثورة ليست مجرد ضغط على الزناد، ولكنها حركة تهدف إلى إقامة مجتمع العدل والإنصاف" (كتاب: رحلتي من أجل الحرية/ 294).
نتائج هذه الدراسة:
جمعت هذه الدراسة بين المدرسة التأصيلية، والمدرسة التاريخية، والمدرسة الإجرائية، ونتج عنها:
1- البرهنة على ثراء توفر القيم السياسية في نصوص الوحي والشريعة الإسلامية.
2- تعرض تطبيق القيم السياسية الإسلامية إلى تأثرها بالفراغ السياسي العربي قبل الإسلام، والحضارات الوثنية الأمبراطورية المجاورة في فارس والروم.
3-لا زال الضمير الإسلامي يتطلع إلى التطبيق النزيه للقيم السياسية كما في العهد النبوي والراشدي.
4-استئناف المنهج الراشدي في الحكم يوجب الخروج من فقه الضرورات وهواجس الفتنة، إلى ترجمة القيم السياسية عملياً ونظرياً بشكل إجرائي وإداري منظم يناسب قيم الإسلام والعصر.
5- حكمت هذه الدراسة أربع مسارات متقابلة ثنائية: (القيم، والإجراءات) – (الوحدة، والشرعية) – (الفوضى، أو الطغيان)، - (الذات والهوية، والآخر المخالف)، ويضاف إليها ثنائية: (الفتنة، والثورة) – (والدين، والدولة )– (والإمبراطورية، والدولة الحديثة).
انتهى التلخيص.

15 ردود
محمد نبيل كاظم
المشاركات: 819
Admin
بداية الموضوع
(@mohammed-nabil-kazim)
عضو
انضم: مند 5 سنوات
تتمة غياث العرب من استمرار الجرب
(2): خلاصة " النظام السياسي الإسلامي لأ. د. منير حميد البياتي:

1- الدولة القانونية: لا تكون قانونية إلا إذا خضعت الهيئات الحاكمة لقواعد القانون التي تكسبها المشروعية والشرعية" وسلطة الحاكم ليست ذاتية له، بل هي سلطة القانون الذي يخضع هو له، ويمنحه هذه السلطة بقيودها"، والدستور أساس دولة القانون، لأنه ينظم السلطة: التشريعية + التنفيذية + القضائية، والإسلام أسس دولة القانون، في الظروف الدولية التي ولدت في الجزيرة العربية أول دولة قانونية بمعيار العصر الحديث، أسسها رسول الله صلى الله عليه وسلـم، تتمثل فيها:
أولاً- (1): الدستور، (2): تدرج القواعد القانونية، (3): خضوع الإدارة للقانون، (4): الاعتراف بالحقوق والحريات الفردية، مع كامل الضمانات للفصل بين السلطات الثلاث.
ثانياً- قام رسول الله ص بالتصرف بمواقع وأحوال ووظائف متعددة: (1): النبي المبلغ عن الوحي، (2): الحاكم المتصرف بالمدينة وما حولها، (3): القاضي في فض المنازعات، والحكم بالعقوبات، (4): رب الأسرة مع أهله، (5): الفرد العادي بين الناس، وبهذا كانت دولته أول دولة قانونية في التاريخ.
2- مصادر الدستور الإسلامي: 1): القرآن: في كثير من آياته، 2): السنة: في كثير من أحاديثها، 3): وبنود وثيقة المدينة، 4) الإجماع: الذي وقع من الصحابة في العهد الراشدي، وغيره إلى عهد سقوط الخلافة العثمانية، واليوم ينوب عنه إنشاء مجمع فقهي إسلامي عالمي، له وسائل اتصال ودورات انعقاد لتحقيق هذا الغرض، (على غرار بعض المنظمات الدولية النزيهة) م. ن،
5): الاجتهاد: من قبل ولي الأمر، أو المختص، أو المدارس الفقهية واجتهاداتها، مرفقاً بالدليل.
3- أهداف نظام الحكم الإسلامي: ذكر بعض الفقهاء مقاصد التشريع الفقهي والدستوري، الحفاظ على القواعد والمقاصد الخمسة: حفظ الدين + حفظ النفس + حفظ العقل + حفظ النسل + حفظ المال، وجعلها بعضهم في 47 مادة دستورية لتحقيقها، وجعلها ابن عاشور التونسي: 1- الفطرة، 2- السماحة، 3- المساواة، 4- الحرية، 5- علل ومقاصد الأحكام في كل باب.
وأراها أنا: (عبد الله الفقير): " 1- جعل السيادة في الأرض لله وشريعته، 2- معرفة الله وعبادته وحده، 3- التأكيد على أن كرامة الإنسان منحة ربانية، 4- إقامة العدل بين الناس بالإحسان، 5- تحقيق السعادة الحقيقية في التزام الشريعة الحنيفية"، قال عمر رضي الله عنه: " أيما عامل لي ظلم فبلغني مظلمته، فلم أغيرها فأنا ظلمته".
4- الأساس الفكري للحقوق والحريات في الإسلام: التكريم الإلهي للإنسان، (ولقد كرمنا بني آدم)، لإيصاله إلى حرية وإتقان عبادة الله الواحد، على أن يكون هناك توازن بين حقوق الأفراد، وحقوق السلطات، لتحقيق هذا فلا يطغى الفرد على الجماعة، ولا الجماعة على الفرد، ولهذا شرعت كفالة الدولة والمجتمع لأفراده: لحديث: " إيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً، فقد برئت منهم ذمة الله" قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى)، من خلال ما يأتي: أ) الحث على العمل والكسب، ب) إعانة الدولة لغير القادرين، ج) كفالة العاجز والأرملة، د) الزكاة وما فوقها للمحتاجين، وهذا نص عليه في الإعلان الدستوري الأول في العهد النبوي: " وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم، أن يعطوه بالمعروف، من فداء أو عقل" والمُفرَح: المحتاج المثقل.
5- ضمانات تحقيق الدولة القانونية: بمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث: 1) السلطة التشريعية، 2) السلطة التنفيذية، 3) السلطة القضائية + الشورى والتناصح، وصرح في تفسير الطبري عن ابن عطية: " الشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين، فعزله واجب، وعلق القرطبي على ذلك بقوله: هذا ما لا خلاف فيه"، ومن ينوب عن الناس والأمة بالنيابة والوكالة هم: النقباء كما في يوم بيعة العقبة الثانية، (الاثنا عشر) فكانوا كفلاء اثنا وسبعون رجلاً وامرأتان من الأنصار، وكان يمثل الأوس والخزرج في المدينة سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، واختار عمر ستة من أهل الشورى، نواباً عن الأمة لاختيار خليفة بعد موته، والدلالة على هذه الوظيفة ومشروعيتها، القرآن، والسنة، والإجماع، ومفهوم الفرض الكفائي، ولهم تسميات: أهل الاختيار، وأهل الاجتهاد، وأولو الأمر، وأهل الحل والعقد، والعلماء والأمراء، وسماهم ابن خلدون (أهل العصبة)، الذين لهم تاثير على الناس، ومن وراءهم، في السمع والطاعة، أما علماء الشريعة حصراً فهم أهل الفتوى، وذلك يجعلهم قسمان:
أ) شورى الفقهاء: للمسائل الشرعية. ب) شورى النقباء: للمسائل السياسية.
6- والشورى الانتخابية اليوم ضرورة: سداً للذرائع، وتحقيقاً لتمثيل جميع شرائح المجتمع، ويتم اختيارهم بالانتخابات العامة، والخاصة، حسب الأصول الدستورية، والقانونية، المتفق عليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم عن غزوة مؤتة: " إن أصيب الثالث: فليرتضي المسلمون رجلاً منهم" الماوردي في الأحكام السلطانية، ص13، وابن سعد في الطبقات، 2/128، وقال عمر بن الخطاب، قبل موته بساعة لأبي طلحة: " يا أبا طلحة كن في خمسين من قومك من الأنصار، مع هؤلاء النفر - أصحاب الشورى- فلا تتركهم يمضي اليوم الثالث، حتى يؤمروا أحدهم" طبقات ابن سعد: 3/61، وهذا ترتيب من عمر وتخطيط لحماية أهل الشورى ومن يختاروه أميراً، (فن إدارة الأزمة).
7- ثمرات الشورى: 1) اشراك الأمة في سلطة من اختارته، 2) منع استبداد الحاكم وطغيانه، 3) تأليف القلوب حول القيادة ومنع الثورات، 4) تجنب خطأ القرارات، والوصول لأفضلها، ومنهجية مجلس الشورى: الاعتماد على تحقيق مقاصد الكتاب، والسنة، والشريعة، في التيسير على الناس (إن الحكم إلا لله)، وحال الاختلاف: يتم الترجيح بالأكثرية في حال عدم الاجماع، وهو تفسير النبي صلى الله عليه وسلـم حينما سأله عليٌ عن معنى العزم في الآية (فإذا عزمت فتوكل على الله)، فقال: " مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم" وقول النبي ص لأبي بكر وعمر: " لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما" وقوله ص: " اتبعوا السواد الأعظم" الترمذي.
