تتمة غياث العرب من استمرار الوهن والجرب
(10): خلاصة كتاب " سلفية العدل عديل الصلاة" د. عبد الله الحامد.
1- رعيل الصحابة اهتموا بإتقان العمل: وقدموه على الانشغال بسفسطة الكلام والجدل.
وكانت عروبة الصحابة تأنف أن يسودها مستبد أو ملك مهما كانت قرابته وانتماؤه إليهم، ولهذا لم يكن لديهم في جزيرة العرب ممالك أو ملوك، واكتفوا بأن يسودهم زعماؤهم بالاختيار والصفات الشخصية، دون إكراه بالسيف، أو قوة جيش لدولة، لأنهم ليس لديهم دولة أصلاً، فلما جاءهم رسول الله قبلوا به سيداً وآمراً طواعية، لأنه رسول من الله، وقبلوا خلفاءه الراشدون لأنهم خلفاء رسول الله بالاختيار والرضا والشورى، فلما انتهت الدولة الراشدية إلى الملك والوراثة بحد السيف والتغلب، بدأت الفتن والثورات وتراجعت دولة العدالة والشورى والمساواة.
وبدأت الأفكار المتطرفة والمنحرفة تتولد من القهر والاستبداد، فخرج علينا فكر الخوارج، والمعتزلة، والشيعة، والمرجئة، والقدرية، وغيرها من الأفكار، لغياب المنهج الراشدي، الذي يناقش كل فكر، ويعالج كل خطأ، ويحتمل كل مستجد على محمل تحمل مسؤولية إرشاد الناس وخدمتهم، وتحقيق مطالبهم العادلة، وحين غاب هذا أصبحت أمور الناس مضطربة، بين مستكين مسالم، ومتمرد مقاوم، ومعتزل فكره غائم.
2- هل يكون المفهوم السلفي حارساً للاستبداد والتخلف؟ كيف ضحى المدروشون بالعدل من أجل إقامة الصلاة؟ وهذا أدى إلى خذلان الأمة في زمن الهيمنة الصليبية والإمبريالية العالمية، واستشراء الاستبداد والظلم والتخلف، فتمسكوا بتوحيد يحرم الطواف حول القبور، ويبيح الطواف حول طغاة القصور، مضحين بحقوق الأمة والإنسان، مدافعين عن حقوق المتغلب والسلطان، متجاوزين المنهج النبوي والراشدي في الحكم والعدل والشورى، بحجج لا تتماسك أمام المحكم من كتاب الله، والثابت المطبَّق من سنة رسول الله، ولئلا ينحصر فقه مصباح القرآن والسنة بنظارات الفترة العباسية: وإنما المنهج الراشدي الصالح في فهم نصوص الوحي، وليس الاستنتاجات هي الملزمة، لاختلاف المتطلبات بين عصر وآخر، خاصة في الحياة المدنية، وتنظيم شؤون الأمة وقوامتها في حفظ ومناصرة الشريعة إلى يوم الدين.
3- التعصب للتمذهب: الفقهي والعقدي الصارم اليوم، أصبح من أكبر المشكلات التي تفرق كلمة الأمة من أن تجتمع على الأصول والمصباح المضيء الذي هو نور الوحي الإلهي، (كتاب وسنة) لحل مشكلات مستجدة، لم يتناولها السابقون، لأنها من بنات العصر الذي لم يولدوا فيه، ولم يدركوه، واستدعاء الماضي في كل مشكلات الحاضر، خطأ يأباه الشرع الحنيف، كما قال الفقهاء: " لا يستغرب تبدل الأحكام بتبدل الأزمان" في غير الثوابت.
4- السلفية المعاصرة: أ- قدموا أفضل خدمة للإمبريالية وهم لا يشعرون: أمة مقهورة مسلوبة الإرادة، مهدورة الحقوق، مذلولة في كرامتها وحريتها، أضاف عليها السلفية المقلدة، تبديع وتكفير وإعانة الظلمة عليها، حتى أوصلت كثير من شبابها – مع تجفيف منابع الثقافة الإسلامية الأصيلة – إلى الكفر بالإسلام، أو احتقار العلماء، أو اليأس من الإصلاح، وهذا كله يجري على قدم وساق، وهم لا يهمهم سوى تبديع وتكفير كبار الدعاة والعلماء الذين لا يوافقوهم على آرائهم الجامدة، وأساليبهم الفجة، التي لا تستند إلى نور مصباح الوحيين، كما تنور به واهتدى الراشدون في زمن الرشاد، وهذا أعظم خدمة لأعداء الإسلام، بتنفير الشباب من حيوية نصرة الشريعة الحنيفية الغراء.
ب- المدروشون قدموا أفضل خدمة للعلمنة: حيث أن الخطاب الديني المتمسح بالسلفية، خدم الاستبداد والتخلف، أكثر من ما خدمهما الخطاب الخوارجي والشيعي والزيدي والمعتزلي، لأن هذه الأخيرة مكشوفة ومضى زمنها، أما الدروشة السلفية الحالية، فإنها تنتج تلاميذ مخلصين للظلمة اليوم، فترتد أفعالهم حججاً قوية لأعداء تيار الإسلام ككل، وهذا ما يخدم العلمانيين والإمبريالية العالمية في استخدامهم بمهارة في مشاريعهم الشرق أوسطية للسيطرة على المنطقة والعالم الإسلامي أجمع.
5- وأخيراً: أفسد المدروشون التعليم: في عصر الهيمنة الغربية، بإنشاء مدارس مدنية على أسس تهميش حياة المسلمين المدنية من خلال العناية فقط بالحياة الروحية، بعيداً عن المنهج الراشدي، بحيث يكون التركيز على حفظ المتون، دون تفعيل العمل المنتج الإبداعي، [ الذي تتطلبه حياة المسلمين المعاصرة، ليكون الذي يحقق متطلباتهم هو الأجنبي المصنع، وهم فقط المستهلكين، مع أن المنهج الراشدي كان قائماً على العمل دون سفسطة أو جدل، وطمس الجانب الإبداعي في التراث والشريعة، لصالح الجانب الاتباعي والحفظي، فخرجت الجامعات أشبه بأئمة المساجد في كل الفنون والعلوم، ولم تخرج علماء كعلماء السلف الذي كانوا منارات للأمم والشعوب والجنود والقادة، ومن تعلم في المدارس المدنية، وكان لديه شيء من الذكاء، فإنه يهاجر إلى الغرب ليبدع عندهم لصالح مؤسساتهم وأوطانهم الغربية، ويتبقى للعرب والمسلمين من يجيد الاتباع، ولا يجيد العمل والإبداع، فأصيب التعليم لدينا في مقتل] م. ن.
