(9): خلاصة كتاب "الجغرافيا والحلم العربي (جيوبوليتيك)" د. جاسم محمد سلطان
مقدمة
تنقسم دراسة الجغرافيا إلى: 1- الجغرافيا الفيزيائية: للأرض وتربتها ونباتها وتضاريسها، وموقعها.
2- الجغرافيا البشرية: سكان ومجتمع وثقافة واقتصاد وسياسة: وهي قسمان: جغرافيا سياسية، الدولة وسيادتها، والعلاقة بين الحكومي والمدني. والثاني: الجيوبوليتيك: علاقة الدولة بمحيطها المحلي والعالمي.
ودراسة الجغرافيا من هذه الزاوية يبين لنا المعطيات التالية: 1- معرفة صناعة القرار الدولي مرتبط بالجغرافيا السياسية، 2- تم تشريد ملايين الناس من العرب وتعطلت التنمية وقامت حروب بسبب ذلك، 3- الصراعات الدولية تعيد صياغة العالم حسب مصالح القوى القوية، 4- الدولة القطرية اليوم لا تستطيع حماية نفسها بدون فهم آلية الصراعات وعلاقتها بالجغرافيا، وهي ذات أبعاد ثلاثة: الإنسان + الأرض+ الزمن.
والجغرافيا السياسية تقدم فهم للمشكلات الاستراتيجية للدول، خاصة المخنوقة منها من غير موانئ وبحار تتنفس منها، مثل روسيا وأفغانستان، وسويسرا، وتعتني كذلك بالمعلومات والاحصاءات للموارد والأنشطة الاقتصادية، وهذا يبين عناصر القوة والضعف في حاضرها ومستقبلها، وهذا مفتاح السياسة القومية للدولة.
مناهج البحث في الجغرافيا السياسية:
1- المنهج الإقليمي: يدرس البيئة الجغرافية وتأثيرها على الشعور القومي، وأهميته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومتعلقات هذه الأمور مع المحيط والعالم.
2- المنهج التاريخي: دراسة تأثير البشر وثقافتهم وجغرافية بلدهم على تاريخهم ونشاطاتهم.
3- المنهج الشكلي: يدرس شكل البلد من خلال شكل الإقليم والاستنتاجات المتعلقة بذلك.
4- المنهج الوظيفي: يدرس أثر القرارات السياسية على الطبيعة والسكان والتفاعل بينهما.
5- المنهج التكيفي: يدرس كيفية تكيف السكان مع البيئة الطبيعية، وأثره على حاضرهم ومستقبلهم.
الجيوبوليتيك: (الجغرافيا السياسية): تدرس طموحات الدولة ومستلزمات استقرارها ونموها وتطورها، من خلال نظرة شمولية أكبر من مجرد المعطيات المحلية، في ضوء المحيط والعالم، لتحفظ كيانها وتقاوم تحطمه، وهذا مرهون بفهم طبيعة العلاقات العالمية والإنسانية، من خلال فهم سياسات الدول، وفهم معاني القوة المؤثرة، التي تشكل الخرائط الثقافية والاقتصادية والسياسية.
القسم الأول: المقدمات النظرية لهذا العلم
الفصل الأول: طبيعة العالم
- الثابت الوحيد في هذا العالم سياسياً: هو التغير الدائم: فهم العالم هو فهم السياسة والسياسات، لأن ذلك هو الذي يشكل شكله النهائي، ودور الصراع بين القوى العالمية، ومفاتيح النجاح والفشل في هذا الفضاء، لأن سنن التدافع بين الأمم هو القانون الحاكم لتصرفاتها وعلاقاتها، تقدمها أو تخلفها، والخطأ في التقدير كارثي للبعض، وانتصار للبعض الآخر، وينتج هذا عن:
1- المستوى المعرفي للأمم، والقدرات التنظيمية والتخطيطية، والإنتاجية.
2- قدرات المجتمع والدولة الاقتصادية في كل المجالات يحدد قدراتها على المواجهة.
3- القدرات العسكرية والأمنية لمجتمع، محصلة لما ذكر في الفقرات السابقة.
- أسباب التدافع: رغبات الإنسان غير المحدودة، ونموها المستمر ينعكس على بيئته ومجتمعه ودولته، فيتحول من ضمان الوجود، إلى تحقيق تنمية الموارد، حتى يشعر بالاستقرار والأمان، وتحول الإنسان من صياد، إلى مزارع، وإلى تدجين وتربية الحيوان، ثم استخدم سلاح الصيد للدفاع عن نفسه، وتجمع في قبائل لزيادة قوته أمام المخاطر المحدقة، وبالتالي تكون لديه الشعور بالهوية وتحقيق الذات، من خلال ثلاثية:
التجمع والتنظيم + التسلح + الحركة والتنقل (من البدو إلى الحضر)، ومن الصحراء إلى المدن، وأصبح العيش البسيط تخلف، والعيش المركب تقدم وحضارة، استدعت: الكتابة + التاريخ + الهوية، وأصبح إحداث الفارق بين الأمم والدول، سبيل للهيمنة والتسلط والحروب، وشهد العالم أخيراً فارقاً بالمعرفة بين الأمم وفارقاً بالسلاح والقوة والاقتصاد، فغير المشهد العالمي، في أوروبا والعالم، بثورات في فرنسا وأمريكا وروسيا.
عصر الدولة القومية: تبلور من خلال وجود مشتركات ثقافية وتاريخية بين مجموعات بشرية جمعتها ظروف وقيادات شكلت منها دولاً حديثة ذات طموحات تقدمية انعكس على واقعها من خلال التطور المعرفي والإنتاج الاقتصادي، فانعكس على طموحاتها وتطلعاتها في القوة والهيمنة، فاندفعت إلى استعمار الدول الضعيفة والممزقة، فحول الغرب العالم إلى أسواق، ومستعمرات، وأسواق نخاسة، يتنافس الغرب عليها، مما أدى إلى الصراعات البينية الأوربية، فاشتعلت حربين عالميتين بسبب هذا الأمر، فتغيرت خريطة العالم، وتولد صراع جديد: الشيوعية والليبرالية، ثم انهار الاتحاد السوفييتي والشيوعية، واليوم سيطرت أمريكا على العالم، لكن دوام الحال من المحال.
الجاهزية لمفاجآت الجغرافيا: على الدول العربية وصناع القرار، الاستعداد للأسوأ والجاهزية للمفاجآت واقتناص الفرص للخطو نحو الأمام.
الفصل الثاني: نظريات العلاقات الدولية ومتخذ القرار
كيف يفكر عالم القوة؟ 1- نظرة الفرد إلى واقعه والآخر، ونظرة الدولة إلى مصالحها والآخر، يعتبران محددات العلاقات الدولية، فنظرة أمريكا – المسيطرة – تنظر إلى العرب مهدداً لأمن إسرائيل وبالتالي لأمريكا والغرب.
2- وترى أن ضمان مصالحها تأمين النفط العربي، ومكافحة الإرهاب الإسلامي، ومن العرب من التوحد والتسلح والنمو. 3- وتنظر إلى المؤسسات الدولية – وميزانيتها منها – على أنهم مجرد موظفين برواتب.
نظريات العلاقات الدولية: يسار ويمين، لكن هذا لا يمنع تحالف هذا مع ذاك من أجل المصالح، فيبقى الانتماء نظري، ولا يمنع الليبرالي من التعصب الديني تجاه الآخرين، لتبرير السيطرة والاستغلال، بحجة المصالح المتغيرة، وهذا ما يظهر في العلاقات الدولية والعلاقة مع المؤسسات الدولية.
الليبرالية: نظرياً: تؤمن بالديمقراطية، والانتخابات، وحرية الإنسان، والتجارة الحرة، وحرية الاعتقاد.
الليبرالية الجديدة: هي أقصى اليمين، ورأسمالية بامتياز، وأبدعت فكرة العولمة، والشعور بالتفوق الغربي والأمريكي، وجدارة القوة، والميل للمسيحية التبشيرية والصهيونية، والسيطرة على العالم باسم الرب، وأن أمريكا وصية على الناس، وينبغي أن تبقى متفوقة، مع اختلاف طفيف بين فترة حكم رئيس وآخر، لصالح فئات أو آخرين من المجتمع الأمريكي.
الواقعية: التعامل مع العالم من خلال التفكير في المصلحة، بغض النظر عن المبادئ والإيديولوجيا، لتحقيق مصالح قومية ونفوذ، والقوة هي الحكم، والسياسة والسياسات صراع من أجلها، والدول تفكر بمنطق الفرد ومصالحه، وموجهها في ذلك فلسفة مكيافيلي، هاجم أو سالم للمصلحة، ويحكمها:
- الأفراد يصارعون للبقاء.