8- التحكيم: وسابقته: تحكيم سعد بن معاذ في بني قريظة، وتحكيم عمر بن الخطاب بعد مشاورة الصحابة، عشرة من حكماء الأنصار- في مسألة منع توزيع أرض سواد العراق على الجند، وجعل خراجها لكل الأمة والأجيال- فوافقوه فأمضى قراره بذلك، والتحكيم يعتبر جزءً من القانون العام في كثير من المعاملات، ولجنة التحكيم المتضمنة قضاة وخبراء، تستند عادة إلى الكتاب والسنة والدستور والقوانين المرعية والإدارية ذات الصلة، وللحاكم رأي لأن المسؤولية على عاتقه، إلا إذا لم يجد من يوافقه ويؤيده، فليجأ للتحكيم.
9- الإمامة والخلافة تتم بالبيعة الرضائية: على شرط الحكم بالكتاب والسنة، والطاعة للإمام في المنشط والمكره، وتسميتها إمارة وأمير، أو خلافة وخليفة، وكل ذلك بعقد وتوكيل من الأمة، وبمسمى الولاية، وردت كلمة البيعة في القرآن (يبايعونك)، وفي السنة "من بايع أميراً..." والإجماع، كما فعل الصحابة في الخلافة الراشدية، وتجوز فيها النيابة والتوكيل، لأنها عقد، فتكون لأهل الحل والعقد والنقباء.
10- الأمة صاحبة الحق بالتولية والاختيار:
1): القرآن يخاطب المسلمين جميعاً بواجبات لا نفاذ لها إلا بوحدة كلمتهم، وهذا لا تحقق له إلا بوجود أمير يقودهم لتحقيقها، يختاروه بإرادتهم، بضوابط (القوة – والأمانة)، (القوي الأمين)، قال تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) و (خير أمة أخرجت للناس - لتكونوا شهداء على الناس – وإن حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) .
2): أحاديث بيعة العقبة، وبيعة الشجرة، والرجوع إلى العرفاء يوم حنين، واختيار أمير لجيش مؤتة بعد مقتل الثالث، فاختاروا خالد بن الوليد، واختيار أمير السفر من ثلاثة، " وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" حيث انتخبوا أميراً عليهم كلما قضى أمير، في العهود الأربعة.
3): الإجماع: في عهد الخلفاء الراشدين، يوم السقيفة، واقتراح أبي بكر بتولية عمر وموافقتهم، ومجلس شورى الستة يوم طعن عمر، فاختاروا عثمان، وتولية علي ومبايعته في المسجد بعد مقتل عثمان، رضي الله عنهم.
11- حدود سلطات الحاكم: مقيدة بما يلي: أ- القيام بحراسة الدين وسياسة الدنيا، ب- يلتزم بما يلزم الأمة به (وإن لم يؤمن أذاه خُلِع) عند ابن حزم، ج- جعل كلمة الله هي العليا (عند ابن تيمية)، د- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (عند ابن قيم الجوزية)، هـ- جلب المصالح ودرء المفاسد (عند العز ابن عبد السلام)، و- حمل الكافة على مقتضى الشرع (عند ابن خلدون)، ز- حفظ البيضة وإقامة الحدود وتحقيق المصالح (عند الشهرستاني والنسفي)، جمع الكلمة على أحد وجوه ما يجوز اجتهاداً (حسب المصلحة) قال أبوبكر الصديق: في قوله تعالى: (عليكم أنفسكم..)، قال النبي: " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه" البيهقي، وحديث: " ..ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق.." النووي، رياض الصالحين.
12- محاسبة الحاكم: ويرى ابن حزم وغيره: محاسبة الحاكم إن أساء بحكم الشرع، وهو رأي عمر بن الخطاب: في قوله: " فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم، فإن استقام اتبعوه، وإن حنف قتلوه، فقال طلحة: وما عليك لو قلت: وإن تعوج عزلوه، قال: لا، القتل أنكل لمن بعده" (تاريخ ابن الأثير: ج:3/20)، وبعض المخالفات يكتفى بعقابه، وبعضها يعزل، ويعزل عند الماوردي بجرح عدالته، أو نقص في بدنه، والشافعي يرى عزله بالفسق والفجور، وكذا كل قاضٍ وأمير، وعند الباقلاني: يُخلَع بالكفر وترك الصلاة، وعند الرازي: الظالمون غير مؤتمنون، وقال الغزالي: " السلطان الظالم معزول، أو واجب العزل" الإحياء: 2/111، بالشروط الموضوعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن لا يجر إلى ما هو أكبر، ويمكن تحديد مدة الولاية ببنود البيعة فتصبح شرطاً ملزماً.
13- اختيار ممثلي الأمة: بالانتخاب من قبل الأمة، أو شرائح الأمة، بدلالة القرآن: (وأمرهم شورى بينهم)، والسنة: (نقباء بيعة العقبة، وعرفاء يوم حنين)، والاجماع: (بتمثيل مجلس شورى الستة) بعد طعن عمر، لتحقيق مقصد الشارع في إيجاد أهل الحل والعقد، لتحقيق الخلافة والاستخلاف، وما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب، طبق في العهد النبوي فكان تشريعاً، وفي العهد الراشدي فكان إجماعاً.
14- واجب الأمة مراقبة الحاكم:
1): لأن أصل السلطة منها، فلها الحق في مراقبة الوكيل عنها.
2): لأن الولاية عقد بيعة، فمن حق المبايِع مراقبة تصرف المبايَع للتأكد من شروط الإلتزام.
3):الأمة مسؤولة أمام الله، ومراقبة وكيلها لدفع وتحمل هذه المسؤولية أمامه تعالى.
4): واجب الأمة النصح والتناصح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يشمل نصح الحاكم وما تكفل بالقيام به عن الأمة، والتي هي مبررات وجوده وتنصيبه، (الباقلاني)، التمهيد: 185، وحديث السفينة، الذي شبه النبي به الأمة بركابها، إذا أخذوا على يد من يريد خرقها، نجت ونجو جميعاَ.
15- حق الأمة في عزل الحاكم: إذا عطل شرع الله، وخالف القانون الإسلامي، وأصر على ذلك، بسحب الثقة منه عن طريق ممثلي الأمة، (مجلس الشورى) وإذا كان ذلك مما يعد كفراً بواحاً جاز الثورة عليه وإسقاطه من قبل الأمة، وأن عزله واجب، وفصل ذلك في عشرات المراجع الشرعية، لأن من له حق تنصيبه له حق عزله كذلك.
انتهى.

رد
محمد نبيل كاظم
المشاركات: 819
Admin
بداية الموضوع
(@mohammed-nabil-kazim)
عضو
انضم: مند 5 سنوات
تتمة غياث العرب من استمرار الجرب
(3): خلاصة كتاب حقوق الإنسان في الإسلام لد. عبد الله الحامد

1- قال " ول ديورنت: " الحضارة لا ينشؤها إلا شعب لا يعرف الخوف" لكن شرط أن يعرفوا من أين وكيف يبدأ الإصلاح؟ وكما قال فالتير: " ما رأيت شيئاً يسوق الناس إلى الحرية بعنف مثل الطغيان" وعلى الأمة أن تتحول من حكم الوصي على الأمة إلى حكم الوكيل عنها.
2- قال ابن القيم: " الشريعة مبناها وأساسها على الحكم والمصالح، في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه (اعلام الموقعين: ¾).
3- إذا كان الطواف والانحناء حول الأضرحة من الشرك، فإن الطواف والانحناء حول الظلمة الفاسدين وقصورهم ليس أقل شركاً وإثماً ومفسدة، وبين الشاطبي أن المقصد من وضع الشريعة: " إخراج المكلف من داعية هواه، حتى يكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبد لله اضطراراً " وحفظ الحقوق الكلية الخمسة، وبها يصلح العمران، وإهمالها يؤدي إلى خراب العمران (كما بينه ابن خلدون).
4- وحديث: " أطع الأمير ولو ضرب ظهرك وسلب مالك" برواية مسلم منقطعة الإسناد، ومخالفة للقواعد الشرعية المقاصدية، وعليه يكون الاستشهاد المطلق بها تحريف الكلم عن مواضعه وسياقه، وقال المحدثون الثقات: " ليس كل ما صح سنداً يصح متناً" وسموه حديث شاذ، أو أنه من المتشابه، لأن الأخذ به تعطيل لعشرات الأدلة الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وهدم لمقاصد الشريعة.
5- الذي يهدر كرامة الإنسان، شر من الوحش الذي يفترسه: وتنازل الإنسان عن كرامته وحريته، تنازل عن آدميته إلى الدرك الحيواني، (إن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً عظيماً) وكذلك حرمة التجسس عليه، والسخرية منه، والكرامة الإنسانية من الله، وهدرها من غير قضاء نزيه ظلم وفساد وعدوان، والناس سواسية أمام الشريعة والحقوق.