6- الداء عم جميع الفرق السلفية العباسية: التي ورثها الخلف، في تأييد الحكام الظلمة الذين أدى السكوت على طريقتهم إلى موات الأمة التي نتساءل عنها اليوم (بأي ذنب قتلت)، حتى المعتزلة الذين رفعوا راية العدل والحرية، وقدسوا العقل، انتهى المطاف بهم للسير في ركاب المستبد برأيه المأمون، ففقدوا مصداقية كثير من أفكارهم التي بالغوا فيها نظرياً لا عملياً، وأصبحوا ظالمين مع الظالم، فلم يظهر من عظمة إسلامنا العظيم، بعد أن خفتت القيم الراشدية في زمن الملك العضوض، فأصبحت كسروية، أو قيصرية، والعلماء مالوا رويداً رويداً إلى ما يشبه الرهبنة، والسفسطة، والكهانة، إلا من استثناءات لم تستثمر ولم تستمر، فرجع حالنا إلى ما يشبه الجاهلية، مع أن النبي صلى الله عليه وسلـم أمرنا أن نستمسك بما كان عليه النبي وأصحابه، وأن يسعنا ما وسع الصحابة رضوان الله عليهم أن يدعوه، منشغلين بالعمل والجهاد ونشر الإسلام، ويمكننا اليوم أن ندعه ونتجاوزه، ولا ننشغل به كذلك، ونلتفت إلى ما يلزمنا مما يلح علينا بمتطلبات الإجابة عليه، وتحويله إلى مشاريع عملية تنهض بالأمة من كبوتها القاتلة، لكي لا يصبح القرآن نصا مفتوحاً للتأويل الفاسد، عند المترهبنين، الذين يعيدون تشكيل نصوص الشريعة، لتشكيل سلفية متدروشة، تفصل شروط إقامة الصلاة، عن شروط إقامة العدل، وإسلام الدولة والمجتمع، وشعارها" إمام ظلوم خير من فتنة تدوم"، أو شعار" الصلاة خلف الإمام الجائر"، فتُسقِط من كتب العقيدة مبدأ العدل عموماً وعدل الحكم خصوصاً، وهو أساس صلاح الأفراد والجماعات والدول.
7- السلف المقلد يجابه بسلف مجدد: لإعادة الأمور إلى نصابها الراشدي: وهذا ما فعله دعاة السلفية المجددة، للموازنة بين إقامة العدل وإقامة الصلاة في هذا العصر، عصر الهيمنة الغربية، كالكواكبي، وحسن البنا، وسيد قطب، ومحمد المبارك، يبينون شمول العقيدة، ولا يجدون ضرورة لتفكيك الصياغة العباسية، أخذا بالحكمة والموعظة الحسنة، واستدعت السلفية المقلدة نصوصا عابرة لأحمد بن حنبل والشافعي ومالك وابن تيمية والجويني وابن القيم وابن قدامة والقرطبي وعبد الله بن سهل التستري وابن رجب وعبد الله بن أحمد، لإبقاء الأمور على ما هي عليه سابقاً، ولم يفطنوا إلى أن أقوال السلفيين ليست حجة على نص القرآن والسنة.
ميزان: "ما أنا عليه وأصحابي": بعد أن دونت الشريعة بمصادرها، قامت السلفية العباسية بكتابة وتدوين الأسئلة والأجوبة المتعلقة بالعقيدة متأثرين بعوامل عصرهم وهي:
أ- تحديات اختلاط ثقافات الأمم التي دخلت في الإسلام، فكان هاجسهم الخوف على انحراف العقيدة.
ب- استخدموا علم الكلام المحدث بعد أن استوعبوه ودرسوه، فكتبت العقيدة على ضوئه وطروحاته في عصرهم.
ج- تأثر من كتب في العقيدة بضغوط مناخ عصرهم في هيمنة حكم الفرد المتغلب، والأسر المتغلبة، فلم يلتفتوا إلى مسألة قوامة الأمة على الحاكم، ولا المتطلبات المدنية التقنية من زراعة وصناعة واقتصاد واجتماع وسياسة فيما كتبوه، وانتقل واستمر هذا الأمر إلى يومنا هذا، مع أن الفارق بيننا وبين الرهبنة النصرانية والبوذية والهندوكية، هو هذا الذي تجنبت السلفية المقلدة الكتابة فيه، ليكون الإسلام والتوحيد كما كان في العهد النبوي والراشدي في شموليته،
وهذا يتطلب منا جميعا، أن نتجرد من الخصومات القديمة، وأن ندرك أن جوهر كل حركة أو دعوة يتسمى بالسنة أو السلفية؛ هو ثلاثية 1- النص مصباح القرآن والسنة، 2- في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي، 3- ومشكاة سنن الله في الإنسان والطبيعة، وليس الفكر، ولا الفرق ولا المذاهب، ولا الصياغات والاجتهادات المؤقتة هي الحجة.
الصياغة السلفية لشق العقيدة الروحي في مجال الغيب، ركزت على المشكلات التي طرحها غلاة المعتزلة والقدرية والزنادقة والوثنيون، كما في الكتاب المنسوب إلى أحمد" الرد على الزنادقة"، لكن هذه المشكلات مضت بأهلها، ووجدت أمور لا تقل خطورة عنها اليوم، في هيمنة الاستبداد المستعين بالهيمنة الغربية؛ للإبقاء على تفكك الأمة وتخلفها، لمصالح شخصانية وغير شرعية.
ويمكننا التمسك بالشعار النبوي: " ما أنا عليه وأصحابي"، فالنبي وأصحابه طبقوا العقيدة نظاما تكامل شطراه الروحي و المدني معاً، والراشدية هي التطبيق العملي والتفسير الفطري للوحي بشقيه (الكتاب والسنة)، وفهم هذه الأصول والتفريع عليها، ليس وقفا على سابق دون لاحق، والرسول صلى الله عليه وسلـم يقول "رب حامل علم إلى من هو أوعى منه".