- الدولة تصارع من أجل مصالحها والقوة.
- النظام الدولي صراعه مستمر لهيمنة الأقوى، والأخلاق تقاس بنتائجها المصلحية، والمعاهدات مجرد مهادانات.
الواقعيون الجدد: يؤمنون بتوازن القوة، وتحددها بنية النظام، وفاعلية المعايير فيه، وتركز عليهما.
نموذج: العلاقات الأمريكية السوفييتية في الحرب الباردة بينهما: نفذت من قبل أمريكا بسياسة الاحتواء، وتطويق تمدد الشيوعية، في دعم الصين وباكستان، وآخرين.
المنظور اليساري الجذري: يراه ماركس واليسار، في صراع الطبقات، والبرجوازيات، والمنظمات الدولية، وان النظام العالمي الرأسمالي والبرجوازية هو المتحكم في السيطرة، والتغيير لا يتم بغير الثورة عليه، والأفراد هم نتاج طبقتهم الاقتصادية.
نموذج: السوفييت في الستينات اتجهت لتكوين أحزاب شيوعية في كل أنحاء العالم، لقلب أنظمة الحكم، وحققت بعض النتائج في عدن – وأنجولا – وفيتنام – وكوبا – وعدد من دول أوروبا الشرقية.
مواقف بعض الدول: - (الاستقلالية): مثل الصين – الهند – تركيا. و(التبعية): كوريا الجنوبية – اليابان – بريطانيا – الدول العربية. و(التمرد): إيران – كوريا الشمالية – كوبا.
(المناورة): من بعض الدول تبع لحجم الأهداف التي ترغب في تحقيقها، و(التبعية): لا أهداف لأصحابها سوى الكرسي الذي يجلسون عليه، ونجد أن محددات دول العالم المركزية ثلاثة أمور: 1- فجوة قوة المعرفة والعلم.
2-اختراع الآلات وأدوات الحرب. 3- فكرة تفوق الرجل الأبيض الغربي.
الفصل الثالث: حلم السيطرة على العالم
نموذج جنكيز خان: قال: " يا أبنائي أترك لكم مهمة استكمال فتح العالم وإخضاعه"
من الفرقة إلى الوحدة: عام 1155م ولد "جنكيز خان"، على ضفاف نهر اوتون جنوب سيبيريا، من أب مقاتل شرس ضد التتار، سيد لقبيلة قيات، ولما مات الأب تعرضت أسرته للإذلال من قبائل أخرى، فلجؤا للجبال، وبرزت خصال الغلام في الشجاعة والوفاء والعدل، فأحبته قبيلته وآخرون، فنصبوه "خاناً أعظم" فبرزت خصاله التنظيمية ودهاؤه السياسي، وحسن اختيار قادة الجيش، فأحرز انتصارات باهرة، وكبرت أهدافه، مع تعاظم انتصاراته، فأخضع الصين لحكمه ودخل بكين 1215م ، وتمرس على فهم أسرار القيادة الناجحة، بحسن التنظيم، وبراعة الاستراتيجيا، وحنكة التكتيك، ومعرفة الرجال، وحسن اختيار الأعوان ومداراتهم، وحسماً وصرامة مع الأعداء.
الدستور وأسرار الإدارة: نظم للبلاد لائحة دستور مكتوب يحكم العادات، وطلب من (اليغور) تعليم أبناء المغول الخط (الكتابة) فانصهرت القبائل في " الدستور الجديد " (الياسا) ومشروعه الأمبراطوري الكبير، واستعان بالحكيم الصيني " داي " الذي اختاره جنكيزخان وولاه أمو تنظيم الأمبراطورية، فقلل التكاليف، وحفظ الأمن، واتسعت أمبراطوريته عام 1405م إلى حوض الدانوب في أوروبا، وبحر اليابان، وحدود روسيا وفلندة، حتى كمبوديا، في مساحة (30) مليون كم مربع، وسيطر على العالم القديم تقريباً.
التفكك والانهيار: الحروب على جبهات متعددة وطول طرق الإمداد، انهك الأمبراطورية، خاصة لتعدد وتباين ديانات شعوبها حسب المناطق المفتوحة، بين وثنية وبوذية وإسلام ومسيحية وغيرها، مع تراكم بعض الهزائم التي أضعفت الروح المعنوية العامة، ونشأ صراع حول السلطات بين النخب، والاستقواء بالآخرين لتحقيق المكاسب، فقوض هذه الأمبراطورية عام 1335م. ولا يختلف عالم اليوم عن عالم الأمس في الطموح للتوسع والسيطرة، لكن للعصر متطلبات قد لا تتقاطع مع هذا الحلم، فيستغله الأقل حظاً لتحقيق مكاسب أكبر لبلادهم وطموحاتهم، فينتج عن ذلك الفشل مرة والنجاح أخرى، إلى أن يظهر قائد محنك جديد يقنع من حوله والعالم بمشروعه فينتصر إلى حين.
الفصل الرابع: الجيوبوليتيك والحلم الأمبراطوري
روح الجيوبوليتيك: أو الجيوستراتيجي، ولا مشاحة في الاصطلاح، وهي ثقافة سياسية مرتبطة بالجغرافيا، وعلاقتها بقوة الدولة وهندسة سياستها الخارجية ونشاطاتها، وروح هذا العلم ولد مع نهوض وتوسع الامبراطورية البريطانية، وخدم أحلامها وطموحاتها، في صناعة القوة، والاستقرار، والتنظيم، والرؤية، حسب النظريات التالية:
1- نظرية راتزل الألماني: (البقاء للأقوى): يصور الدولة ككائن عضوي يكبر وتزداد حدودها كازدياد تمدد جلد الإنسان بنموه وكبر صاحبه، وهذا ما كان يحدث مع ألمانيا وازدياد قوتها واتساع حاجاتها لتلبية طلبات هذه القوة، فبرر لبلده بهذه النظرية توسع الحركة النازية بها وبمطامعها، وهذا ما يحدد حدود الدولة بالقوة والمصالح لا بالخطوط والخرائط. وهذا بدل مفهوم (الحدود البيولوجية): الاستعمارية- ب( الحدود الشفافة): المصالحية بالترغيب أو الترهيب، - بحجة مساعدة أو حماية – أو قواعد عسكرية – أو تحالفات غير متكافئة، مثال: أمريكا/ وجنوب السودان – والصين/ وتركستان- وأمريكا / وكوريا الجنوبية- وفرنسا/ وتشاد – وإسرائيل / وأراضي فلسطين.
2- نظرية ماكندر البريطاني 1904م: (العالم جزيرة كبيرة): وله نقطة ارتكاز (قلب العالم) ، يتحكم فيه عبر الطرق البرية، تجارياً وعسكرياً، وهي أكثر تمكناً من القوى البحرية، وهذا ما سعت إليه بريطانيا في سيطرتها على مستعمراتها، وتطويق مخاطر الدول الطامعة بهذا القلب مثلها، تطويق روسيا، وتطويق فرنسا.
3- نظرية ماهان 1914-1940م: الأميرال البحري ماهان الأمريكي، يرى تفوق القوات البحرية على البرية، في السلم والحرب، لأنها محصنة بالمياه، وتتحكم بطرق التجارة، شرط تحقيق الميزات التالية:
1- التموضع الجغرافي.
2- قرب الموانئ والموارد والمناخ المناسب.
3- اليابسة لأصحابها كبيرة.
4- عدد السكان يسمح بالدفاع عنها.
5- مجتمع مولع بالبحر والتجارة.
6- حكومة راغبة بالهيمنة على البحار. وتبنى ذلك الرئيس روزفلت (1882-1945م).
4- نظرية سبيكمان (1893-1943): (ضبط حركة العالم): عبر مسارين:
أ- إيجاد نظام عالمي لتوازن القوى، كالأمم المتحدة.
ب- السيطرة على الهلال الداخلي في قلب العالم، للتحكم بعدها بالعالم كله، والهلال هو:( قارة أوروبا+ العالم العربي+ إيران وأفغانستان+ الصين + جنوب شرق آسيا وكوريا).
الخلاصة: نظريات الجيوبوليتيك تفسر لنا محاولات الدول الكبرى المتمتعة بالقوة –العسكرية والاقتصادية- للسيطرة على العالم من خلال التحرك حسب هذه النظريات، و(منظمة الأمم المتحدة )غطاء لتنفيس ما يقع على الصغار من الدول والهيئات، دون أن تمتلك آليات التنفيذ، [حبر على ورق]، له شكل أخلاقي غير فعال.