6- الدين الذي يتوعد من يعذب هرة، لا يبيح تعذيب واستعباد أبناء أمة حرة: قال ابن تيمية: " لا تسوغ العقوبة بالشبهة" عن عائشة رض أن رسول الله ص قال: " ...فإن وجدتم لمسلم مخرجاً فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ بالعقوبة" (الترمذي)، وأن لا يسجن دون حكم قضائي، عن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: " هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق، وحكم الأئمة المضلين"، (الدارمي، وصححه الألباني) قال محمد بن عبد الوهاب: " من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله" (فتح المجيد/390) .
7- النبي صلى الله عليه وسلـم يخبرنا بان الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم الذين هم ورثة الأنبياء، والظلمة يضعون القيود الحديدية في أيديهم وأرجلهم، ثم يأتي علماء السوء فيمدحون هؤلاء الظلمة، لأنهم خالفوا الله ورسوله في إهانة علماء الحق والصدق، المجاهرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، والناصحين لعامة المسلمين وأئمتهم، لا لشيء سوى أنهم ساووا بين الصلاة والعدل والشورى، ولم يتعظوا من سلفهم الصالح، ولا من خلفهم الأمريكي " جون كيندي حين قال: " كل دولة تجعل التغيير السلمي مستحيلاً، تجعل التغيير الثوري حتمياً" ، ولا قضاء عادل من غير حكم عادل، له مشروعية شرعية من الأمة.
8- الجهر بالحق: قال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: إن صاحب الأرض إذا عجز عن زراعة أرضه لفقره، دفع له من بيت المال ليعمل ويشتغل بأرضه" قال الشافعي في الأم: " كل عين ظاهرة كنفط...أو كبريت، غير ملك لأحد، فليس لأحد أن يحتجزها دون غيره، ولا لسلطان أن يمنحها لنفسه، ولا لخاص من الناس، ....وإلا كان ظالماً " ويقول الكاساني الحنفي في الصنائع: " وأرض الملح...والنفط ونحوها من ما لا يستغني عنها المسلمون، لا يجوز للإمام أن يعطيها أحداً لأنها حق لعامة المسلمين، وفي الإقطاع إبطال لحقهم، وهذا لا يجوز". ويقول ابن قدامة الحنبلي في المغني: " المعادن التي ينتابها الناس وينتفعون بها من غير مئونة، كالملح والكبريت والنفط والياقوت وأشباه ذلك، لا يجوز احتجازها دون المسلمين، لأن فيه ضرراً بهم وتضييقاً عليهم".
9- النزاهة والعدل: قال عمر: " والله الذي لا اله إلا هو، ما أحد إلا وله في هذا المال حق، وما أحد أحق به من احد، وما أنا فيه إلا كأحدهم ، ...، والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال، وهو في مكانه قبل أن يحمر وجهه"، ورحم الله الإمام أبا حنيفة النعمان ما افقهه وأنبهه، فقد أرسل إليه المنصور الإمام مالا فرده، فاستدعاه وسأله لم رده فقال: "ما وصلني أمير المؤمنين من ماله بشيء فرددته، ولو وصلني بذلك لقبلته، إنما وصلني من بيت مال المسلمين، ولا حق لي به".
10- ولى عمر بن الخطاب أحد الولاة على أحد الأقاليم، وحاور الوالي وهو يودعه قبل سفره: فقال له: ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب ؟ قال اقطع يده ، قال عمر: إذن إن جاءني منهم جائع أو عاطل، فسوف أقطع يدك، إن الله سبحانه استخلفنا على عباده، لنسد جوعتهم ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإذا أعطيناهم هذه النعمة من الله ، أقمنا عليهم حدود الله كفاء شكرها".
11- التعلم والتقليد: قال تعالى: ( وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه )آل عمران:87 ، وبناء على تلك القاعدة قرر ابن حزم أن للدولة –الإسلامية- أن تجبر الأزواج على الإذن لزوجاتهم بالتعلم، ولقاء من يعلمهن إن عجز أزواجهن عن التعليم ( الأحكام : 5/142)، وقال الأصولي أبو زيد الدبوسي الحنفي، المتوفي سنة 430هـ (في كتاب تقويم الأدلة) "أصل التقليد باطل، لأن الله رد على الكفرة احتجاجهم بإتباع الآباء من غير نظر واستدلال، والمقلد في حاصل أمره يلحق نفسه بالبهائم في إتباع الأولاد والأمهات في مناهجها بدون تمييز، وكان الناس في الصدر الأول - أعني الصحابة والتابعين والصالحين - رضوان الله عليهم يبنون أمرهم على الحجة، فكانوا يأخذون بالكتاب ثم بالسنة، ثم بأقوال من بعد رسول الله ما يصح بالحجة".
وقال الإمام القرافي المالكي " ان مذهب مالك وجمهور العلماء وجوب الاجتهاد وإبطال التقليد، " وذهب إلى ذلك كثير من الشافعية كالإمام الغزالي إذ قال في المستصفى: " إن القادر على تحصيل العلم ينبغي أن يطلب الحق بنفسه، فكيف يبني الأمر على عماية كالعميان وهو بصير"، وذهب إلى ذلك أيضاً معظم الحنابلة، وعلى رأسهم ابن القيم (في إعلام الموقعين)، وقال ابن تيمية: " إن العلوم المفضولة، إذا زاحمت العلوم الفاضلة وأضعفتها، فإنها تحرم".
12- استقلالية المسلم: روى حذيفة بن اليمان أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن لا تظلموا" ( خرجه الترمذي والمنذري وحسناه).
13- الانحراف المدمر: قال الرسول صلى الله عليه وسلم " ستة لعنتهم، ولعنهم الله وكل نبي مجاب، الزائد في كتاب الله عز وجل، والمكذب بقدر الله، والمتسلط على أمتي بالجبروت؛ ليذل من أعز الله، ويعز من أذل الله، والمستحل حرمة الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والتارك السنة " ( رواه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم).
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير, ويربو فيها الصغير [ ويتخذها الناس سنة], إذا ترك منها شيء قيل: تركت السنة, قالوا: ومتى ذاك؟ قال: إذا ذهبت علماؤكم, وكثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم, وكثرت أمراؤكم وقلت أمناؤكم, والتمست الدنيا بعمل الآخرة, وتفقه لغير الدين"! (صححه الألباني موقوفا)، ومن ذلك الحوار بين الرسول المصطفى و(كعب بن عجرة) أحد صحابته الكرام: قال الرسول: أعاذك الله من إمارة السفهاء، سأله الصحابي: وما إمارة السفهاء؟ قال الرسول: أمراء يكذبون بعدي، لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني، ولست منهم، ولن يردوا علي حوضي (رواه المنذري وصححه الألباني).
14- الذين نجحوا في إقامة دولاً قوية فترة من الفترات، ومرحلة من المراحل – في حضارتنا- لم يقيموا دولاً شورية مؤصلة، يتعاقب على ترسيخ مبادئها الأجيال، جيلاً بعد جيل، فكانت دول أشخاص أو أسر حاكمة، سرعان ما تتفكك وتضمحل، وتتحول إلى ما سبقها، دولاً استبدادية شر مما سبقها.
15- علماء ودعاة تيار الإصلاح التربوي والاجتماعي: المستسلم للفراعنة، محاولاً الإصلاح عبر جمعيات مدرسية فكرية أو دعوية، تتأقلم مع الظلم، وتسايره في كثير من منظوماته، ويتعرض للقمع بين الفينة والأخرى، فيهدم الطغاة في أسابيع ما بناه هؤلاء الدعاة في سنوات، ولهذا نحن بحاجة إلى تجديد فقه الوسائل، بحيث تجتنب أخطاء السابقين، ويؤصل للحلول السلمية، لأنها تنشر الفكر السليم والثقافة الشرعية الصحيحة في باب الإصلاح السياسي والاجتماعي، دون أن يلجا الدعاة إلى الانبطاح للظلمة، ولا إشهار السلاح في وجوههم، لأن كلا الأمرين مدمِّر، ولا يحقق الغرض المنشود، ولا يتوافق مع أحكام الشرع الحنيف.
16- أساس مشكلة تردي الأمة:
1):غياب نظام الحكم الشوري عن الأمة الموصوفة بخير أمة أخرجت للناس، وضعفها، والهزائم التي حلت بها عبر العصور، مما رسخ دولة الاستبداد، وجعل الشريعة شريعة الرعية، لا شريعة الراعي، فشطر حياة الأمة إلى نصفين غير متساويين، لا في الحقوق ولا في الواجبات، وأصبحت الأمة قطيع متوارث، تنتقل ملكيته من مستبد إلى آخر، دون عقد ولا بيعة، لا على الكتاب والسنة، ولا على دستور مدني تضعه الأمة ليحكمها هذا المستبد على ضوئه وبنوده، هو وأتباعه وأولاده وأسرته.