8- الصراع مع الفرعنة و الثقافة الأجنبية أنهك السلفيات العباسية:
فليس للفلاسفة، بله المعتزلة امتياز احتكار العقل، مفهوم العقل في العصر العباسي لم يكن دقيقا، فالعقل المسلم به هو صحيح علوم الإنسان والطبيعة وهو الحسي والتجريبي والبرهاني، أما كثير من هرطقات الفلاسفة، فإنما هي أوهام الأهواء، لاسيما ونماذج العقل، عند أمثال ابن رشد، إنما هي تقليد ونقل واجترار للفكر اليوناني التجريدي وتكرار، ليس عليها أثر النقد فضلا عن الابتكار، فليس كل ما نسبوه إلى العقل معقولا، وإن ادعوا العقلانية، لأن العقل مفهومه إنما هو بوصلة، كما شهد القرآن، ولذلك تأتي مرادفاته النظر والتفكير والإبصار والتذكر، ولكنه بوصلة برهانية حسية تجريبية، وليس بلبلة تجريدية، ولا فرملة صحراوية.
وأن علينا أن نفرز ما هو قطعي ثابت من مبادئ الدين، من ما هو اجتهاد فردي لصحابي، ولوكان راشديا، عندما نكون أمام قول الإمام مالك لمن سأله عن معنى الاستواء: » الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب"، فهذا هو منهج السلف الذين نزل بينهم المصباح، أن يشغلهم العمل عن الشقاق والجدل، في الكلام عن الأمور الغيبية التي لم تفصلها النصوص، ولا يترتب عليها عمل.
ولكن جبه السائل أو ضربه أو إهانته، إنما هي معالجة فردية انطباعية، كما في بقية قول مالك للرجل الذي سأل عن الاستواء" السؤال عنه بدعة، أخرجوه عني فإنه رجل سوء ".ولعل مالكا أراد اتباع عمر بن الخطاب لما ضرب صبيغا، عندما سأل أسئلة منكرة.
ولكن عمر رضي الله عنه كان في بداية التماس، وقد اجتهد في إغلاق هذا الباب، ولكن هذا الباب لم ولن ينغلق بسيوف ولا رماح، لأن الفكر لا يحارب بسلاح من خارج منظومته، فكيف سنقنع الناس بفكرنا، إذا كنا سنقول للسائل: أنت مبتدع، أو أنت رجل سيء، حكمنا فيك أن تضرب بالجريد و النعال-كما ينسب للشافعي-. وليس تصرف عمر ولا مالك ولا الشافعي قاعدة شرعية من قواعد الدعوة لكي نتمسك بها باسم السلفية.
مؤثرات ضخمة الآثار؛ حاصرت التيار الصافي، فجعلته غير قادر على صياغة فكر متسق عميق، يشكل منظومة معيارية، يمكن أن تعتبر منارة للأجيال اللاحقة، فأصبح التيار السلفي، كغيره من التيارات عندما يؤصل أو يفرع، متأثراً بها إن شعر وإن لم يشعر.
كل هذه الروافد مازجت الثقافة الإسلامية الصافية، رغم حرص روادها على حفظ السنة، وعلى نقاء الحديث من الوضع والتحريف، بنقل قراءات القرآن الكريم، لكن هذا الجهد لم يستطع إيقاف موجة الفساد السياسي ولا التأويل الفكري، ولكنه استطاع أن يحول دون اكتسابهما مشروعية، عندما شكل الرواد الأوائل وعاءاً ناقلا حافظاً للإسلام، وهذا يكفيهم فخرا.
9- أكبر إخفاق للسلفيات العباسية في إغفال شروط دولة العدل والشورى:
أ- المتمثلة بقوامة الأمة على حكامها، واستقلال القضاء، وحرية التكوينات الاجتماعية، وأهمية وحدة الأمة، واحترام رجالات أهل الحل والعقد، وحقوق الإنسان الفطرية، وضوابط حماية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومكانة الجهاد السياسي السلمي في المجتمع المسلم، وخطر السكوت عن الطغيان، وتنظيم حل الخلافات بين طوائف أهل الإسلام، وكيفية المحافظة على نمو المجتمع والوطن المسلم، ووسائل الدفاع عنه أمام أعدائه، كل هذه المعطيات أغفلت في خضم الصراع الكلامي بين الفرق والطوائف، والتركيز على قضايا التوحيد، وإغفال قضايا الحكم والسياسة.
ب- السكوت عن أئمة الجور والتبعية للإمبريالية ما أقاموا الصلاة: كأن الإبقاء على الصلاة يبيح ضياع الأمة وهويتها ومصالحها المشروعة، التي من أهمها العزة والسيادة: مع أن التفريط في العدالة كالتفريط في الصلاة، فإذا كان إنكار الصلاة كفر روحي بواح، فإن إنكار العدل كفر سياسي بواح، وغيابه سر سقوط الأمم وضياع هويتها وسيادتها، وهذا يتطلب تعميقا وترويجا لمواصلة نحت خطاب النهضة الذي بدأه روادها، كالأفغاني، وخير الدين التونسي، والكواكبي، ومحمد عبده و شاه ولي الله الدهلوي، ومحمد رشيد رضا، و حسن البنا، و سيد قطب، و محمد الغزالي، و القرضاوي، وعبد المجيد الزنداني، ومحمد أبو فارس نحوهم.
ج- نتيجة السلفيات المحافظة على الصياغة العباسية أمية سياسية وتبعية للغرب: انقلب الهامش على المتن، فحل (الرأي) محل الوحي، وحلت الهوامش والحواشي والشروح، محل الصريح والنص الصحيح، و ضربت كليات الدين بجزئياته، و ضربت كلياته القطعية بالنصوص المجتزأة من سياقها، وأصبح غياب الفكر السياسي في المسلمين هو نقطة الضعف الكبرى في صياغة السلف العباسي لصياغة العقيدة، فصرنا كلما ازددنا تدينا ازددنا بالسياسة جهلا، فصدق علينا قول المعري:
الناس صنفان: ذو دين بلا.........عقل، وآخر عقل لا دين له.