الفصل الخامس: الاقتصاد والسياسة والأمن القومي
بنية الاقتصاد العالمي وأثره على السياسة العالمية: كانت الهند والصين (طريق الحرير) للتجارة الدولية إلى البحر الأحمر والمتوسط، ومنه إلى أوروبا، إلى القرن 15م اكتشفت أوروبا طريق رأس الرجاء الصالح، والأمريكتين، وثرواتهما، فتغير ميزان التجارة العالمي لصالح أوروبا، وزاد مع ظهور المطبعة انتشار المعرفة والعلم فيها، فظهرت نتائج ذلك في نهضة أوروبية متسارعة، حرك نشاط الموانئ بشكل ملموس وكبير، فتغير الفضاء الفكري والسياسي في الغرب باتجاه التطور والحرية والأنسنة والفن والإبداع، والصناعة والرفاه، وإصلاح التعليم، والبحوث، والنظريات الكونية الفلكية لغاليليو، ونيوتن، أبطلت مقولات الكنيسة وهيمنتها، وأبدع ديكارت ( ت: 1650م) في شرح سلطة العقل، الممهد للنهضة الحديثة الأوربية في القرن 17م.
أوروبا القرن 18م عصر التحولات السريعة: يسمى عصر التنوير والنهضة، والمفكرين الكبار، [ جون لوك- وتوماس هوبز- مما مهد للفكر الديمقراطي] وانتشار التعليم والجامعات، والمجلات العلمية، حتى على الشعب (مجلة العلوم الشعبية) ، فانتشر العلم على نطاق واسع في كل مرافق المجتمع الأوربي ودوله، حتى تحول إلى صناعات عملاقة خاصة الحربية، فانعكس على قدراتهم التوسعية والسيطرة.
المرحلة الأولى من الثورة الصناعية: (1750- 1850م): تحقق لأوروبا ثورة في الزراعة، والتكنولوجيا، والغزل والنسيج، والمحركات، والعمران، والسكة الحديد، وتشكلت الرأسمالية الصناعية.
المرحلة الثانية من الثورة الصناعية: (1850-1914م): تحقق لها تطور في صناعة الصلب والكيماويات والنفط، والفولاذ، والسيارات، والهاتف، وصناعة الطائرات، وتحقق بالآلات كثافة صناعة الألبسة، وبالصناعة العسكرية احتلت البلدان الفقيرة المتخلفة، وأمنت مواد خام لمصانعها بأرخص الأسعار.
دول القلب أو المركز: أوروبا وأمريكا: تنافست في السيطرة على موارد العالم الثالث، فحقق لها تقدما وقوة اقتصادية غيرت موازين القوى في العلاقات الدولية، تبعه تفوق عسكري لحمايته، وتكونت مؤسسات اقتصادية عملاقة سباقة في جميع المجالات، فحقق لها السيطرة على دول الأطراف الضعيفة الفقيرة بالعلم والتكنولوجيا.
دول الأطراف: كانت ضعيفة هشة متخلفة، تعتمد على الزراعة البدائية، وبيع مواد الخام إذا وجدت، مع خضوع للدول الاستعمارية مباشر أو غير مباشر.
دول بينية: بين دول المركز والأطراف: تتحرك نحو التصنيع والتوازن الاقتصادي، وتلعب دور الوسيط بين الطرفين، أو تلقى الدعم من دولة مركزية.
المناطق الخارجية: هي الدول المتمردة، محاصرة من دول المركز والقوى العالمية، تحاول فكاك نفسها منه، بتحقيق درجة من التطور الصناعي الذاتي، كإيران وكوريا الشمالية، وكوبا، ومن الملاحظ أن أوروبا تحتفظ لنفسها بالتكنولوجيا الدقيقة، وعلوم التصنيع العسكرية، أما مصانعها فتوزع حسب رخص الأيدي العاملة في العالم.
الأمن القومي: يعني محاولة الدولة ضمان وجودها، وقوتها الاقتصادية، والعسكرية والدبلوماسية، أمام الدول المعادية، والمؤسسات الكبرى العابرة للقارات، وحتى الكوارث الطبيعية، والمعلومات الاستخباراتية، والبنية التحتية القوية.
تعريف الأمن القومي: يراه الجيش الأمريكي: حفظ قوة أمريكا من أي تهديدات داخلية أو خارجية، ظاهراً أم باطناً، وتحقيق الأمان للشعب الأمريكي، وحلفائها وقيم احترام حقوق الإنسان، وتحقيق السلام، وهذا يشمل بالدرجة الأولى المصالح الاقتصادية، وتفوقها لقيادة العالم حسب منظوماتها ومصالحها، والهيمنة على موارد الطاقة والمواد الخام، دون اعتبار لحدود الدول ومصالحها، سوى أمريكا والغرب.
القسم الثاني/ الفصل السادس
تطبيقات الجيوبوليتيك في العالم
بنية الاقتصاد العالمي وأثرها على السياسة العالمية: العالم في نظر علم الجيوبوليتيك رقعة شطرنج كبيرة، ومسرحاً للاعبين الكبار والصغار، والقوى اللاعبة تتراوح بين قوى أعظم، وعظمى، واقليمية، ومحلية، وتأثير كل منها يختلف حسب حجم تدخله وقوته، ولو سلطنا الضوء على مورد واحد من الموارد المسببة للتدخل العالمي والصراعات كالنفط: سنجد أن هذه المادة تتعلق بآبارها، وأنابيب مروره، وموانئ تصديره، وممرات الناقلات البحرية، والدول المحتاجة له، وأسواقه، وارتباطه بسلع أخرى، ولهذا ندرك أهميته، وأهمية حماية كل ما يتعلق به مما ذكرناه، وتكلفة هذه الحماية وتداعياتها السياسية والاقتصادية.
الأرض الكبرى: هي جزر توضع فيها البشر، وشكل قواه الكبرى الحالية، وهي: جزيرتي (الأمريكتين) الشمالية والجنوبية، وثلاثة جزر( أوروبا- وآسيا- وأفريقيا)، وجزيرة (استراليا). ترتبط هذه الجزر بمحيطات عملاقة هي: المحيط الهادي، والهندي، والأطلنطي.
روسيا: اليوم كشكل النسر الذي يمد جناحيه باتجاه أوروبا غرباً، وباتجاه الصين والهند واليابان شرقاً، وهي محصورة في حدود برية بعيدة عن البحر المتوسط الدافئ، معبر خيرات العالم ونفطه، (وهو وضع مؤلم لقوة عظمى)، ولهذا تتحالف مع إيران وسوريا، لتصل إلى البحر المتوسط.
الصين( تنين كبير): تشكل صدر النسر الروسي، ولكن يحمي مؤخرته بجبال الهملايا الشاهقة، ويحدها من الشرق المحيط الهادئ الواسع، ليصلها بأمريكا عبره واليابان، وجنوبها دول صغيرة: بورما- وتايلاند- وكمبوديا – والفلبين- وفيتنام، وكوريا، أما من الشرق فحدودها مع دول مضطربة نوعاً ما لحداثتها في الانفصال عن الاتحاد السوفييتي سابقاً، الذي انفرط عقده، وحل محله روسيا فقط.
الهند: مثلث قاعدته للأعلى ينغمس في مياه المحيط الهندي، أسفله يلامس جزيرة سرلنكا، وأعلاه يلامس مؤخرة التنين الصيني، كانت بنغلاديش وباكستان جزءًا منها إلى قبيل الحرب العالمية 1948م [ حيث دبرت لهما مكيدة انفصالهما عنها، ليضعف الجميع] م. ن.
بقية أوراسيا: أطلق عليه الغرب مصطلح الشرق الأوسط (آسيا الغربية +أفريقيا الشمالية) وضُم إليها باكستان وأفغانستان والقوقاز، يستخدم مع مصطلح الشرق الأدنى ( لأوروبا )، ويستخدم في التعبير عن الصراع العربي الإسرائيلي، وهو مصطلح فضفاض صنعه الانجليز، في الصراع مع الروس.
نظرة للجزيرة العربية والخليج: قلة كثافته السكانية، وضخامة مخزونه النفطي والغاز، سبب لمسارعة الدول العظمى في الهيمنة على المنطقة لحماية مصالحها في الطاقة، وهذا ما حدا بالغرب لإقامة التحالفات والقواعد العسكرية فيها، وحصار إيران وتفكيك العراق خوفاً على البترول والغاز.
المحيط العربي وعلاقته بدول الخليج: علاقة ضاربة في القدم والتاريخ واللغة والدين، وهي قوة كامنة محتملة كبيرة، للدفاع عن الجميع، لكنها معطلة اليوم بسبب التشرذم المفروض عليها فرضاً، خوفاً من نهوضه المحتمل.