2): فقه التبرير، والاضطرار، وسد الذرائع، الذي أصبح فقهاً أصولياً راسخاً، ولم يعد فقهاً استثنائياً كما هي حقيقته، بسبب طول الزمن والاستمرار وعموم البلوى، مما نحى القواعد الأصلية المستخلصة من النصوص الثابتة في هذا الباب، وأصبحت القيود المقترنة بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مبطلة لفاعلية هذا الواجب الاحتسابي، خاصة أن الظالم لا يريد أن يكون في الأمة من يسأله ويحاسبه، طالما أنه يعتبر أن هذا المنصب حصل عليه بقوته وجبروته وعصبته، والآخرون لا يملكون شيئاً من هذا.
3): غياب حلف الفضول: وهو ما يتعلق بإقامة مؤسسات متخصصة لمنع المظالم، في حال نالت الأمة حقها الشرعي في القوامة، مع مراعاة اختلاف الظروف والوسائل والممكنات، من عصر لآخر، خاصة أننا في عصر مات فيه فرعون وأغرقه الله منذ زمن بعيد، واليوم التحكم الاستبدادي في الأمة لا يقتصر على ظالم وفرعون محلي، بل هو يمتد، ليحقق ويخدم الإمبريالية العالمية، والهيمنة الأطلسية، لطلاب التداعي على قصعتنا المقسمة بين أمم لصوصية غربية كثيرة، تنهش في أجسادنا، وتشوه هويتنا وثقافتنا، وتنهب ثروات بلادنا.
4): الاستشهاد المغلوط: يغمض فقهاؤنا الصالحون عن القاعدة الذهبية الرئيسة، التي تنطق بوجوب أن يكون بين الأمة وحاكمها الشرعي المنتخب شورياً، عقد بيعة شرعية، يعترف بها بقوامة الأمة عليه، والدليل عليها منطوق الكتاب والسنة في عشرات الأدلة الشرعية المحكمة، ولي عنق النصوص ببعض النصوص الأخرى إنما هو ضرب الشريعة بالشريعة لمن لا يفقه مدلولاتها، أو لأن اختلاف الزمن يجعل صعوبة في مقارنة ظالم قديم ملتزم نوعاً ما بالشريعة ومدافع عن بيضتها، واليوم لا يقارن بما سبق في أي وجه من الوجوه، وهذه الأدلة يمكننا أن نقرأها اليوم بطريقة مختلفة تناسب عصرنا وسعة شريعتنا الغراء من مثل حديث: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبوكم، وتصلون عليهم، ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنوكم، قالوا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة"، وكأن العدالة في الإسلام أقل منزلة من الصلاة! ومثل " ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً عن طاعة" ( رواه مسلم )، مع أن مفهوم إقامة الصلاة في القرآن، (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) فإذا لم ينته الظالم عن الفحشاء والمنكر، ما أقام الصلاة على وجهها، وهل هناك أفحش من سرقة الأمة وأسْرِها، والاستبداد بها، بل وبيعها لأعدائها من أجل عرض من الدنيا قليل، يخص شخص أو فئة أو أسرة، فهذا النص يُسْتَنطق في كل عصر بشكل مختلف، وفهم أمثال هذه النصوص ينبغي أن يكون بمصباح القرآن والسنة، وزجاجة التطبيق النبوي والراشدي، ومشكاة الأمة والبيئة، وحديث: " لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم"، وليس تسلط شرار الأمة على الأمة هو الحاصل بهذه الفتاوى، بل تسلط الأمم الأخرى من كل أطراف الأرض ومللهم ونحلهم على أمتنا؛ التي أراد الله لها أن تكون خير أمة، فنتائج هذا النكوص من علماء الأمة وأخيارها نتائج مدمرة وقاتلة وماحقة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
17- قال البغدادي في أصول الدين: " إذا زاغ الخليفة عن الحق؛ كانت الأمة رقيبة عليه، في العدول عن خطئه إلى الصواب، أو في العدول عنه لغيره ، وسبيلهم معه كسبيله مع خلفائه وقضائه وعماله، إن زاغوا عن سنة، عدل بينهم، أو عدل عنهم ". قال تعالى: ( ولولا رهطك لرجمناك) مبيناً أثر الرهط والتكتل في مقاومة الشر والانحراف، مستخدمين الوسائل السلمية الكثيرة المتوفرة في الأمر بالمعروف السياسي، والنهي عن المنكر السياسي، لتنشيط الرأي العام وحفزه على المطالبة بحقوقه، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ على السمع والطاعة، في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم " (متفق عليه).
18- النضال الشرعي: بالتضحية لا بالأدعية يزول الطغيان، هل الشريعة التي أقرت حقوق الحيوان، أغفلت حقوق المسلم والإنسان؟ حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن أن يبعث الله عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" (رواه الترمذي)، ويؤكده حديث: " ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين"، ولهذا حذر القرآن من التقصير في هذا التناصح بقوله تعالى: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)، ويؤكده حديث: " كقوم استهموا في سفينة ، فاخذ بعضهم أعلاها ، وأخذ بعضهم أدناها ، فلو تصرف أحدهم فيما أقام عليه بما يضر ركاب السفينة أجمعين ، ولم يأخذوا عليه هلكوا جميعاً، ولو أخذوا على يديه؛ لنجوا جميعاً".
19- الظلم يزال: نصرة المظلوم من الأخلاق الإنسانية الفطرية، وأكدتها الشرائع السماوية، وأصبحت من قواعد الشريعة الإسلامية، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ذكر منها "نصرة المظلوم" (متفق عليه)، وعن انس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فقال رجل: يا رسول الله انصره إذا كان مظلوماً، أرأيت إن كان ظالماً كيف انصره ؟ قال تحجزه أو تمنعه عن الظلم فان ذلك نصره " ( رواه البخاري )، و قال الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا: " ما من مسلم يخذل امرءاً مسلماً، في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص من عرضه، إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته، وما من امرئ مسلم ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه عرضه، وتنتهك فيه حرمته إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته " (رواه البخاري والترمذي )، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " لتأخذُن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن قلوب بعضكم ببعض " (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه)، أليس على العالم الصالح أن يعرف أسباب شيوع الكفر والزندقة، فيقف أمامه ويدرأ ما استطاع انتشاره وانتشارها! هؤلاء الذين يهاجمون الشيوعية والعلمانية، ويكتبون في بطلان مقولاتها، - وهم مصيبون – هلا كتبوا في مشروع دولة الحكم الشوري، ومنهاج النبوة والراشدية في الحكم الصالح؟ وبينوا للأمة فوائدها وحاجة الأمة اليوم إلى النهوض عن طريق هذا المنهج، كما نجح السلف الصالح من الرعيل الأول بها، فانتشر الإسلام والخير والفضيلة شرقاً وغرباً، إن الدفاع عن حقوق الأمة فريضة، تفوق نوافل الصيام والقيام والصدقة.
20- الجهر بالحق يعز الأمة: روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحقرن أحدكم نفسه، قالوا: يا رسول الله وكيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال: يرى أن عليه مقالاً، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل يوم القيامة: ما منعك إن تقول فيَّ كذا وكذا، فيقول خشية الناس فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى " ( رواه ابن ماجه )، وكما قال تعالى "فلا تخشوهم واخشون إن كنتم مؤمنين".

رد
محمد نبيل كاظم
المشاركات: 819
Admin
بداية الموضوع
(@mohammed-nabil-kazim)
عضو
انضم: مند 5 سنوات
تتمة غياث العرب من استمرار الجرب
(4): خلاصة كتاب " تطور الفكر السياسي السني" خير الدين يوجه سوي

1- طبيعة الفكر السياسي في الإسلام: يقوم على التوحيد، والعدالة، والمساواة، والحرية، والشورى، والجهاد، في إطار جماعة واحدة وأمة متحدة، وروعي في اجتماع السقيفة لاختيار خليفة الرسول، مزيج العرف العربي القبلي، والمفاهيم الإسلامية، وبويع الخليفة من قبل بعض النقباء، وتمت بعدها البيعة العامة في المسجد لكل الناس.
2- مهام الخليفة: تطبيق الأحكام بعدالة، وتنظيم الجهاد ضد الأعداء، وحراسة دار الإسلام، والصلاة بالمسلمين، وقسمة الفيء بينهم، وهي مهام سياسية وعسكرية، وما عدا ذلك فهو فرد من المسلمين، له حقوقه وعليه واجباته، واعترف في خطبة عقد البيعة بحق الأمة عليه في النصح والتقويم، وواجبها في النصرة والمؤازرة، والحكم بينه وبينها، (كتاب الله، وسنة رسوله).
3- غلبة القبلية على الراشدية: قال عمر: " يا معشر العرب، الأرض الأرض، إنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة.." (أرنولد الدعوة ص63)، وعندما توقفت موجة الجهاد والفتوح، في النصف الثاني من عهد عثمان، التفتت القبائل والطامحين؛ إلى إشغال الناس بالتأمر وطلب الرئاسة، ومنافسة عمال الأمصار، وربما كانت الفتنة ومقتل عثمان بسبب الصراع بين مفاهيم الراشدية ومفاهيم القبلية، ( ونشوء جيل جديد، وغياب تطوير الشورى والعمل السياسي ، وانحصارها في قريش والعاصمة " المدينة المنورة") م. ن.