10- منهج السلفيات المقلدة يدفعها إلى تقبل كل حجاج ولو تبع قيصر:
الترهل الفكري والرهبني، دفع هؤلاء إلى لي النصوص، لتنطق بأهواء وانطباعات رهبانية، وبدوية، وفرعونية، وسفسطية، فحول الإسلام المكتمل إلى ثقافة دينية شعبية خاملة تخدُم ولا تُخدَم، تنزوي وأعداؤها يتوسعون، تقارب الأديان الوضعية والمحرفة، وتتفوق عليها في ضعف التأثير، وخفوت الصوت، وتحول أتباعها إلى ما يشبه الدراويش، مع أن عزة المسلم من عزة الله ورسوله، كما صرح القرآن الكريم، وأراد هؤلاء بمنهجيتهم القاصرة، أن يكونوا حراساً وخدماً لمن يستهين بمعتقدهم ودينهم، بقصد أو بجهل دون قصد.
إن من أخطر الأشياء، أن نتصور الفقهاء مخولين بالتوقيع عن رب العالمين، لأنهم أولياء الله الذين يحددون ما يريد، فالله لا ينيب أحداً بالتوقيع عنه، إلا نبي مرسل، يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا، ليعلم....وفي عهد الإمبريالية الغربية؛ كيف يستطيع المحافظون على صياغة التراث السياسي العباسي، تقديم أدوية من صيدليات علماء العصور الماضية، وأغذية من ثلاجاتهم، لتحديات الحداثة السياسية والعلمنة، والعولمة والهيمنة والفرنجة، وكيف يصوغون فقها سياسيا، تنهض به دول إسلامية حديثة، توقف هدم هوية الأمة ودينها لصالح الغرب والشرق، وهم لا يثمنون - أولا يدركون- مبادئ السياسة الشرعية ووسائلها، كسلطة الأمة، وسلطة مجلس النواب، واستقلال القضاء، والفصل بين السلطات، والتجمعات الأهلية ولا سيما المدنية.
11- سلفيي اليوم المقلدون: صادروا الأصل الراشدي وهم لا يشعرون:
فمناخ القمع السياسي، أورث الفكر الديني إغفال التسامح، وكثرة الخلاف وحدة التدابر، ومن أجل ذلك نكرر مرارا: لا يمكن أن ينبت في مناخ الاستبداد السياسي؛ أي صلاح ديني ولا اجتماعي لا تربوي ولا تعليمي، ولا اقتصادي ولا صناعي ، ولا معرفي ولا تقني، وأشد عيوب تيارات الفكر الديني العباسية؛ أنها توهم قراءها وأتباعها، أنها هي الإسلام الصريح الصحيح، وأنها هي المحجة البيضاء، التي لا يزيغ عنها إلا هالك، وأنها هي الفرقة الناجية التي كان عليها المصطفى وأصحابه ،من خلال رفع شعار الكتاب والسنة، ولكن حقيقتها أنها رؤية اجتهادية، أي مسائل خلافية، فيها خلاف معتبر لمسائل غيبية أكثرها يعتمد على أحاديث آحاد، وأغلب ما مناكفاتها في ما لا يترتب عليه عمل.
الاستبداد السياسي يدفع إلى الاستبداد الديني والانغلاق، لأن العقل الذي يقبل ذلك، يقبل هذا، حتى يصير ترديد قول إمام المذهب، أكثر من ترديد قول الرسول، صلى الله عليه وسلـم، مع أن ائمة المذاهب لم يرضوا لتلاميذهم التقليد، قال أبو حنيفة: لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه، وقال ليعقوب: ويحك يا يعقوب، لا تكتب كل ما تسمع مني، فإنني أرى الرأي اليوم وأتركه غداً، وأرى الرأي غدا وأتركه بعد الغد، كما نصح أحمد تلاميذه أن لا يكتبوا عنه ولكنهم كتبوا، قال الإمام ابن حزم رحمه الله:" إن الفقهاء الذين قُلِّدوا مبطلون للتقليد، وإنهم نهوا أصحابهم عن تقليدهم، وكان أشدهم في ذلك الشافعي". قال ولي الله الدهلوي :" وهذا أمر جعل الحكم، في القضية الواحدة، يتضاربُ ويختلف بين الوجوب والحرمة، والكراهية والندب والإباحة، مما لا يتصور أنْ ينزله اللَّه سبحانه وتعالى القائل: ( ولو كان من عند غير اللَّه، لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً )، ولذلك صَرّح أحد العلماء بأن هؤلاء الأئمة، لو جاءوا اليوم لرجعوا عن كثير من آرائهم، بعد أن جمع الحديث وصحح.
12- دولة الاستبداد وظفت المذهبية والطائفية لطاعتها:
وقد دشنت العصبية المذهبية، ضيق أفقها بالصراع الشرس، الذي شوه الجو الروحي للمساجد، وثارت عنجهياتها في الأمور الصغيرة، ومن يقرأ تاريخ بني العباس، يعجب لتقاتل الناس حول الجهر بالبسملة في الصلاة، أو حول أمور غيبية، لا يستطيع أحد الطرفين أن يأتي بنص صحيح صريح يبرهن به صحة رأيه، وكل منهم يعزو ماله من رأي إلى منهج الصحابة، دون أن يدرك المتدابرون أن الصحابة كانوا يختلفون ولكنهم يصلون خلف إمام واحد، ولم يكن لأي فريق سياسي أو اجتماعي مساجد معينة.
افتقدت أغلب التيارات الدينية; الحس السياسي والاجتماعي، الذي يربط عقيدة التوحيد بالوحدة أيضاً، ولم تدرك أن الإسلام لم يأمر بشيء بعد التوحيد; كما أمر بالانسجام، وتآلف القلوب، ولم ينه عن شيء بعد الكفر، كما نهى عن الشقاق والتحارب والتباغض، فصارت الخلافات المذهبية، حطبا جاهزاً، توقد به نيران الفتن والعداوة والتدابر والتناحر بين المسلمين، حتى رأى بعض المسلمين بعضاً، شراً من اليهود والنصارى وبذلك أعاد المسلمون إنتاج الغلو في الفكر والفعل، الذي دشنه الخوارج; وهم لا يشعرون.
ومن لوازم قمع التعددية الدينية فقدان السلام الاجتماعي، في النسيج الاجتماعي، عبر أساليب الإقصاء الاجتماعي باسم الدين، وانتضاء سلاح التفسيق والتبديع والتكفير، ومهما يكن لهذه الأساليب من المبررات العلمية على المستوى النظري، فإن صورها التطبيقة الشائعة، تدل على جهل يقدم باسم العلم، وغلو يستساغ باسم الدين. وضعف حس سياسي واجتماعي، لا يراعي ضوابط إنكار المنكر والدليل على ذلك تفرق الأمة، وضرب وحدتها، باسم التوحيد.