المحيط الإسلامي الإقليمي ودول الخليج: طموح إيران وتركيا مع التحدي الصهيوني المدعوم غربياً، يشكل عبئاً على دول المنطقة وضغطاً إضافيا مع الهيمنة الغربية الكاملة عليها.
أفريقيا: القارة البكر كأنها مثلث مقلوب، يطل شرقه على البحر الأحمر، وغربه على المحيط الأطلسي، وجنوبه على المحيط الهندي، وشماله على البحر المتوسط، ويتحكم بمضيق باب المندب، ومعبر قناة السويس في مصر، ورأس الرجاء الصالح جنوباً، ومضيق جبل طارق غرباً، [ مليئة بالخيرات والموارد الطبيعية، ويعمل الغرب بكل قوته ودهائه على إبقاءها مخزوناً احتياطياً لمصانعه وحاجاته الحالية والمستقبلية، من خلال المحافظة على عدم حدوث أي تطوير جدي لدى دولها وأبنائها] م. ن.
التدافع العالمي: إذا نظرنا إلى جغرافية الدول بالجملة، نرى العالم والجغرافيا في حالة سكون، منذ قرن مضى على الأقل، في: ( خرائط الدول، وقوانين السلام في هيئة الأمم المتحدة، منزوعة الأظافر، والادعاء بمناصرة الغرب للديمقراطية في العالم وحقوق الإنسان)، ولكننا إذا نظرنا إليه وإليها في حالة الحركة، نجد كل هذه الادعاءات شكلية ومظهرية يكذبها الواقع والممارسة، والدليل الصراعات المميتة والممرضة في واقع الدول الفقيرة والضعيفة في الشرق والجنوب، وهي في أسوء حالاتها، تطبيقاً لقواعد الجيوبوليتيك السياسية المصلحية، دون أي اعتبار للمبادئ والقيم الإنسانية الفاضلة، ونجد تنافس الدول على ما يحتاجون إليه من موانئ، وقمح، وطاقة، ومعرفة، ويد عاملة، وممرات آمنة.
الدول مختلفة التوجهات: دول غير طموحة لشيء، ودول أيديولوجية (بالقومية، أو الدين، أو الفكر)، ودول متصارعة على موارد الطاقة والمياه، وبذريعة الأمن القومي ترتكب كل الموبقات، (بدءً من الوسائل الناعمة الإعلام والدعاية، إلى الحصارات، إلى العسكرة والحرب ) ومنها الصراع الخفي بالاستخبارات، والاغتيالات، والانقلابات، ودعم الثورات، والتلاعب بالمعلومات، وقلب الحقائق.
إذا أردنا أن نرسم شكل الصراع العالمي ونتصوره، يمكننا أن نقول: أنه 1- يشكل النسر الأعظم: رأسه روسيا، وصدر هذا النسر الصين، وقدميه: الهند، وكوريا الشمالية، وجناح النسر الأيمن (ديناصور) أوروبا، وجناحه الأيسر إلى اليابان، في مقابل مثلثين معكوسين كفكي كماشة، الأمريكتين (الشمالية والجنوبية)، والصخرة التي يريد الجميع المتصارع استخدامها وإلقاءها في وجوه بعضهم، هي المثلث المأزوم (أفريقيا الذهب والألماس).
الفصل السابع: مستويات وطبقات دول العالم
المستوى 1: الدول المبادرة: تملك إرادة وطنية، تمتلك قدرات القرار والفعل، مستعدة للتمدد خارج حدودها الجغرافية، كأمريكا، وروسيا، وفرنسا.
المستوى 2: دول القابلية: كالصين، والهند: تمتلك الإرادة والقدرات، لم تلعب خارج حدودها بعد.
المستوى 3: دول الطموح الإقليمي: كتركيا، وإيران: ليست مؤهلة بعد لهذا الدور الذاتي في التمدد، مع تطلعها للطموح الإقليمي، وقدراتها الإقليمية المتميزة بالنسبة لجيرانها.
المستوى 4: دول المسرح: تلعب دول المبادرة في أرضها دور [الشرطي والإقطاعي والتاجر والمغامر] م. ن ، كأفغانستان، وبعض دول الخليج، وليس لدى قادتها رؤية ولا دافع للعب دور مستقل.
المستوى 5: دول الخمول: تمتلك الإمكانات والإرادة، لكن تفتقد دافع التمدد حالياً، لأهداف داخلية، ترضى بالتبعية، كاليابان، وبريطانيا.
المستوى 6: دول الحضور: مستوى جديد رتب له بثقل المستوى الاقتصادي ليكون فاعلاً إقليمياً في خدمة مشاريع الكبار، كدولة قطر والإمارات.
الأسئلة الاستراتيجية للفاعل السياسي كدولة
1- ما هي رؤية قادتها وطموحاتهم؟ كل إمكانات الدول المادية والبشرية والجاذبية الحضارية لا تعني شيئاً دون إرادة تحركها نحو هدف واضح يستحق، قال نابليون: " إن جيشاً من الأسود يقوده أرنب سيخسر، وجيشاً من الأرانب يقوده أسد سينتصر".
2- ما هي قدراتها وإمكاناتها؟ تتفاوت قدرات الدول الاقتصادية والعسكرية والعلمية، وأهمية موقها وتاريخها وعدد سكانها، كمعطيات لتأثير الفعل السياسي وتوابعه.
3- احتياجات الدول ومخاوفها: هي التي تلعب الدور الأكبر في الأسباب الدافعة لها للتحرك خارجها.
4- ما هو محيطها وما علاقاتها به؟ التوازنات الدولية هي المحرك لأي لاعب سياسي، ويقابله حركة آخر.
5- ما أثر تحرك دولي على قوى أخرى؟ كاللعب على رقعة شطرنج وأحجار الدومينو، إما لمعادلة الآخر استراتيجياً، كروسيا وأمريكا، صعود بصعود، واحتلال باحتلال، أو مشاركته استراتيجياً: فرنسا وأمريكا في أفريقيا، أو السيطرة عليه استراتيجياً: كما تم مع ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، أو تقليل الخسائر واحتواء الأضرار: كما يتم مع دول الثورات.
الفصل الثامن: بعض تطبيقات الجيوبوليتيك
-ألمانيا النازية والمنظور الجيوبيوليتيكي: المجال الحيوي لألمانيا النازية، مدد جلدها إلى التهام النمسا، ثم تشيكوسلوفاكيا، ثم بولونيا، ثم لتوانيا، ثم الدنمارك، ثم النرويج، ثم هولندا، ثم بلجيكا، ثم فرنسا، ثم البلقان ( يوغوسلافيا واليونان وكريت ).تطبيق فكرة قلب العالم: سعى هتلر لغزو روسيا، وطوق ليننغراد، وأخذ اوكرانيا، وانكسر عند ستالينغراد، وتوقف مشروعه، ثم تقهقر.
-أمريكا وتطبيقات الجيوبوليتيك: هي روما العصر الحديث، كأكبر قوة اقتصادية وعسكرية وعلمية، مكنها من أن تقوم بدور شرطي العالم اليوم، مما دفعها إلى أن تتحالف مع القوى البحرية العالمية (بالشبه بينهم) كونهم جزر بحرية، بريطانيا واليابان، للسيطرة على الدول البرية قلب العالم التي تمتلك الموارد والمضائق والموانئ، يعينها مع الأسطول البحري، أسطول جوي، وتمكن من شبكات الاتصال الالكتروني.
-أمريكا كفلسفة علاقات دولية: قوتها جعلتها تصوغ العالم على شاكلتها ومقاييسها ومصالحها، فلا تسمح بأي قوى تقترب من شواطئها، وكندا والمكسيك، ملحقات بهيمنتها على المنطقة، أما كوبا فتمردت على التبعية، وبقيت مستقلة، وتبعتها فنزويلا في التمرد، أما أمريكا الجنوبية، فبقيت لعقود ساحة لعب انقلابات واضطرابات لصالح أمريكا، واليوم تفك البرازيل والارجنتين قيود معصمها الأمريكية، كقوى ناهضة وديمقراطية.
-الترتيبات العسكرية الأمريكية للسيطرة على العالم: هناك 13 أسطول أمريكي تجوب بحار العالم، يبلغ وزنها 13 ضعف وزن مثيلاتها في المرتبة، كل أسطول فيه حاملة طائرات، وسفن هجوم برمائية، وغواصات، وسفن صواريخ كروز الموجهة، ومدمرات سفن تحمل طوربيدات بحرية، وفرقاطات حماية، قريبة من كل المناطق، مع سرعة الحركة للتدخل.