4- وقامت الخلافة الأموية على أنقاض نهاية الخلافة الراشدية: على يد معاوية ابن أبي سفيان، الذي استطاع أن يجمع بين فكرة الإسلامية، والعصبية القبلية، بحيث تحد كل منهما الأخرى في أن تكون سيطرتها كاملة، في مجتمع تغيرت كثير من معالمه، التي استطاع الحكم الأموي التأليف بين عناصره المؤثرة الثلاثة: الإسلامية، والقبلية، والحزبية، فتمسك بخيوطها، بحنكة ودهاء، من خلال التمكين لثلاث أمور: ولاية العهد، والمركزية، وإثبات الشرعية، أما القبائل فقد أشغلهم معاوية بفتح باب الجهاد، وتوافر غنائم الفتح بين أيديهم، فتولى قادتهم مناصب عسكرية وإدارية.
5- والمعارضين تألفهم معاوية: رضي الله عنه، بأسلوبه ومنائحه عدا الخوارج، والإسلاميين الحجازيين، فحاول أن يستميلهم، بانه يقلد أبابكر وعمر في ترشيح من يخلفهم في الحكم، لفرض ولاية العهد من بعده لابنه يزيد، وهذه كانت إشارة من الصحابي الجليل، المغيرة بن شعبة، لما شعر به من خطر انقسام المسلمين وتكرر فتنة عثمان وعلي، بعد وفاة معاوية، لكثرة المتطلعين للاستخلاف، وقد استقرت الدولة أيام معاوية، فالتقطها وعمل بمشورته، التي قبلتها القبائل، ورفضها أهل الحجاز والراشديون، بقول ابن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر: " أكسروية وهرقلية في الإسلام! فدخل مفهوم التوريث والوراثة في الحكم لأول مرة في الإسلام، فأغلق باب الراشدية والشورى في تأسيس نظام الحكم في الإسلام إلى يومنا هذا.
6- لكن هذا أدى إلى رفض المعارضة تجديد مبايعة يزيد: مما دفع بعض الناس إلى تحريض الحسين على الثورة ضد يزيد، فتسبب ذلك بمقتله، كما رفض ابن الزبير مبايعة يزيد، ولما توفى أعلن انفصاله وخلافته على الحجاز والعراق واليمن، فأشعلت الحرب بين جميع المكونات، فانتصر التكتل القبلي الذي قاده مروان ابن الحكم على المكونات الإسلامية والوراثية، فتشكلت المعارضة بعدها من الخوارج والشيعة، في أنحاء العراق، ثم عاد مروان بعد التخلص من خصومه، إلى مبدأ الوراثة، فعهد بولاية العهد إلى ابنيه عبد الملك، وعبد العزيز، وهو تقليد جديد دخل على التوريث، بولايتي عهد متتابعتين، وأدخل مفهوم آخر في الحكم الوراثي، هو تولية وليي عهد قاصرين، لكن هذا أثار النعرة القبلية التي لم يرضيها هذا التغيير فقتلت الخليفة الوليد بن يزيد، وولديه الحكم وعثمان، بتواطؤ من أبناء عمه، الذين لم يرضيهم فعلته، خاصة أن يزيد بن الوليد رفع من جديد شعار " الشورى، والعدالة، واتباع الكتاب والسنة، وتوزيع الفيء" لكن حين حضرته الوفاة، أشير عليه بالعهد لأخيه إبراهيم، ولعبد العزيز بن عبد الملك من بعده، تخوفاً من الفتنة والصراعات، لكن هذا لم يعجب الفرقاء، الأمويين والقبائل، فلم تستقر الأمور لهما، فثاروا عليهما فخلعوا إبراهيم وقتلوا عبد العزيز، فجاء بعدهما مروان بثورة قبلية، مما أضعف مبدأ التوريث من جديد، وجعل مبدا القبلية والعصبية لها هي الداعم الأكبر للحكم في الدولة الإسلامية.
7- لكن الصفات الشخصية للخليفة: كان لها تأثير في التفاف القبائل والقوى حوله، حتى في الفترة الأموية: " كالسابقة، والأخلاق، والعلم، والفضل، والتقوى، والخبرة، والسياسة، والنسب، وحسن الإدارة، وهذا جعل الأمويين يحاولوا الموازنة بين العوامل الثلاثة المؤثرة في الحكم واستقراره، الإسلامية، والقبلية، والوراثة.
8- إلغاء الشورى وتجاوز أحكام العدالة الإسلامية: دفع الناس إلى ثورات متعددة منها: ثورات الخوارج، والحسين، وابن الزبير، وحركة التوابين، والمختار، وثورة المطرف بن المغيرة بن شعبة/العراق (77هـ) وثورة ابن الأشعث /العراق – التي شارك فيها بعض الفقهاء (82هـ) فدفع الأمويين إلى سيطرة المركز على الحجاز والعراق بالقوة، لكن فشلوا بسبب التجاذبات بين العناصر الثلاثة.
9- حاول عمر بن عبد العزيز: في فترة حكمه المواءمة بين الشورى الإسلامية الراشدية (العدالة، والمساواة، وتقريب الفقهاء، وتنظيم الخراج، وإنصاف المستضعفين)، فنجح في تسكين المعارضات، لكن قِصَر خلافته لم تمكنه من ترسيخ هذا المنهج بشكل مؤسسي دائم، فانتهى بوفاته، وحاول بعض خلفائه أن يسير ببعض سيرته، إلا أن الأمور لم تمكنهم من الاستمرار في هذا المنحى، بتأثير النزاعات والتغيرات، وعدم وضوح منهج الحكم الذي يستوعب جميع المؤثرات، ويلم شمل أطراف المتغيرات، خاصة بعد دخول مؤثرات الموروث الساساني في أواخر الحكم الأموي، بالإضافة إلى ما ذكرنا عن التأثير القبلي، مما دفع الفقهاء إلى تسمية فترة حكمهم (بالملك الدنيوي)، واستخدم الأمويون المبررات الشرعية وإرادة الله الجبرية في تطويع الناس وطلب طاعتهم لهم واستسلامهم لحكمهم، وأخيراً سقط الأمويون لأنهم لم يستطيعوا إرضاء القبائل، ولا إرضاء المعارضة، ولا إرضاء الإسلاميين، ولم يطوروا أجهزة أو إدارة قادرة على استيعاب المتغيرات لتطبيق نظام الحكم الإسلامي الراشدي، فأسقطهم العباسيون.
10- الخلافة العباسية: قامت إثر دعوة منظمة انتهت بثورة معارضة للأمويين، على أساس إسلامي، (العمل بالكتاب والسنة) والمساواة والعدالة، وإرجاع الحق لأهله، ونشر مظالم الأمويين، ونشروا روايات الرايات السود، فحققت الدعوة نجاحاً في المشرق، بعد اضطرابات متعددة في الشرق وخراسان، حتى أن بعض هذه المناطق ضربت نقوداً باسمها قبل الثورة للدلالة على استقلالها عن المركز الأموي، وكان للجيش الخراساني المكون من الموالي والعرب دور كبير في نجاح الثورة، استطاع العباسيون بقيادة أبي العباس أن يستوعب قوى الثورة المكونة من إسلاميين، وموالي، وقبائل في دولته التي أعلن أنه خليفتها، وأنه سيعمل على تطبيق الكتاب والسنة، وإعادة حقوق أهل بيت النبوة، وإشراك غير العرب في الحكم، لتحقيق المساواة، وأعلنوا أن ثورتهم هي لمحاربة الجور والظلم، وأنهم الأقرب إلى نسب النبوة التي أذهب الله الرجس عنهم، ورفع قدرهم.
11- التأثير الساساني على الحكم: اشتراك الموالي والفرس في الثورة العباسية دفع الخلفاء إلى الوفاء بتعدهم بالخروج من العصبية للعرب والعروبة، فوظفوا كثيراً من هؤلاء (كتاب، ووزراء، وقادة) في مناصب رسمية، أدخلت الفكر الساساني إلى أنظمة الحكم وأعرافه، لتحجيم القبلية، إلا أن الخلفاء حين شعروا بالخطر من هؤلاء تخلصوا منهم كما حدث مع ( أبي مسلم الخراساني- والبرامكة – وبني سهل)، لكن العباسيين لم يستطيعوا كسلفهم الأمويين من وضع قاعدة متينة في الحكم تضمن لهم الاستقرار الدائم، وما فعلوه من الاعتماد على جند الموالي، كان سبباً في نكستهم وإضعاف سلطتهم.