عندما تلقى العصبية المذهبية خصومها في جحيم الدنيا والآخرة معا، وابن حزم يدعم هذا القول في الملل والنحل، فيقول: "ذهبت طائفة إلى أنه لا يُكفر ولا يُفسق مسلم، بقولٍ قاله في اعتقاد أو فتيا، وأن كل من اجتهد في شيءٍ من ذلك، فدان بما رأى أنه الحق، فإنه مأجور على كل حال، فإن أصاب الحق فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد « وقوى ابن حزم هذا الرأي بنسبته إلى عدد من كبار الفقهاء فقال: " وهذا قول ابن أبي ليلى، وأبي حنيفة، والشافعي، وسفيان الثوري، وداوود بن علي، رضي اللَّه عنهم أجمعين، وهو قول من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة رضي اللَّه عنهم".
13- القمع مفسدة للمجتمع والدولة معا:
هذه الحقيقة فطن لها عمر بن عبد العزيز الحاكم الأموي، فكاد أن يستل من الخوارج ومن الشيعة, دوافع مالهم غلو أو إيغال, أو تمرد اجتماعي أو فكري, ناتج عن الاغتراب, الناتج عن الفوضى الثقافية والاجتماعية، ولكن لم يفطن لها حاكم أموي آخر إلا لماما، ولكن عمر لم ينجح في إقامة عدل مستمر، لأن إصلاحاته لم تكن علاجا مؤسسيا، بل كان علاجا شخصيا يعالج ظواهر الداء و مضاعفاته، دون أن يستطيع معالجة جوهر الداء نفسه وهو الاستبداد، الذي لا يزول إلا بقواعد الحكم الشوري.
و ظواهر التململ والتمرد الاجتماعي، لا تردع إلا بالشورى والحوار والتسامح والتعددية، فالفكر لا يحارب بسلاح من خارج منظومته، ومنظومة الفكر هي العلم والمعرفة، وسلاحه هو البرهان والحجة، وآلاته هي الألسنة والأقلام، و أجواؤه هي التسامح والحوار والتعددية، و قبول الآخر كما هو والتعاون معه من باب أن المواطنين شركاء، لا عبيد أتباع، خلف سادة طغاة. وميدان معركته هو المجالس والنوادي والمساجد والمجامع، ومن الغريب أن نشوء المعتزلة وإعطائهم للعقل دوراً كبيراً في تاريخنا، كان رداً على التحكم الأموي، إلا أنهم تناسوا هذا في زحمة استمرار التحكم العباسي، فانغمسوا فيه مع المأمون وابنيه، لقمع خصومهم.
14- التعصب والتمذهب: أنتج منهج تربية الخضوع (تربية القطيع):
عندما ساد التعصب للمذهبية، صار الناشئة يربون على الالتزام بالمذهب، ويحفظون مسائله أكثر من تحفيظهم أدلتها من الكتاب والسنة، وقد أثمر ذلك ثماراً مرة، منها أن الناشئ لا يكاد يتذكر من غير أهل مذهبه إلا المساوئ والمخازي، فينسى الدارس أن الحنابلة والأشاعرة، والمعتزلة وغيرهم، يلتقون في أكثر المسائل الأصولية والفروعية، ويلتقون في سنن من الدين صريحة لا ينبغي إغفالها، ولا سيما في أركان إسلام الدولة، وصارت محاربة كتب الرأي الآخر باجتنابها، مما ساعد ذلك على ضعف المنهجية في العلم، وضعف الروح المعرفية، مما يغلق الأذهان ويفتك بالحرية والتسامح.
وسيطر التقليد من خلال المنهاج التعليمي، عندما حفظ الدارس المتن بدون الدليل، جعله عامياً في طريقة تفكيره، فهذه الكتب أنتجت مقلدين في لباس مجتهدين، وأميين في لبوس متعلمين، وعوام في لبوس خواص، على أن من لم يعتمد على ما جاء في الكتاب والسنة، فقد خالف إجماع الأمة كلّها، واتبع غير سبيل المؤمنين، وهذا يؤدي إلى أن لا يكون الرسول هو المتبع، لأن من رأى غير الرسول أولى بالاتباع ، فقد وقع في عبادة العلماء والأئمة ".كما ورد في حديث حوار عدي بن حاتم رضي الله عنه مع رسول الله.
وكان الناس في العهدين الراشدي والأموي يفقهون القرآن والحديث من خلال مشكاة التطبيق النبوي والراشدي، وكانت أقوال الصحابة في ما بعد تكتسب دقتها ومنهجيتها وانسجامها في إطار هذا الحقل، حتى بعد زوال الحكم الراشدي، كانت صورة النظام ماثلة في العيون، ومن أجل ذلك اشترك كثير من فقهاء العصر الأموي في ثورات سبع، من أجل إعادة شروط إسلام الأمة والدولة، وكانوا يتبعون أقوال التابعين، والتابعون وفقهاء العصر الأموي كانوا يتحدثون ويفتون، وأمامهم صورة حكم الراشدين الماضية.
ثم ظهر أئمة المذاهب في مطلع العصر العباسي، وكانوا أحرارا مجاهدين، ولكن تتابع الإخفاق السياسي؛ ألزمهم مضائق فقه الاضطرار، فاتبعهم الناس، ومنذ عصر الرشيد والمأمون بدأ ينشأ فقه الاضطرار الذي نظر إلى سيطرة الملك العضوض، على أنها حقيقة اجتماعية، لا مجال لتغييرها، فأدى إلى استقرار سيطرة المتغلب وشيوع الظلم، الذي أفرز كثرة اللصوص والسراق والفساد، فأنشأوا أحكاما جديدة، نالت من حقوق الإنسان وحقوق المتهم فاتبعهم من بعدهم، ورسخت المذاهب الفقهية منذ مطلع العهد العباسي، واكتمل بنت منظوماتها المخلة بشروط إسلام الدولة والأمة السياسية، ولم يكن أمام المتأخرين في عهد شيخوخة الحضارة العباسي إلا الاتباع، وامتلأت الساحة الإسلامية بالصراعات على صغائر الأمور كالجهر بالبسملة أو الإسرار.