القواعد الأمريكية العسكرية: داخل أراضيها [ 6000] قاعدة، و[ 702] قاعدة في أكثر من 130 دولة صديقة، في بريطانيا، وأوروبا، وأفريقيا، والشرق الأوسط، واليابان، وآسيا الوسطى، واستراليا، وآسيا القصوى.، بالإضافة إلى عقود تسهيلات في استخدام أراضي الدول لعملياتها العسكرية، وأحلاف مع دول منها حلف الناتو كذراع عسكري متعدد المشاركة والدول، ودرع صاروخي: دفاعي لحماية أوروبا وأمريكا، موجه إلى روسيا، لمواجهة الصواريخ العابرة للقارات.
حرب النجوم: نظام دفاعي يعتمد على المحطات الفضائية، لتوجيه أسلحة الليزر، لإسقاط الأسلحة البلاستية الموجهة.
التحكم بشبكة الاتصالات: تسيطر أمريكا على شبكة الاتصالات العالمية ، فتصلها كل الرسائل البريدية الإلكترونية أولاً، ثم تمر على دول العالم، فأسرار البشرية لديها بالجملة.
الترتيبات الأمريكية غير العسكرية للسيطرة على العالم
1- الأمم المتحدة: أكبر المنظمات الدولية، لحفظ الأمن والسلام الدوليين، وهي فكرة أمريكية، أعطتها أرض ومبانٍ وتمويل مقرها نيويورك، وضع لها دستور من 14 نقطة الرئيس ويلسون، وترومان من بعده، لمنع الاعتداء، وبعد اربعين يوماً من إقراره ضربت أمريكا هيروشيما بالقنابل النووية.
وكان حق الفيتو في مجلس الأمن، سبباً لتحويل أمريكا الاعتراضات فيه إلى الأمم المتحدة، لتحصل على تصويت الدول في موافقتها على تدخلها، المعارض من أحد الدول الأربعة، ( فرنسا- بريطانيا- روسيا- الصين)، ولهذا تحاول زيادة عدد أعضاء مجلس الأمن، لتمرير وتسهيل تدخلها في أحداث العالم.
2- التحكم في الاقتصاد العالمي: بعد انتصارها الكبير في الحرب العالمية الثانية 1944م صاغت النظام الاقتصادي العالمي بحيث يخدم مصالحها من خلال:
أ- إنشاء صندوق النقد الدولي: (1945م): تساهم فيه مع الدول الكبرى بأكبر حصة، وتفرض شروطها في الاقراض للدول للتدخل في سياساتها المالية، ومراقبتها، وطريقة تقديم المساعدات للدول المحتاجة.
ب- البنك الدولي للإنشاء والتعمير: وهو المسؤول عن القروض التنموية وشروطها للدول.
ج- المنظمة العالمية للتجارة: للتحكم بالاقتصاد العالمي من خلال الحصول على تسهيلات للموافقين، وعقوبات للمعترضين، لصالح أمريكا والكبار.
د- منظمة الجات GATT: منظمة عالمية ذراع اقتصادي لتحرير التجارة العالمية من حمائية الدول النامية والضعيفة.
قوة الانتاج المعرفي والإعلامي والرياضة: أكبر دولة ناشرة للكتب، ومؤسسة لمراكز الأبحاث، وأقوى الجامعات، والجامعات المتميزة، بالإضافة إلى السيطرة على وكالات الأنباء، والفضائيات، وشركات السينما وصناعة الرياضة والترفيه، وبهذا تجمع بين سيطرة القوة الناعمة، والقوة الخشنة معاً.
الفصل التاسع: عالم ما بعد أمريكا والقوى العالمية
- بعد الحرب العالمية الثانية: برز عملاقان كأسياد على العالم، أمريكا رفعت راية إيديولوجيا الحرية والديمقراطية، وروسيا راية الاشتراكية واتحاد العمال، وشهوة كل منهما السيطرة على العالم والتحكم فيه، اهتم كل منهما بالعلم والمعرفة وسيلة للوصول إلى التفوق الاقتصادي والعسكري، لكن السوفييت لم يستطيعوا بنظامهم الاشتراكي من مجاراة أمريكا والغرب في قوة الاقتصاد، وبالتالي القوة العسكرية، على رغم أن السوفييت سيطروا بأحزابهم الشيوعية على بلدان أوروبا الشرقية بالكامل، ودعموا ثورة الصين وفيتنام وكوريا الشمالية، واستخدم الغرب قوة الدعاية والإعلام والسينما والتحالفات، وحدثت أزمات متعددة في برلين، وتايوان، وكوريا الجنوبية، وكوبا، وبراغ، وآخرها أفغانستان التي كانت سبباً في هزيمة السوفييت(1979م- 1989م)، وانهيار الاتحاد السوفييتي، واضمحلال وانتهاء الشيوعية.
تفكك الاتحاد السوفييتي خلَّف 15 دولة في خمس مجموعات: 1- السلاف: (روسيا – وأكرانيا – وبيلاروسيا) 2- البلطيق: (إستونيا – وليتوانيا- ولاتفيا) 3- والأتراك: (تركمانستان- وكازاخستان- وأوزبكستان- وقرغيزستان) 4- والقوقاز: (أرمينيا- وجورجيا- وأذربيجان) 5- وأخرى: (مولدافيا – وطاجيكستان) 6- ومنطقة مضطربة في البلقان الأوربية: ( صربيا- والجبل الأسود- وكرواتيا- والبوسنة والهرسك- وألبانيا) 7- وأخرى مضطربة في شبه الجزيرة الهندية الصينية: ( كمبوديا- ولاوس- وفيتنام- وميانمار- وسنغافورة- وتايلاند) بشكل عام.
- الصين تدخل المعادلة: دخلت الصين بثقلها السكاني الملياري، والدافع القومي الإيديولوجي، والدولة المركزية الحديدية، والتخطيط المرن الاستراتيجي، والتقدم المحسوب ببطء ودقة، واجتذاب الشركات العالمية العابرة للقارات رغبة في التصنيع فيها لرخص اليد العاملة فيها، مع سياسة متحفظة من الولوج في السياسة العالمية إلا فيما يتعلق بمصالحها المباشرة، وهي تركز على التفوق الصناعي، وتثني بالقوة العسكرية للدفاع عن مصالحها فقط، وتوفر مداخيلها للتقدم والنهضة والتعليم والصناعة.
- روسيا تخرج من بين الانقاض: روسيا العملاق الآسيوي، على رغم ما خسرته بتفكك الاتحاد السوفييتي عنها، لا زالت تمتلك الطاقة العلمية، والروح القومية المتوثبة، وحضور تاريخها الشيوعي العالمي، وإن تخلت عن إيديولوجيته اليوم، لكن روح التفوق والشعور بالعظمة لا زال له أثر في الحماس لاستعادته، ولذا هي هاجس الغرب اليوم كما كان في الأمس، وتحاول تنمية اقتصادها، وفك الحصار المفروض عليها منه، وما تحالفها مع إيران، وتدخلها في سوريا، إلا من هذا الباب، ولكن هل يمكنها منافسة الغرب وأمريكا جدياً، نظامها الديكتاتوري يقلل من هذه الفرصة ويضعفها.
- نمور آسيا: حققت كلٌ من (سنغافورة- وماليزيا- وتايلاند- وأندونيسيا- وكوريا الجنوبية) قفزة اقتصادية صناعية كبيرة، خلال ربع قرن الأخير (العشرين) من خلال التركيز على صناعة الإنسان الناجح، بتبني:
1- تشجيع الاستثمارات الأجنبية وتسهيل قدومها. 2- تيسير التعامل مع الدول الغنية. 3- الاقتداء بالنموذج الياباني. 4- غياب البيروقراطية في البنى السياسية والسلطوية.
وحين حدثت أزمة 1997م المالية، في هذه الدول، لم يمضي سوى سنة حتى استعادت حيويتها وتدفق إنتاجها وصادراتها، فشكلت ثقلاً في الاقتصاد العالمي، ونمو بمعدل 9,5% مع سرعة وجدية وصدق في حل المشكلات العارضة الاقتصادية.
- سنغافورة لم تنتظر طويلاً: أفضل تنافسية دولية معرفية في خدمات النقل للأسواق العالمية، فيها 7000شركة متعددة الجنسيات، يخدمها أهم مراكز بحوث عالمية، خصصت لها 2% من الناتج المحلي، وتوثيق العلاقة مع القطاعات الصناعية، يقوم بها 4745 عامل لكل مليون نسمة، علماً أنها في أمريكا النسبة 4484 عامل، وهي الأقل بيروقراطية، وأرشق قطاع وظيفي، وكفاية عالية للوظائف العالية، فراتب الوزير 1,2 مليون دولار، أي ثلاثة أضعاف راتب الرئيس الأمريكي، ولهذا شبه انعدام للفساد الوظيفي فيها، والعمالة السنغافورية تتميز بالمهارة العالية وأخلاقيات العمل، والانتاجية العالية، واستخدام الانترنت 90% من السكان، مع وجود أحدث مستويات وسائل التعليم، التي أهلتها لتصدر الأولمبياد العالمي في امتحانات المواد العلمية لعام 2006م.