12- التيار الراشدي الإسلامي الفقهي: كان بين خيارين: التمسك بالشورى ومؤداها في ظروف الفتنة تمرد القبائل والأطراف على مركزية وسلطة الخلافة وحصول فوضى عارمة تخرج عن حد السيطرة، وتقضي على هيبة الدولة المتمثلة بمفهوم الخليفة والخلافة، أو التنازل عن مفهوم الشورى، والقبول بمعاوية خليفة متمكن من الشام وعصبته، بحنكة ودهاء، فانحاز الحسين والصحابة إلى معاوية، رغبة بجمع الكلمة ووحدة الصف، فسمي (عام الجماعة).
13- وكما رفضت فكرة الأميرين معاً: في سقيفة بني ساعدة، ورفضها " محمد بن الحنفية" في مبايعة ابن الزبير، مع وجود عبد الملك بن مروان، حتى قتل ابن الزبير، فبايع عبد الملك، لأن الأحاديث تقول ذلك، على شرط الشورى والاختيار، قال أبو يوسف في كتاب الخراج، حديث: " من بايع إماماً وأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر" (ص/82).
14- الشورى هي الأسلوب: الذي اعتمد لاختيار الخليفة في العهد الراشدي، وهو المبدأ الأساسي في نظام الحكم في الإسلام، وجميع الفقهاء كانوا يرون ذلك، وإن خضعوا للتسليم بغيرها اضطراراً، درءاً للفتنة، لكن لم يكن لهذا المبدأ صورة واحدة للتطبيق، وكل الثورات التي خرجت على الحكام، كان شعارها الشورى، والعدل، وإجماع الأمة على الخليفة، - ابن عباس، وابن عمر، والزهري، وابن الحنفية، والشافعي، - قال الشافعي: " من غلب على الخلافة بالسيف حتى سُمِّي خليفة، واجتمع الناس عليه، فهو خليفة إذا كان من قريش، يُغزى معه، ويُصلى خلفه الجمعة، ومن لم يفعل فهو مبتدع" (البيهقي/مناقب:448).
15- صفات الخليفة الضرورية: صاحب العلم، والتقوى، والسيرة الحسنة، والأفضل اقتداراً، والقرشية، ولقد رفض سعيد ابن المسيب، والحسن البصري، ولاية العهد، لأنها مخالفة للشورى، بينما أقرها الفقهاء في العهد العباسي، رضوخاً للأمر الواقع، وحفاظاً على شرعية منصب الخلافة، وكتب الفقهاء كثيراً في وجوب الطاعة لولي الأمر، وأضرار الخروج وما يحدثه من فتنة وسفك الدماء، وضياع الأموال، ومع ذلك أكدوا على وجوب تقيد الخلفاء بأوامر الدين وقيمه.
16- عزل الإمام: لكن الفقهاء لم يدرسوا عزل الخليفة، بشكل جدي، وكل ما ركزوا عليه هو الطاعة والالتزام، ويروي التفتازاني عن الشافعي أنه يرى أن الخليفة الفاسق الجائر ينعزل، كما ينعزل القاضي الفاسق" ويعلق التفتازاني: " عن الشافعي رضي الله عنه، أن الإمام ينعزل بالفسق والجور وكذا كل قاضٍ وأمير" بينما في كتب الشافعية أن القاضي ينعزل بالفسق بخلاف الإمام، لأن في عزله فتنة، وله شوكة، بخلاف القاضي" (التفتازاني/ شرح العقائد النسفية: 181).
17- نتيجة الاتصال بالتراث اليوناني: اكتسب الفقهاء في القرن الأول والثاني، دعم العامة والرأي العام، وأصبح لهم نفوذ لا يستهان به في العصر العباسي، مما أثار مخاوف الخلفاء العباسيين، من عهد المنصور، فحاولوا مأسسة القضاء والفقهاء، فأبى كثير من الفقهاء هذا الأمر، وحدث صراع قوي بين الفقهاء والخلفاء عهد المأمون، حتى أن الفقهاء امتحنوا، لمعرفة آرائهم ووجهات نظرهم، واستمال المأمون المعتزلة لما رأى حيادهم، ليكونوا في مواجهة الفقهاء، وعوناً له ضد الزنادقة، وحاول تولية ولاية العهد " علي بن موسى الرضا" ليرضي أكثر من جهة، (المعتزلة- والزيدية- والشيعة- والعامة)، ولما بدأ المأمون في فرض فكرة مسألة " خلق القرآن" قاومها الفقهاء وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، ولكن الفقهاء استمروا في تأييد طاعة الخليفة، وإباء شق صف الأمة بالخروج عليه، لكن استقلال الفقهاء، أضعف الخلافة، فظهرت قوى جديدة من الجند والعجم، تتحكم بالخلافة والسياسة.
18- كتب الجاحظ رسالة إلى " فتح بن خاقان": سماها مناقب الترك، شبيهة برسالة ابن المقفع، التي ذكر فيها ميول أهل (البصرة: العثمانية) وأهل (الكوفة: العلوية) وأهل (الشام: الأموية)، وأهل (الجزيرة والحجاز: الخارجية) وأهل (خراسان: الشيعية)، و(الترك: العباسية)، وعمل الفقهاء على توحيد ولاء وصف هؤلاء جميعاً للالتفاف حول رمزية الخليفة، بمبادئ مثالية بعيدة عن الواقع، مما أضعف تأثيرها مع الزمن، وطرحت أفكار سياسية المضمون، شرعية القالب، مثل احترام وتقدير الصحابة، وشرعية خلافة الخلفاء الراشدين، والرد على نصية منصب الإمامة، وجواز التحكيم.
19- تفوق المعتزلة على الفقهاء: في إفحام الخصوم من الخوارج والشيعة والزنادقة، إلا أن الفقهاء ارتقوا في جدالهم من خلال الأشاعرة وعلى رأسهم "أبو الحسن الأشعري" وتوحد صف الفقهاء في تقديم الخلفاء الراشدين حسب توليهم، والسكوت عما شجر بينهم، واعتبار أخطاء وحرب الصحابة اجتهاد يؤجروا عليه بأجر، ولا ذنب عليهم فيما أخطأوا فيه، وكثير من أهل الحديث: (البخاري- ومسلم- وابن ماجة- وأبي داود- والترمذي) ذكروا صحابة النبي بخير، وفضائل معاوية، وذم الخوارج، وإن كان البعض تحفظ على بعض أعمال علي وخلافته، وكان أبرز المتكلمين الذين ساندوا الفقهاء بحجج مقنعة عن شرعية الخلفاء الراشدين وفضائل الصحابة جميعاً " أبو الحسن الأشعري" ووافقه الطحاوي، والماتريدي، فنصروا السنة على الشيعة والخوارج والمعتزلة.
20- تبلور وتأكد مفهوم التمسك (بالكتاب والسنة والإجماع): لمنح الشرعية للخلافة، ولهذا قال الفقهاء: " الخلافة ثلاثون سنة، ثم تكون بعد ذلك ملكاً" (أحمد/البيهقي/ أبو داود/ الترمذي/ الأشعري: الإبانة 259) ولكن هذا لم يمنع من منح الشرعية للخلفاء الأمويين والعباسيين وإن بتوصيف أقل مثالية، لأنهم التزموا بواجبات الإمام المسلم: من جهاد، وصلاة، وحفظ بيضة، وتطبيق الشرع، وإقامة الحدود... والحياد عموماً تجاه الفقهاء والقضاة.
21- بدأ التأثير اليوناني والساساني في مفاهيم الحكم: والسلطة والخلافة، مع ترجمة " يوحنا بن البطريق" كتاب " السياسة في تدبير الرياسة" المعروف بسر الأسرار، عن اليونانية، وكتاب قدامة بن جعفر" الخراج وصناعة الكتابة" ومن بعدهما كتابات الفارابي، وكلها تبين السلطة المطلقة للخليفة، وأن أعوانه، ليسوا سوى عينه ويده ولسانه، الذي ينفذ مراده، وهو اتجاه استبدادي في العموم، لأنه لغة العصر في كل الدول المحيطة بالخلافة الإسلامية، وفي كثير منه ثقافة ساسانية، أما الفارابي فجعلها قيم المدينة الفاضلة لأفلاطون، مطعمة ببعض المفاهيم الإسلامية، لكن الغالب على أفكاره أنها أفكار كونية ومجردة، وربما باطنية، من الفلسفة والباطنية.