15- إبقاء الأمة الإسلامية على طابعها الصحراوي الذي بدأت به:
بسبب انكفاء الخطاب الديني على العلوم الشرعية التعبدية، واجتناب الخوض في الأمور التي تمس الحكام والمجتمع، ولم تصغ التيارات الدينية العباسية وما بعدها خطابا قادرا على احتضان علوم الإنسان و الطبيعة، بحتة أو تطبيقية بل لقد حقرت علوم العمران، والسلفيات أكثر الفرق وأداً لعلوم الطبيعة والإنسان، والتفكير العملي والصناعي والتقني، كما في أقوال الغزالي في مقدمة المستصفى وابن الحاجب وابن قدامة، وكان سبب ذلك يتعلق بالرهاب من مناقشة الأمور المتعلقة بالحكم والسياسة، وجعلها في خانة الدنيا، فألحق بها العلماء إهمال الاهتمام بالعلوم التطبيقية، لأنها مما يتعلق بالدنيا كذلك، وهذا ما كبح جماح التقدم العلمي الكبير في العلوم التطبيقية، التي تفوقت بها الأمة الإسلامية على غيرها، لكن التعليم الديني المتأخر المتشنج كان له دور سلبي في استمرار التقدم العلمي في الأمة، لأن الانشغال بالصراعات مع الاستبداد السياسي أقفل على العقول الذكية، ووجهها إلى اجترار مناقشة قضايا التكفير والتبديع والاستسلام لخدمة الحاكم المتغلب.
16- التفريط بالعدل والحرية إخلال في الحكم بما أنزل الله:
الرسول صلى الله عليه وسلـم الذي أطلعه الله على سرائر المنافقين، عاملهم في الأحكام المدنية معاملة المسلمين، مع أن القرآن تحدث عنهم كثيرا، وبين من علاماتهم مالا يخفى على الصحابة المتابعين، فكان المنافقون معروفين للرسول على وجه اليقين، لا على وجه الظن والتخمين، وعلي بن أبي طالب، الذي ترك الخوارج أحرارا، ولم يقاتلهم حتى حملوا السلاح، والخوارج كما ذكر الإمام أحمد بن حنبل شر أهل البدع، وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز التقي، حيث ترك دعاة البدع دون قمع مادي، بل ولى أحد دعاتهم بيت مال المسلمين، وعمر أعرف بالسنة، بل إن شيخا المحدثين البخاري ومسلم، رووا عن عشرات المبتدعة، من الخوارج والشيعة الإمامية، والقدرية والجهمية والمرجئة والمعتزلة، ولو كان لدى هؤلاء المحدثين أدنى شك في إسلام المبتدعة؛ لنزهوا الحديث الشريف، عن أن يروى عن كفار أو مشكوك في إسلامهم.
السلفية منهج هي الاحتكام إلى مصباح القرآن والسنة، وفقههما من خلال التطبيق النبوي الناجح، وتطبيق السلف الراشدي الصالح وفقهه، ونزيد على ذلك التركيز على ضوء حقائق علوم الاجتماع والطبيعة، فكل حركة إسلامية, لا تهتم بشروط بقاء الأمم وارتقائها المعتبرة، ولا تدرك أن العدل أساس في الدين؛ ليست صحيحة الانتساب.
17- من دون بصيرة سياسية وحضارية، هل يعتبر المرأ فقيها أو مثقفا؟
امتص الفكر الإسلامي عشرات من النزعات السلبية، التي حفلت بها الثقافات الأجنبية، فامتص النزعة الرهبانية من النصرانية وعقائد الهنود، وامتص النزعة الكلامية من الفكر اليوناني في خريفه، وامتص النزعة الاستبدادية من الفرس، فوقع في سوء الاقتباس من الثقافات التي أحدثها تماس الأجناس وتقارض الثقافات، وتعرض الاجتهاد إلى خمس مكدرات: المكدر الصحراوي، والمكدر الكسروي، و المكدر اليوناني، و المكدر الرهباني، ومكدر الحذر من العلوم الإنسانية وعلوم الطبيعة، وصيغت ثقافتنا في العصر العباسي، حاملة هذه المؤثرات، وصيغ الفكر تيارات، وصار الناس يأخذون من الكتاب والسنة الأجزاء المتناثرة التي يرونها من خلال هذه الشاشات، والتي تروق لهم، وتنسجم مع هذه المتناقضات، مما أخل بالمنهج الحقيقي لتعاليم الكتاب والسنة، الذي جاء أصلاً لتنظيم الفلاح الدنيوي والأخروي عبر وحدة الأمة والتوحيد.
18- نحو صياغة سلفية توازن بين شقي العقيدة الروحي والمدني: هناك طريقان:
الأول: أن يضربوا عن كل هذه الصياغات العباسية صفحا: كما فعل سيد قطب في كتابه" التصور الإسلامي" فعزز هذا الاتجاه، فأخذ العقيدة من نصوص القرآن والسنة، وتجاوز فهم رجال الفرق الكلامية كلها، ولذلك يصح أن يقال في اتجاهه: إنه كسائر تيار الإخوان المسلمين، يسير في مسار الإصلاح الديني، الذي يقصر مفهوم السلفية المحتذاة على السلفية الراشدية، سلفية ما قبل الخلاف السياسي والمذهبي والكلامي بين المسلمين، كما يقول صلاح عبدالفتاح الخالدي (في ظلال القرآن في الميزان:29نقلا عن الزنيدي: 143)، وكما يرى أيضا عدنان زرزور؛ أن من مزايا تفسير الظلال؛ تجاوز عصر الخلاف أو عصر المذهبية، في تفسير القرآن (عن الزنيدي:143)، وفي الاتجاه نفسه كتب آخرون، كعلي الطنطاوي وعبد المجيد الزنداني.