لتلافي قلة سكانها (4ملايين) فقط، تشجع على زيادة النسل، مع مستوى عالٍ من المعيشة المرفهة، وحصة الفرد من الدخل يصل 31 ألف دولار سنوياً، شكل القطاع الصناعي 27% من الناتج المحلي، والباقي تجارة وخدمات، ونموها الاقتصادي بلغ في عام 2006م 66% عن السنة التي سبقتها، وكان في الإلكترونيات والكيماويات والهندسة والعلوم الطبية الحيوية، ومنصات استخراج البترول البحري، وصنع الأقراص المدمجة للكمبيوتر، ومركز عالمي لصيانة محركات الطيران.
ماليزيا: الأزمة كبوة جواد: نهضت ماليزيا من كبوتها، التي كانت استراتيجيتها الاقتصادية التحول من الزراعة 40% وعمالتها عام 1957م 61% إلى 14% في حين أن الصناعة كانت 11% بعمالة 6% إلى 33% بعمالة 26% من السكان، هذا قلب ميزان البنية الاقتصادية ونمو الصادرات المصنعة، ورفع مستوى تقنيات العمل، وعملت على إحلال المنتجات الوطنية مكان المستورد، واتخذت سياسة زيادة الصادرات المصنعة، وعمدت إلى تنمية مدخرات الشعب، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وركزت على التخصيص الكفء للموارد، وإشراك مختلف الفئات الاجتماعية في التنمية، ودعم الفقراء، وحفظ قيمة النقد الوطني، وقوته الشرائية، وعملت على التمدين (سكن المدن) 60% والتأهيل المهني وتدريب العمالة الماهرة، وتقليل العمالة الاجنبية.
الخطوة الرئيسة لنهضتها تحسين مستوى التعليم، وتقليل الإنفاق الحكومي على مصروفات الأمن 0,8% والمصروفات على التنمية 16% من الموازنة، والخدمات والبناء 10% وحصة الفرد من الصادرات 4800دولار بينما هي في أمريكا 3100دولار.
كوريا الجنوبية الأكثر نضجاً: كانت ثالث أفقر دولة عالمياً في آسيا في الخمسينات، تحولت إلى ثالث دولة غنية اقتصادياً في آسيا بعد الصين واليابان، والعاشرة عالمياً، صادراتها 40% من النشاط الاقتصادي، نمت في بعض السنوات 30% بدخل 255مليار دولار عام 2005م، أهمها صناعة السيارات، (3ملايين سيارة) عام 2005م، بلغت الإيرادات اليومية 2005م (300) مليون دولار، البطالة لا تتجاوز 4% من سكانها (48)مليون نسمة، وستكون الثامنة عالمياً في سرعة النمو عام 2020م.
تايلاند شرارة الأزمة: تعافت من أزمتها عام 1999م فوصل النمو من 4% إلى 10%، والصناعة 40% والزراعة 11% والخدمات 49%، لإنتاج الأثاث، والبلاستيك، والمجوهرات، والكمبيوتر، والملابس، والأرز، والناتج المحلي للفرد 6900دولار سنوياً وهي تنمو باطراد.
إندونيسيا والتخلف عن الركب: آخر دولة سددت قروض الإنقاذ البالغة 8مليار دولار لكن قبل أربع سنوات من الاستحقاق، فوفرت 200مليون فوائد الدين، وانطلق اقتصادها 2006م بصادرات قدرها (100) مليار دولار، وبلغ احتياطها النقدي (47)مليار دولار، لكن قطاعها البنكي متخلف وضعيف في تعاونه مع مجتمع الأعمال، وتفشي القروض المهدرة، مع تخلف النظام الضريبي، وانتشار الفساد، وثلثا الشعب تحت خط الفقر، ومتوسط الدخل 1300دولار سنوياً، والبطالة 20% تقريباً.
هونغ كونغ: عام 2006م احتفلت بالذكرى التاسعة لانضمامها للصين، تحت شعار بلد واحد ونظامان، تخلصت من ركودها بنمو 3% عام 2003م إلى 7% عام 2004م، و7,3% عام 2005م، و 8,2% عام 2006م، مع أنها من أكثر الدول كثافة سكانية في العالم، ومعدل طول الحياة فيها 78,6 سنة للفرد، ومع ذلك الطلب على عمالتها بازدياد.
ملاحظة: التجربة الآسيوية تطرح تساؤل: كيف أصبح إنسانها أكثر انضباطاً ومهارة وتفوقاً على العامل العربي؟ وكيف تخلصت حكوماتها من مرض البيروقراطية في الإدارة؟ وكيف تحقق لها الشفافية في تقليل الفساد والهدر؟ وكيف وفقت بين ثقافاتها والديمقراطية المنتجة؟ وهل ستتمرد على السياسات الرأسمالية الأمريكية يوماً كأوروبا؟
تركيا تعود للمشهد: ليس مستغرباً دخول تركيا حلبة المشهد الدولي، خاصة أنها كانت لاعب رئيسي فيها من عهد ليس بالبعيد، 1924م تاريخ سقوط خلافتها على العالم الإسلامي، ودورها الدولي، اقتنع الشعب التركي بعد مخاضات وصراعات مع العسكر، أنه لا بد أن يشارك بقوة في التغيير السياسي، ليصار إلى اللحاق بركب الدول المتقدمة اقتصادياً، وكان ذلك أخيراً على عهد حزب العدالة والتنمية، ومصطلح " المنفعة " الذي أطلقه وزير خارجية الاتحاد السوفييتي " شيفر نادزة" تحول مع الزمن إلى مصطلح " المصلحة" المبنية على أساس التنافسية الاقتصادية هي التي تؤدي إلى قوة الدولة ومكانتها، وحققت من خلال ذلك أكبر قوة اقتصادية في الشرق الأوسط، بدخل 600 مليار دولار، وعملت على سد الفراغ في غياب المشروع العربي في المنطقة، بالتنافس مع إيران وإسرائيل.
اللغز الإيراني: تبدو إيران كقوة إيديولوجية غير مستقرة في المنطقة، بلعبها دور ديني أصبح نشازاً في عالم اليوم، خاصة الإحالة على انتظار خروج المهدي الغائب، بعد سقوط الإيديولوجيات الشمولية، وبنفس الوقت تحاول نهضة اقتصادية يعوقها ما تنفقه على التمدد المذهبي في دول الجوار، والمشاركة في حروب بالوكالة لتفتيت المنطقة لصالح إسرائيل والغرب، وتدعي صداقة الجيران وهي تحاربهم سراً وعلانية، مع العلم أن الدولة الإيديولوجية انتهت على يد هتلر وموسليني واستالين وصدام والقذافي، ولن تكون إيران استثناءً!
ويمكن استقراء تطلع دول للنهوض والمشاركة عالمياً كالبرازيل – والمكسيك- ودراسة مستقبل الغرب عموماً في ضوء التغيرات والمفاجآت العالمية.
الفصل العاشر: نحو نظرية جيوبوليتيكة عربية
تقوم على: اقتصاد متوازن زراعي وصناعي وخدمي، وحكومات قوية مخلصة، وقوات مسلحة وطنية، ومؤسسات اقتصادية كبيرة، وعوائد ضريبية مقننة، وتصنيع، ومعلومات، وتكنولوجيا، وعمال مهرة، وعلاقات دولية متكافئة، واستقلال في القرار الوطني.
ودول الأطراف ضعيفة فقيرة، متخلفة، وظلم اجتماعي، وقبلية، وضعف التعليم، وكثرة الأمية، وتبعية للدول الكبرى.
عوائق الفكر: لم يتطور مع دراستنا فكر جغرافي ذو معنى طموحي، يكبر معنا ويساند تطلعات جيلنا الجديد، بينما عرف هذا في كل الدول الاستعمارية التي تحركت لاستعمار بلادنا وبلاد العالم، لتبصير قادتهم بصورة العالم وخيراته ومراكز قوة موارده، ولهذا آن لنا نحن العرب أن نرسم صورة مستقبلنا من خلال هذا العلم الجديد.