22- فقهاء السنة رأوا في الإمامة تحقيق لأحكام الدين: واجتناب الفتنة، ودرء العدو، وإقامة العدالة، وتوزيع الفيء، وإجماع الصحابة على تولية أبي بكر ومن بعده، ورأى الجاحظ إمكان خلو الأمة من إمام، حال تسلط (جند الباغي المتغلب) ودلالة وجوبها، (النص – العقل – الإجماع)، وعند المعتزلة وجوبها العقلي، لتحقيق مصالح، ودفع مضار، ورأى الأشعري وجوبها بالسمع، فقال: " الإمامة شريعة من الشرائع، بالسمع والعقل، وعند الماتريدي كذلك، لاتفاق الصحابة عليها، ولما طرح الشيعة مسألة تعيين الإمام بالنص، واجه الفقهاء والمعتزلة هذا بأن الإمامة اختيار وشورى، لدحض فكرة الإمامة عند الشيعة، وأصبح سلاحاً لمقاومة الاستبداد الأموي والعباسي، لكن الفقهاء ساندوا الخلفاء العباسيين، في مواجهة الفكر الشيعي، بإجازة حكم المتغلب، على أن يحكم (بالكتاب والسنة)، وكان للمعتزلة دوراً في دحض فكرة أن الإمام يكون بالنص، وناصروا الخلفاء العباسيين، ضد التشيع والزندقة، كما في كتاب " العثمانية" للجاحظ، لكن بعض المحدثين رووا أحاديث تشير إلى إمامة أبي بكر وعمر وعثمان، إشارة لا جزم فيها، ولا عزم، لأن الذي يفوقهما وضوحاً هي أدلة الاختيار والشورى، خاصة عند المعتزلة والأشعرية، وحصرها الفقهاء بحصول إجماع الأمة على الإمام.
23- وبسبب الخلط بين نماذج المرحلة: المثالية (العهد الراشدي) والمرحلة الواقعية، (العهد الأموي والعباسي)، أخذ الفقهاء من الأولى بعض ظواهرها ليجعلوها الأساس؛ الذي تقوم عليه الفترة العباسية، ويصبح الاستثناء قاعدة معتبرة، وتحظى بالشرعية، وهذا مجرد تبرير، له ظروفه الداعية إلى مقاومة الفكر الشيعي، والفكر الخارجي، والاتجاه الشعوبي، الذي يترصد انهيار الخلافة لتحقيق مآرب عنصرية وفئوية ومذهبية، فاحتجوا بالتوريث استناداً إلى تولية أبي بكر الخلافة لعمر – مع أنه ترشيح وليس تولية- ولهذا أجاز الشافعي تغلب المأمون على أخيه الأمين، بعد استقرار الخلافة له، ومثله موقف الإمام أحمد كذلك، احتجاجاً بقول ابن عمر، حين صلى بأهل المدينة يوم الحرة، وقال: " نحن مع من غلب".
24- أهل الحل والعقد وصفاتهم: تحولت إلى فكرة رئيسة في قضية عقد البيعة، وترشيح ولي الأمر- فكرة مركزية في الأمة والمجتمع واختيار الإمام، حتى أن الجاحظ اعتبر عقد البيعة من شؤون الخاصة (أهل الحل والعقد) دون العامة، وعمد بعض المعتزلة وآخرون إلى القبول ببيعة الواحد لآخر إذا رضيت الأمة، أو تم الاجماع والاجتماع عليه، ليكون خليفة شرعياً، وهذا من باب سد ذرائع الفوضى أو انهيار الدولة، ولم ينس الفقهاء من ترداد الشروط الأخلاقية والعلمية المؤهلة لاستخلاف ولي الأمر، مع علمهم بعدم توافرها إلا بصورة نسبية، كأنه تغطية على الشروط المثالية غير المتوفرة في الخليفة بسبب غياب الاختيار الحر، وانحصاره بالقوة والغلبة والأسرة المتحكمة، وتحول أهل الاختيار إلى أصحاب الشوكة عند الإمام الغزالي، (الاقتصاد في الاعتقاد: 149).
25- العاصمة تقرر اختيار الإمام: وعند الجبائي (معتزلي) استقرار التقليد بأن العاصمة تقرر اختيار الإمام، وإن لم يوجد فيها بحث عنه في مدن أخرى الأقرب منها، وبيعة الأول هي المعتبرة في حال التعدد، ورأى آخرون القرعة بينهما، أو يطلب اعتزال أحدهما، ورأى البعض جواز تعدد الإمامة في ديار الإسلام، إذا فقد الإمام سيطرته على أرجاء الخلافة، على أن يكونوا متعاونين فيما بينهم على البر والتقوى، وكان هذا كأمر واقع، في فترة الضعف الشديد للخلافة والخليفة، مع اعتراض الغالبية على هذه الفتوى، بأحاديث وحدة الأمة والكلمة، وتعددت الآراء في اشتراط القرشية، وتعددت في تولية المفضول مع وجود الأفضل، كما تعددت في جواز ولاية العهد ورفضها، كما اختلفوا في صفات ولي الأمر المعتبرة، كما تعددت الآراء في اعتبار بيعة عثمان وولايته الثانية، وولاية علي.
26- عوامل التأثير في الفكر السياسي: الإسلامي ثلاثة: 1- الأصول الإسلامية: (كتاب وسنة )، 2- الأصول التاريخية: التجارب الواقعية والخبرة، (الراشدية – الأموية – العباسية) والإجماع، 3- الأصول العملية: الناتجة عن علاقة الفقهاء بالخلفاء، والأحزاب المعارضة، وظهرت آثار هذه العلاقة في كثير من كتب الفقه والتفسير والحديث، أما المعتزلة فلقد ظهرت وتميزت آراؤهم عن غيرهم لما اتقنوه من علم الكلام، ولما تحلوا به من الحياد والابتعاد عن الخلفاء أول أمرهم، وعبر عن موقفهم كلٌ من الجبائي وأبو الحسن الأشعري، والماتريدي، وظهرت بعض الآراء السياسية في كتب: (الخراج لأبي يوسف، والأموال لأبي عبيد، والأموال لابن زنجويه، ومسند الإمام أحمد، وكتب الحديث)، واتخاذ الفقهاء المرحلة الراشدية وقيمها وتطبيقاتها النموذج الشرعي الذي ينبغي أن يحتذى على الدوام، وإن لم يكن يتم تطبيقه على الدوام، سوى في حالات استثنائية.

رد
محمد نبيل كاظم
المشاركات: 819
Admin
بداية الموضوع
(@mohammed-nabil-kazim)
عضو
انضم: مند 5 سنوات
تتمة غياث العرب من استمرار الجرب
(5): خلاصة كتاب " غياث الأمم " للجويني (419-478هـ)

1- من أقوال الإمام الجويني: " الإمام القائم بالحق الواجب، على الخلق طاعته" .
واشترط لتولية الإمام اتصافه بالنجدة، وفسرها تلميذه أبي حامد الغزالي: " المراد بالنجدة: ظهور الشوكة، وموفور العدة، والاستظهار بالجنود، وعقد الألوية والبنود، والاستسكان (أظنه يقصد الاستقرار ) بتظافر الأشياع والاتباع، من قمع البغاة والطغاة، ومجاهدة الكفرة والعتاة، وتطفئة ثائرة الفتن، وحسم مولِّد المحن؛ قبل أن يستظهر شررها وينتشر ضررها". وقال الجويني: " الإمامة ليست من قواعد العقائد، ومعظم القول في الولاة والولايات العامة والخاصة مظنونة" أي سبيلها الاجتهاد، " وأن عقد الإمامة هو اختيار الإمام؛ من أهل الحل والعقد، وهم الأفاضل: المستقلون الذين حنكتهم التجارب، وهذبتهم المذاهب، وعرفوا الصفات المرعية فيمن يناط به أمر الرعية، والبيعة تصير بحصول عدد من الأتباع والأنصار والأشياع، يحصل به شوكة ظاهرة، ومنعة قاهرة"، كما فعل الصحابة حينما اختاروا أبا بكر وعمر.
2- وقال: " عمَّ من الولاة جورها واشتطاطها، وزال تَصوُّن العلماء واحتياطها، وظهر ارتباكها في جراثيم الحطام واختباطها (الخوف على الرواتب والمناصب)، وانسل عن لجام التقوى رؤوس الملة وأوساطها، وكثر انتماء القراء إلى الظلمة واختلاطها، فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة! فقد جاء أشراطها".
3- صفات أهل الحل والعقد:
لا دليل معتبر على التحقق الجازم من هذا الأمر، فيبقى الاجتهاد والدليل الظني هو المقبول لهذه المسألة، واستبعد: 1- النساء، 2- والعبيد، 3- والعوام، 4- وغير المسلم، من الاختيار، واشترط البعض توفر أهلية الاجتهاد، ونفاه الباقلاني، اكتفاء بالعقل، والكيس (الفطنة)، والفضل، والبصيرة، مستدلاً باكتفاء كل صاحب اختصاص بعلم ما في اختصاصه، ومثل بالحكَم بين الزوجين، الخبير بأصول المعاشرة الزوجية، (المرشد الأسري)، ويعقب الجويني قائلاً: " من لا يوثق به في باقة بقل، كيف يُرى أهلاً للحل والعقد؟! وكيف ينفذ نصبه على أهل الشرق والغرب؟! ومن لم يتق الله لم تؤمن غوائله، ومن لم يصن نفسه لم تنفعه فضائله، ولا يشترط لعقد البيعة إجماع الجميع، والمهم حصول الشوكة بها، ومعظم مسائل الإمامة عرية عن مسالك القطع واليقين.