الثاني: رأوا أنه ينبغي أن تأخذ صياغة العقيدة اليوم؛ من تيارات الفكر الديني العباسي، ما هو معياري في الإسلام، وهو الالتزام بمرجعية صريح الكتاب والسنة القطعي، وإجماع الراشدين والصحابة السابقين، وهي المرجعية التي دعا إليها الفقهاء الأوائل، رافعي شعار السلفية، وأن تأخذ من تيارات الفكر الديني العباسي أيضا كراهية الفلسفة اليونانية التجريدية، والبحث الخيالي السفسطائي، وتأخذ من سلفية ابن تيمية، تخليص العقل من الخرافات الروحية في جانب التصورات، كالاستغاثة بالأموات، وتأخذ من سلفية محمد بن عبد الوهاب بساطة التعبير، وروح العمل البعيدة عن وحل الجدل، وفكرة التوازن بين شق العقيدة المدني والروحي، وأنه لا دعوة من دون دولة، ولا ملة دون استقلال، كما ظهر في حركة الإخوان المسلمين في مصر، والجماعة الإسلامية في باكستان، وتحاول ان تجيب على الأسئلة الشاخصة. وأن تتجنب الأخطاء التي وقعت فيها السلفيات المواضي، أثناء التنظير أو الممارسة، أو هما معا.
19- اختلاط الأجناس استدعى الاحتراس في توصيف شقي العقيدة الروحي والمدني:
للسلفيات العباسية جهود موفورة مشكورة، في سياق الاجتهادات، التي حاولت بها أن تحل النوازل والتحديات، من خلال ما بين يديها من معطيات، وأهم جهد لها كان في تبويب وترتيب مسائل شق العقيدة الروحي كالصلاة، وتوصيف ما هو مجمل من شق العقيدة المدني كالمعاملات، وتفصيل مسائل فقه الفروع، عمل يكاد أن يكون متكاملا في جانب العبادات الروحية، بحدود حوالي 90%، كما أشار القرضاوي، أما جانب شئون الحياة المدنية أغلبه مجمل، أو غير مجدول أو غير منسق، فلم يفصل منه إلا حوالي 10%. ، وهذا يدعونا إلى أن نفرز ما رواه السلف العباسي الصالح في العقيدة عن ما أنتجوه في غيره، فإن كان أمرا ثابتا بقرآن صريح، أو بحديث متواتر صحيح صريح فهو قطعي، فهو سواء أكان أصلا كالإيمان بالقدر، أو فرعا كالتيمم؛ فهو من قطب السلفية، والتزام فهمه حسب سنن العرب الفصحاء، العارفين بأصول البلاغة العربية ودلالتها فهو قطعي، وإن كان مما هو اجتهاد يجوز فيه الخلاف، فهو اجتهادات وحركات زمنية مكانية، وهو مجموعة من الآراء البشرية، تحتمل الصواب والخطأ، وهو من ما أنتجوه.
وكانت الثقافة اليونانية، حاضرة في بروز الفرق الإسلامية، ولهذا فليس كل ما قاله المعتزلة من البدعة، ولا كل ما قاله المنتسبون إلى السلفية في العصر العباسي من السنة، فلهؤلاء وهؤلاء أفكار هنا وهناك هي من السنة، وهذه الأفكار حاول لم شتاتها الأشعري، الذي حاول أن يقف موقفا وسطا، بين المحافظين الذين توقفوا، والمجددين الذين اندفعوا أو استعجلوا وانبهروا، ثم جاء الغزالي، الذي كان أعمق منه، لأن قدر على تفكيك خطاب التجديد من الداخل، فرفض منه وقبل، ولكن الروح الأشعرية الساكنة، حرمته من نفحة المجالد المجاهر وهاتان الخطوتان مهدتا المجال لابن تيمية، لكي يفكك الفلسفة اليونانية ومنطقها، بصورة أفضل، ولكي يعيد للفكر واقعيته، وروحه العملية.
ولهذا نجد من آراء ابن تيمية أكثر دقة وعمقا من آراء من سابقيه الحنابلة، لأنه استوعب ما قبله، وأن آراء الغزالي أفضل من آراء الأشعري، لأنه استوعب أيضا ما قبله، فبني عليه، وأن آراء الشاطبي في مقاصد الشريعة، أعمق من آراء ابن تيمية، لأنه استوعب أيضا ما قبله، فبني عليه، واللاحقون أفضل من السابق، في بناء الأفكار، لأنهم يصعدون فوق كتفيه، فيرون من الأفق ما لم يره السابق.
ولكن الأزمة ازدادت حدة, عندما جاءت الحضارة الغربية, بجبروتها العلمي والتقني والعسكري, فأصابت الفكر الديني الإسلامي بصدمة ثقافية كبرى، على جميع الصعد، عسكريا واقتصاديا وتربويا، الأزمة التي هزمت المسلمين أمام الاستعمار اليوم، وسبيل إصلاحه لا يكون إلا عبر العودة المباشرة إلى مصباح الكتاب والسنة، وزجاجة التطبيق النبوي والراشدي، ومشكاة حقائق علوم الاجتماع والطبيعة، والسعي إلى بناء المجتمع المتكتل المتعاون الفاضل، لوصل ما انقطع بين السمو الروحي والمدني، لأن الغفلة عن ضعف ارتباط المدنية بالروحية في العقيدة الإسلامية, يطأطئ هاماتنا للاستلاب والاستحواذ رويدا رويدا, في حركات إرادية وغير إرادية, تزداد استمتاعاً بالرق الحضاري، فنزرع فكر الخمول والتخلف في الأمة, أو فكر التغريب والفرنجة المجتلب.
20- من فرط في إقامة العدل رعاية لإقامة الصلاة، فقد آثر هوى كسرى وقيصر على هدى محمد:
السلفية الحقة جهاد وإصلاح سياسي واقتصادي وحقوقي وتربوي وقضائي وإداري وتعليمي، ولا يمكن لأي عالم ولا طالب علم أن ينكر أن إنكار المنكر السياسي جهاد، وأن هذه مسألة قطعية، لا يمكن لأي عالم ولا طالب علم أن ينكر أن وجوب تغيير المنكر باللسان مسألة قطعية انعقد عليها الإجماع، والخلاف إنما هو في جواز إنكاره باليد؛ عند عدم زواله بالكلام أو عند منع الكلام.
فكيف يكون الإنسان اليوم سلفيا وهو لم يكتب ببنان، و لم يتكلم بلسان، فضلا عن أن يشارك دعاة الإصلاح السياسي في إصدار بيان، فضلا عن يعتصم ويتظاهر في ميدان، وهو يرى المنكرات الكبرى في الدولة العربية القامعة داخليا، المنقمعة خارجيا، ولا سيما تلك الفواحش العظمى:1- اسقاط سيادة الأمة والتلاعب بمصيرها. 2- منع حرية التعبير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3- الإخلال بالعدالة، وهدر نزاهة القضاء. 4- إهدار ثروة الأمة لصالح أعدائها وثلة من أغنيائها. 5- الإخلال بالمنهج التربوي الإسلامي الأخلاقي. 6- التبعية للإمبريالية والتفريط باستقلال الوطن.
والفقهاء المخضرمون الذين عاشوا في العصر الأموي وأدركوا مطلع العباسي، كالأوزاعي ومالك وأبي حنيفة والشافعي. كانوا يعبرون بمواقفهم عن أن العدل والشورى من أصول الدين، والإمامان الأحمدان ابن حنبل وابن تيمية وتلاميذهما كانوا بمواقفهم يقولون: حرية الرأي في الاجتهاد من أصول الدين، والصبر على السجن فيها من الجهاد، والقتل في سبيلها إنما هو استشهاد، وسبيل فقه النهضة الإسلامي، هو التركيز على عودة العدل إلى مركزه، كثاني عمادين لفسطاط العقيدة، عودة شطر العقيدة المعطل إلى مكانته أولا، لكي تصلح قيم المجتمع التي خلختها الصياغة العباسية، للثقافة الإسلامية ولكي ندرك أن الإسلام إصلاح روحي ومدني معا.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها،..............إن السفينة لا تجري على اليبس
لا سبيل أمامنا من أجل شحذ الروح الجماعية، التي يحس فيها كل فرد بتبعته في الشأن العام، إلا بالإسلام، وكل المفاهيم التي لا تنبثق من الإسلام إنما هي أشجار اجتثت من فوق الأرض ما لها من فرار.
21- طلائع الصحوة السياسية والحضارية الحديثة:
لم تخل خطوات طلائع الصحوة السياسية من أخطاء كبار وصغار، ولكنها في التفصيلات لا في المنهج والكليات، أي أن منهجها في التركيز على القيم المدنية والفقه السياسي صحيح لا ريب فيه، ولا مناص منه، وتنبه كثير من المصلحين في العصر الحديث، إلى ماران على الدين من بدع ومنكرات، وإلى ما في مناهج تعليمه من ركود وجمود، وينبغي لنا اليوم أن نجدد الدين، بإعادة صياغة الفكر الإسلامي صياغة جديدة، تراعي شمول الدين وتوازنه بين الغيب والشهادة، كما في صياغة كثير من العلماء العاملين المجددين، وتعود إلى سلطة النص: مصباح الكتاب والسنة، في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي، ومشكاة سنن الله في الإنسان والطبيعة ، وتستلهم منهما العقيدة الصافية البسيطة، الخالية من الغموض والتعقيد والتبعيض.
وقد لقيت محاولات سلفية الصحوة السياسية رفضا من التيار السلفي المحافظ، على الصياغة العباسية في العقيدة والثقافة، فجوبه السلفيون السياسيون بتبديع وتكفير كثير، نال أمثال الغزالي وسيد قطب والقرضاوي، و سلفية الصحوة السياسية، تدعو إلى النهوض العام الشامل، والاستفادة من أفضل ما أنتجه العقل العباسي الإسلامي الماضي وفهم الدين فهما شاملا من خلال مقولات الشاطبي والعز بن عبد السلام: الشريعة نظام، وليست إلغاءاً للتراث العباسي.
ومن هؤلاء ما كتبه " حاكم المطيري" الأمين العام للجمعية السلفية، الذي استوعب كوارث الخليج وتبعة فقهائه الغافلين، فأصدر كتابا بيانا سلفيا، ضد الصور السلفية الباهتة، بعنوان: الحرية أو الطوفان، صدر 1425هـ (2004م))، طارحا السؤال التالي: "كيف بدأ الإسلام دينا يدعو إلى تحرير الإنسان من العبودية والخضوع لغير الله عز وجل، إلى دين يوجب على إتباعه الخضوع للرؤساء والعلماء مهما انحرفوا وبدلوا، بدعوى طاعة ولي الأمر؟" (الحرية أو الطوفان:7 )، الذين يمشون في ضباب نظرية (ولي الأمر العباسي)، التي تجعل الحاكم قطبا تدور الأمة حوله كالأغنام حول الراعي، إنما يحمون التخلف السياسي بخطاب ديني، ويحرفون الكلم عن مواضعه، وإن كانوا لا يشعرون.
ومن أجل ذلك ينبغي اليوم أن يتداعى اعيان الأمة في كافة أقطارها، وينادوا بدولة العدل والشورى، ويذكروا الحاكم أيا كان وصفه بأن البيعة الشرعية إنما هي على الكتاب والسنة، وإنما مضمونها: شرطان: العدل، والشورى، فمن أخل بهما وجب على الناس كافة، خفافا وثقالا، نساءا ورجالا؛ جهاده سلما، عبر البيانات والمقولات والمواقف، والتجمعات، والاعتصامات والتظاهرات والإضراب والعصيان المدني، ولا ينبغي الخوض في العقيدة، في مالم يخض فيه سلف الصحابة الراشدي، كما نبه الشوكاني والذهبي، وفعل ابن عبد البر والشاطبي، وكلا الفريقين من أهل السنة والجماعة.
وأن يتذكروا أن القول بتطبيق الشريعة، من دون دستور إسلامي، يضمن العدل والشورى؛ إنما هو غفلة أو تغافل، عن الوسائل الشرعية، التي هي فرائض شرعية، مادام لا يمكن تحقيق المبادئ من دونه، على أن تكون المطالبة بذلك بطرق سلمية، لأن مخاطر الانقلاب، في الأمم والأوطان كبير، فالسلاح عندما يتحكم في الناس، قد يؤدي إلى الفوضى والحروب الأهلية، وتدخلات الدول الأجنبية، ولأن التكتل السلمي، أضمن وأجدى وأعمق وأبقى وإن تأخرت النتائج، ولأن الأسلوب السلمي المتدرج في المطالبة، بالدستور الإسلامي، هو الأصل في الإسلام، وهو مضمون النجاح على المدى الطويل، والتضحيات في سبيل هذا الهدف النبيل لإعلاء كلمة الله والحق، أجرها عظيم كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلـم: " أعظم الجهاد كلمة عدل أمام سلطان جائر" . والسلام.