بعض حقائق الجغرافيا عندنا: العصر الحديث عصر الكيانات الكبيرة، والعالم العربي رابع أكبر وحدات سياسية في العالم، بعد الصين، والهند، والولايات المتحدة، بتعداد أكثر من (300) مليون نسمة، أما المساحة 10% من مساحة العالم، حوالي (14) مليون كم مربع، وهو في قلب العالم ومكنوز ثرواته، يطل على بحر المتوسط والأحمر والعربي والعرب والمحيط الأطلسي والهادي، ويصل بين قارتي آسيا وأفريقيا. وهو يصل بين أسواق العالم، ويطل على ممرات عالمية متعددة، جبل طارق، وقناة السويس، وباب المندب، ومضيق هرمز، وهو خزان الطاقة البترولية والغاز والطاقة الشمسية، والمنطقة العربية غنية بالمعادن: الحديد والفوسفات والكبريت والنحاس والرصاص، ومع ذلك لا تصنيع لها في بلادنا، ونحن 5% من سكان العالم، لا ننتج من الكهرباء سوى 2% منها، ولا يستغل من الأراضي الصالحة للزراعة سوى الثلث، وبطرق بدائية.
بوصلة التاريخ: ذكره " نيكولاس سبيكمان" مبيناً أن هذه المنطقة دفعت بأمبراطورية إسلامية وصلت تولوز في فرنسا، وحولت البحر المتوسط إلى بحيرة عربية، والثانية الأمبراطورية العثمانية التي وصلت إلى شرق ووسط أوروبا والبلقان، ولهذا يحذر من تكرار التجربة ومعاودتها، والموضوع أكبر من العالم العربي، والإسلامي، لكن كيف يكون دورهما في المعادلة القادمة للسيطرة على العالم، والتدافع الذي يدفع الطامعون والطامحون.
مناطق لقاء الأرض والشعوب: شعوب بلاد الشام والعراق والجزيرة، والفرس والترك والأقباط، صنع خريطة جديدة للعالم بعد ظهور الإسلام، وكيف اتصلت بمنطقة التنين الصيني والهند فكانت بيده طرق التجارة العالمية المؤمنة، واليوم أصبح العرب في دور العازل بين الصين والهند والعالم الغربي، ليس لنا دور سوى اللبن المحلوب، كما صنع الغساسنة والمناذرة قديماً في حماية الروم والفرس.
الإسلام رسالة محورية: ولدت في مكة واحتضنت في المدينة، وناصرها النخبة الأزدية والنخبة العدنانية، وانتقلت من الحصار إلى التعادل الاستراتيجي في الحديبية، ومن ثم الانتصار على المعارضين ودخول مكة لإعلان السيطرة الكاملة للمشروع الجديد العالمي، ومن ثم الانتقال إلى منطقة القلب وهي الشام والعراق، وجناحاها فارس ومصر، واستيعاب أمم المنطقة المجاورة في مشروع واحد موحد، يوحد الأمم الكبرى الثلاث، العرب + الفرس+ الترك= الخلافة الإسلامية، ولهذا لا بد من الأمم الثلاث للمشروع الإحيائي الجديد، ويتبعهم بعد ذلك كل الأمم الإسلامية الآسيوية.
تركيبة العالم المعاصر ورؤية الآخرين للمنطقة: إذا كان ميزان القوة اليوم لصالح الغرب، فإن حركة الموازنات العالمية في حالة تغير دائم، وعلينا مراعاة القوى الصاعدة، وإحسان التمركز وتنظيم العلاقة معها، ليسهل علينا طرح قضايانا الاستراتيجية المتضمنة في مشروعنا العربي، ( بعد أن نخطط لهذا).
هل نمتلك رؤية استراتيجية لوضعنا الجيوبوليتيكي؟ لا يوجد مثل هذا التطلع في مشهدنا العربي الضبابي، على ضوء خبرتنا في تاريخ الجامعة العربية، البعض يرى هذا التفكير ترف سياسي، وآخرين يرونه مسألة مصير، لما يتهددنا من مخاطر، وأن التفكير في هذا الأمر هو الخطوة الأولى على طريق صنع مستقبلنا العربي.
نحو تموقع جديد في عالم الغد: ما تفعله إيران وتركيا من تمركز، وما تفعله إسرائيل على صغر حجمها، وباقي دول العالم، فمن المعيب أن نعجز عن فعل ما يحفظ وجودنا من التلاشي، والأحلام الكبيرة بنات الفكرة والإرادة، التي تشق لنفسها طريق النجاح، من خلال ما يأتي:
1- الرؤية والمهمة كنقطة بداية: لنفرض أن صانع قرار عربي صاغ مشروع جيوبوليتيكي عربي لاستعادة أهمية المنطقة مع جناحيها الإيراني والتركي، للتحرر من ضغوط القوى الكبرى واستئثارها بالقرار، من خلال مهمة واضحة في بلورة دولة قطرية نموذجية معاصرة، تتمتع بالشعور بالهوية الحضارية – وعاشقة للعلم بأبعاده الأمنية والقومية – وسلامة نظمها المتسقة مع الكفاءة والعصرنة وتحقيق العدالة والشفافية – والجدية في تحقيق المنعة الذاتية للوطن، وحشد الأمة وراء هذا المشروع المحرر لها من المأزق الحالي.
2- التحديات والعقبات: في هذا المشروع هو غياب الوعي عن ضرورته والحاجة إليه، سواءً بين النخب الثقافية أو السياسية، مع انخفاض في تقدير الذات تجاه الآخرين، من حيث غياب الإرادة، وعدم رؤية المسار المأمول لمستقبل المنطقة، وغياب الحشد الجماهيري للتحدي في السير نحو أهداف المشروع، وحسن المناورة لنجاحه وتحقيق أهدافه، بالانطلاق بها من دولة مركز تتبنى هكذا مشروع، وتجابه تحدياته التالية:
أ- تحدي الحامل المباشر للمشروع: من خلال فكر طموح قيادي، يضع خططاً استراتيجية لأهدافه، يحشد لها جماهيره والمنطقة متجاوزاً ضرورات البقاء والاستمرار، في إطار المراحل التنموية للبلد والقطر.
ب- تحدي المخيال السياسي: تاريخنا العربي الإسلامي الطويل بعد الفترة الراشدية أسس في تبرير الضرورة لقبول ولاية المتغلب، الذي أوقف حكم الشورى القرآني من الحكم، وجمد حكم حرية اختيار الحاكم الصالح الموكل بإدارة شؤون الأمة، والدفاع عن مصالحها، وصون كرامتها، وأصبحت الحقوق المرعية، كلها للسلطان بعد أن كانت لله والشريعة وللرعية، فضاعت بوصلة حقوق الإنسان وفكرة المواطنة، وكرامة الوطن، وأصبح الحاكم فوق الجميع، فإذا أعدنا النظم والقوانين القرآنية إلى فاعليتها بشفافية، نستطيع عندها أن نضع المشروع الجيوبوليتيكي (الجغرافيا السياسية) على المسار الصحيح.
ج- تحدي النظام السياسي: في معاناة نخبه من فقدان الرؤية لاتجاه العصر ومتطلباته، أسيرة مصالحها الخاصة، وتساهم في تزييف الوعي الجماهيري، من خلال ضيق أفقها وانحصاره في الفئوية والحزبية والجهوية والقومية والعرقية، حتى حين تمكنها من السلطة، تضيق بالتوازن بين الديني والدنيوي، والحزبي والوطني، والطائفي والقومي، مع أن العالم المتمدن انتهى من هذه الأمور منذ زمن بعيد لصالح المشروع الوطني الشامل.
د- تحديات النسيج الاجتماعي: تنتشر في منطقتنا الأفكار الانقسامية مثل: الرجل والمرأة – العرق والدين – الطائفة والمذهب – الحزب والقبيلة – فتشكل شروخاً قابلة للانفجار عند أي بادرة تغييرية في المجتمع والوطن، وكل مظلوم من هؤلاء تجده مشحون بذاكرة من عاطفة التحدي أو الرغبة في الانتقام أو الحياد السلبي، أو [ الاستنجاد بالمستعمر أملاً أن يناصر الحق وأهله، فيكون كتاجر البندقية المرابي اليهودي في قصة شكسبير، يقرضك المال ليقتطع من لحمك قطعة ]، والحل الاعتراف بهذه المشكلات واختيار حلول مناسبة للجميع.
هـ- تحديات التنمية العادلة: في تحقيق الرخاء والأمن، والتركيبة الاقتصادية العربية غير متوازنة في قطاعاتها المختلفة، وغالبية العالم العربي غالبية زراعية ووظائفية، وقلة من التجار والصناعيين يتحكمون بالاقتصاد غير المتوازن، وهجرة كبيرة من الأرياف إلى العواصم والمدن، بسبب تركز الخدمات فيها، والتعليم كان المأمول أن يكون حلاً للمشكلة أصبح مشكلة، بسبب غياب الارشاد الأكاديمي لاختيار التخصص، وغياب الاستراتيجيات الحكومية التي يقوم عليها ما سبق، فتراجعت الزراعة، ولم تواكب ازدياد السكان، لتحقيق الاكتفاء الذاتي فضلاً عن تحقيق تصدير الفائض بعد تحسين الانتاج، فزاد الفقر والمرض والأمية والعوز ودفع قطاع كبير لمجاراة الفساد والرشوة.
و- التحدي المعرفي والتقني: يحكمه علاقة مشوشة بالإنتاج والاقتصاد في بلادنا، بسبب استيراد تعليم غربي ( استعماري) لإعداد موظفين وكتبة لإدارة الحكومات وليس لإنشاء نهضة ومجتمع متقدم، بينما هو في الغرب له قيمة إنتاجية في سياق المشاريع الوطنية القومية، لإعداد الباحثين والمخترعين وهو مرتبط بسوق العمل الأهلي والحكومي، يمول أبحاثه في الجامعات الشركات والمصانع، ولهذا كان دورها الوظيفي لديهم متعلق بالنمو الاقتصادي والقومي، ولهذا أذكياء العرب من الدارسين لا يجدون فرصاً لهم سوى في الدول الغربية، ولهذا لا بد من تغيير وتصحيح هذه المعادلة وربطها بالاقتصاد وحاجات الوطن الملحة.
ز- تحدي الأمن القومي: فالأمن القومي في الدولة ربط بأمن النظام، ولهذا كانت القوة لحمايته من الشعب، وليس لحماية الشعب، مع أن الأصل فيه هو حماية مكتسبات الشعب الاقتصادية والاجتماعية والغذائية والأمنية، بالإضافة إلى الاعتماد على الآخرين المصنعين للسلاح، مع انكشاف كامل لسماء الدول العربية من الحماية الحقيقية، التي يتحكم فيها هذا الآخر الذي يبطن ويظهر العداوة لنا سراً وعلانية، وهذا يجعل جميع ملفاتنا الأخرى السابقة شكلية بعيدة عن الجوهر الحقيقي الذي ينبغي أن تسده فعلياً لا إسمياً.
تحدي القضية الفلسطينية: نتيجة من نتائج التخلف والتمزق العربي، واجتزاء فلسطين لصالح الدول الاستعمارية المغادرة عسكرياً وشكلياً ومنحها إلى الصهيونية اليهودية كقاعدة متقدمة للغرب، وهو لصالح الدول الغربية أولاً وآخراً، وما صراعنا مع إسرائيل إلا واجهة لصراعنا مع الغرب الصليبي الليبرالي، يربطه خيط التاريخ والجغرافيا معاً، ونجاح مشروع تحرير فلسطين له علاقة وثيقة جداً بمشروع النهضة العربية المرتقبة، وهذه لا تتم في ظروف الإحباطات المذكورة فيما سبق من خلاصة هذه المعرفة الجيوبوليتيكية، ولهذا مرت المشكلة الفلسطينية في مراحل تاريخية وجهادية وسياسية متعددة انتقل فيها العرب والمقاومة من فشل إلى فشل، إلى أن أصبحوا مع مشكلة القضية الفلسطينية، جزءً منها في خدمة المشروع الغربي الصهيوني، وانقسم أهل فلسطين إلى مشروع وطني (منظمة التحرير) ومشروع إسلامي (منظمة حماس)، فأعطى إسرائيل فرصة إضافية في العبث بالقضية وحصار الشعب الفلسطيني، من خلال هذا الانقسام، الذي رافقه انقسام عربي موازي كذلك، في غياب أي مشروع عربي نهضوي أو تحريري، مما هيء لإسرائيل اللعب على جميع الحبال التي لا نمسك بأي طرف من أطرافها، ولا حتى حياكة أي حبل منها على أي صعيد من الصعد التي عادة ما تكون أولوية لمن لديه مشروع نهضوي أو تحريري.
التحديات الكبرى للمشروع الصهيوني: التحدي الديمغرافي في النمو العربي الفلسطيني السكاني، وضيق عرض فلسطين الذي يمكن الوصول إليه بأقصر الصواريخ، يضاف إلى ذلك تحدي المحيط الإقليمي لتركيا وإيران والعرب، القابل للتغير الإيجابي ضد مصالح الكيان الصهيوني في لحظة ما، فيصبح الكيان مكلف جداً للغرب ودافعي الضرائب فيه.
التغيرات العالمية في مراكز القوة: لدى الهند والصين، مع تحفظهما على المشروع الصهيوني، يوفر فرص غير مواتية لإسرائيل ومشروعها، خاصة مع التطورات الجديدة في الساحة النهضوية في كثير من بلدان الشرق الآسيوي، غير المتفاعل مع إسرائيل ومشروعها الغربي بامتياز، مع بوادر ما يشير إليه ربيع الشباب العربي الذي يرى في إسرائيل عنصر قلق واضطراب وتآمر وأذى لكل إنسان يعتبر الحق والعدل ميزان العلاقات الإنسانية والحضارية.
الدور الفلسطيني اليوم: يفهمه كل مواطن عربي وفلسطيني، على أنه مظهر من مظاهر التخلف والتمزق العربي، وعليه يكون الحل بما يعكس هذه المعادلة، من خلال تغيير الأفكار العميقة في الجبر والتقاعس والاتكالية والاستسلام، ( الديني والاجتماعي)، وكذلك تصحيح العلاقة مع العلم من تخريج كتبة موظفين إلى مبدعين منجزين، وتحويل المشاريع من استراتيجية الخدمات الآنية إلى خدمات نهضوية مستقبلية مبشرة.
الدور العربي اليوم: يتوزع وتضبط إيقاعه أكثر من خمس وعشرين دولة، ولخطورته الاستراتيجية الدولية يحتاج إلى مسطرة دقيقة في العلاقات الدولية لتقدمه، والانتباه إلى العنصر المتحول في القوى القادمة: تركيا وإيران إقليمياً، والصين وروسيا وأندونيسيا آسيوياً، والبرازيل والمكسيك أمريكياً، وأن ينظم خارطة احتياجاته المستقبلية وفق نظرة جديدة للعالم، والتعامل مع القضية الفلسطينية من خلال: 1- مساحة الفعل الناعم الإعلامي لاستحضارها في الوجدان العالمي. 2- ترتيب البيت الفلسطيني وصيانته من فيروسات الانقسام. 3- حصار مخططات العدو الصهيوني من التمدد في إطار الممكن.
فرص كبرى للوطن العربي: من خلال ما يتمتع به من قابليات وإمكانيات، منها تحقيق:
1- مفهوم الدولة الوطنية القانونية: وسيادتها الفعلية من خلال نجاح مخططاتها، فإذا فشلت كان ذلك من تقصيرها.
2- استثمار علاقة الوطن العربي الحسنة الإيجابية بالمحيط الإقليمي والعالم، وتوسيع مساحة التفاهمات على قاعدة المصالح المشتركة.
3- وجود نماذج تنموية ناجحة في محيطه والعالم، يمهد له الطريق للدخول في حلبة التنافسية العالمية.
4- يمتلك بعد جغرافي إيديولوجي متقدم في دولة باكستان وتركيا وماليزيا وإيران وأندونيسيا وغيرها، في الصناعة والسلاح والنووي، والبحوث والإدارة والتطوير، ولا يحتاج إلى البدء من الصفر، شرط توفر الإرادة.
السياسات: هي قيود على المشاريع النهضوية من الانزلاق أو الانحراف عن المسار الصحيح للنجاح أو الوصول إلى الهدف بأقل تكلفة وأقصر زمن وأفضل المواصفات، من خلال موازنة السياسة الداخلية والخارجية الناجعة.
الانطلاق والتنفيذ: أساسه الإنسان وإرادته، لأنه أداة النجاح الحقيقية، قبل الخطط والبرامج، ولهذا تنمية الإنسان العربي روحاً وجسداً وعقلاً هو المتطلب الرئيس من متطلبات النجاح والنهضة، وتجارب الأمم الناهضة اليوم تؤكد ذلك، والقيم العليا للاستثمار اليوم هو الوقت (الزمن) والإنسان (العلم) والإنجاز (المشروع)، في سباق الجودة والتحسين المستمر.
الخاتمة: تحركت المياه الراكدة في ثورات ربيع الشباب العربي معلنة سريان روح جديدة في نبض الأمة، يصدع ويصدح بالعزة والكرامة لكسر قيود التخلف وأسوار اليأس، وهذا الكتاب يضع مفاتيح التحرك الممكن في أيديهم وأذهانهم حينما يكون أحدهم في موقع القرار الشخصي أو المجتمعي أو العام.