4- صفات القوَّام على أهل الإسلام:
السلامة الجسدية والصحية، والقرشية خبر آحاد لا يعيق عدمها إذا تحققت الشوكة، ومن الصفات: الرجولة، والحرية، والعقل، والبلوغ، والشجاعة، والشهامة، والعلم بما يحقق الكفاية، والورع، ولا بد من الورع والتقوى: إذ لا يوثق بفاسق في الشهادة على فلس، فكيف يولى أمور المسلمين كافة؟ وكما أن الأب الفاسق لا يعتمد في مال ولده، فكيف يؤتمن في الإمامة العظمى، لأن من لم ينهض رأيه بسياسة نفسه، فأنى يصلح خطة الإسلام، وأن يتحلى بالنجدة والكفاية، لأن مصالح الناس والدين والأمة متعلقة بهاتين الصفتين، ومن لم يتصف بها، فجميع ما فيه من المآثر تصير وسائل ووصائل إلى الشر، وطرائق إلى اجتلاب الضر
5- الطوارئ التي توجب خلع الإمام:
الجنون بالإجماع، والخبل والعته بمنزلته، و(الفسق المؤثر) الذي يحتاج إظهار أثره وخلله، والأمر مفوض إلى نظر الناظرين، واعتبار المعتبرين (أهل الحل والعقد)، وإذا أسر بفسقه ولا رجاء في قرب فكاكه، فكذلك يُخلَع، وكل سبب يحتاج في إظهار خلله إلى نظر فهو إلى الناظرين، ونعني بالنظر مزيد فكر وتدبر من أهله، يفيد العلم والقطع باختلال أمور المسلمين، بسبب ما طرأ من فسق أو خبل، والخلع إلى من إليه العقد (بصفاتهم) من غير إجماع؛ إلا أن الحاجة قد ترهق إلى الخلع، ونعم لا بد في الخلع والعقد من اعتبار الشوكة، وعقد الإمامة لازم لا اختيار في حله من غير سبب يقتضيه.
6- ولو عين الإمام من ليس على شرائط الإمامة (ولياً له) ولم يكن في حالة التولية على استجماع الصفات المرعية، فالوجه بطلان التولية من جهة أنه أساء في الاختيار، والغرض من العهد تنجيز نظر وكفاية للمسلمين، لقول النبي صلى الله عليه وسلـم: " بعد أن ولى ثلاثة على جيش مؤتة، فإن أصيب الثالث، فليرتضي المسلمون رجلاً منهم" ( )، وإذا استناب في حياته نائباً، وفوض إليه وسلم مقاليد الأمور كلها، وجعله مستقلاً يوكي ويعزل (بانفراد واستبداد) فهذا غير سائغ، لأن تجويزه يجعلهما إمامين وهذا ممتنع.
7- والأكفأ يقدم على الأفضل للمصلحة، لأن الأفضل من غير شوكة لا يحقق المصلحة، وهذا يتبع الظرف الذي تمر به الأمة، ففي حال الاستقرار مع الجهل والابتداع يقدم الأفقه والأعلم، وفي حال الاضطراب والتمرد يقدم العرم الأقوى حزماً وجندية، ليسوس الوقت، وفي حال ضعف سيطرة المركز على الأطراف، يجوز تنصيب نائب له، اضطراراً للمصلحة.
8- وظيفة الحاكم: تحقيق مرضاة الله بتطبيق أحكام شريعته، وتوفير بلغة من الدنيا للناس، وحجز الناس عن الفساد فيما بينهم، ومن مهامه الكبرى حفظ الدين، ومعالمه، وذلك في خرقين الأول: ما يعد كفراً وردة، والثاني: ما يعد بدعة وضلالاً، وليس عليه حمل الناس على مذهب واحد، ورأي واحد، فيما اختلف فيه العلماء والفقهاء، وأن يبث في الناس العلماء لتوعية المنحرفين، والمبتدعين، بالحكمة والموعظة، ومهمة الإمام حفظ الدين، وحسم البدع ما استطاع.
9- وما يتعلق بأصل الدين في دعوة الكافرين به إليه، مسلكان: الأول: الحجة والجدال الحسن، وإرسال العلماء إليهم، على أن يكونوا لطفاء بلغاء حكماء، أما حمل الناس على أداء العبادات، فموكول إلى فقه الفقهاء، ودور الإمام إما طلب ما لم يحصل، أو حفظ ما هو حاصل، ودوره في مصارف المال وجمعه من حله، ومن مهامه تأمين الأمن والعافية، حتى يتسق أمر الدين والدنيا، وأما قتال أهل البغي فينبغي أن يسبقه حوارهم، وتلبية طلباتهم إن كانت حقاً، وإن كانت شبهات أزالها بالبيان.
10- وما يتعلق بالعقوبات فالحدود مفوضة إليه حسب ما في كتب الفقه، والقصاص لا يقام إلا إذا رفع إليه، وأما ما عدا ذلك من التعزيرات، فهي مفصلة في كتب الفقه، ومفوضة لرأي الإمام تسامحاً أو تاديباً، وفي العفو متسع، وعن عائشة رضي الله عنها: " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود" (ر: احمد وأبو داود والنسائي)، ولا أدب في تعذيب مسلم، وتؤخذ الزكوات، وتسد بها الحاجات، فإن لم تف بها، فحق على الإمام الاغناء بهم، فالدنيا بحذافيرها لا تعدل تضرر فقير من فقراء المسلمين، وإن ضاع فقير بين ظهراني موسرين، حرِّجوا من عند آخرهم، وإذا كان تجهيز الموتى من فروض الكفايات، فحفظ مهج الأحياء وتدارك حشاشة الفقراء أهم.
11- فصل: إذا وطئ الكفار ديار الإسلام: قام الكل بمقاتلتهم دون أذن، وإذا خيف ذلك استعد الإمام بالجنود والعتاد لدفع خوف مقدمهم، ولو شغر الزمان عن والٍ تعين على المسلمين القيام بمجاهدة الجاحدين، وإذا قام به عصب فيهم كفاية، سقط الفرض عن سائر المكلفين، إذا عدموا والياً، لأن فروض الكفايات في هذه الحالة لا ينتظر لأدائها مرجعاً وإماماً، وأغنياء كل صقع يبذلوا من المال ما يقع به الاستقلال، لأن المسلمين هم المخاطبون بالأحكام، والإمام في التزام أحكام الإسلام كواحد من الأنام، لكنه مستناب في تنفيذها، وليس في الشريعة مغارم (مصادرة للمال) على اقتحام المآثم.
12- ولا يجوز عقد الإمامة لفاسق، فإذا حُمِلَ أهل الحل والعقد على بيعته، فهذا من المطاولة والمصاولة، وهذا ظلم وغشم يقتضي التفسيق، والإمام ذريعة في حمل الناس على الشريعة، غير أن الزمان إذا اشتمل على صالحين للإمامة، فالاختيار يقطع الشجار، ويتضمن اليقين والانحصار، والمعنى الذي يُلزم الخلق طاعة الإمام، ويلزم الإمام بمصالح الإسلام؛ أنه أيسر مسالك في إمضاء الأحكام، وقطع النزاع، والإلزام.
13- وأرى أن القيام بما هو من فروض الكفايات أحرى بإحراز الدرجات، وأعلى من فنون القربات، من فرائض الأعيان، فإن ما تعين على المتعبد المكلف لو تركه، ولم يقابل أمر الشارع فيه بالارتسام، اختص المأثم به، ولو أقامه فهو المثاب، ولو عطل فرض من فروض الكفاية، لعم المأثم على الكافة، على اختلاف الرتب والدرجات، والقائم به كافٍ نفسه وكافة المخاطبين الحرجَ والعقاب، وأمل أفضل الثواب، ومضمون ما بلغه المرسلون، الدعوة إلى أسباب الخير، واجتناب دواعي الضير.
14- وإذا استشعر أهل الخبل والفساد، أنهم من صاحب الأمر بالمرصاد، آثروا الميل طوعاً أو كرهاً إلى مسالك الرشاد، وانتظمت أمور البلاد والعباد، وإن خلا الزمان عن إمام، وخلي عن سلطان ذي نجدة واستقلال وكفاية، فالأمور إلى علمائهم، فإن عسر جمعهم على أحدهم مع استوائهم في العلم، فالوجه عندي قطع النزاع بالإقراع، فمن خرجت له القرعة قُدِّم.
15- وإن عموم الحاجة في حقوق الناس كافة، كالضرورة المتحققة في حق الشخص المعين، ولهذا لا يكاد يخفى جواز دفع الظلمة، وإن انتهى الدفع إلى شهر الأسلحة، فإن من أجل أصول الشريعة دفع المعتدين بأقصى الإمكان عن الاعتداء، ولو ثارت فيه زائغة عن الرشاد، وآثروا السعي في الأرض بالفساد، فإذا لم يمنعوا قهراً ولم يدفعوا قسراً، لاستمرأ الظلمة، ولتفاقم الأمر، وهذا يعني ظهوره عن الإمعان في البيان.

رد
الصفحة 1 / 4
شارك: