تتمة غياث العرب من استمرار الوهن والجرب
(12): خلاصة كتاب " الشورى في معركة البناء" للريسوني
الفصل الأول: مكانة الشورى وامتداداتها في البناء الإسلامي
1- أهمية الشورى نظرياً وعملياً: قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة...)30-32/البقرة، هذا الحوار بين الله والملائكة، يسن ناموس إلهي في المشاورة، - وإن كانت بصيغة الإخبار - منذ بدأ خلق آدم إلى نهاية حياته على وجه الأرض، فمن نشأ في جوها كانت حياته كما أراد الله لها، ومن مقاصدها في هذا المقام التعليم والتكريم، ولهذا التزم بها إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام، في أخطر أمر أراده الله منه، قال تعالى: ( قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ) 102/الصافات، قال الطرطوشي: " ولا يمنعك عزمك عن إنفاذ رأيك وظهور صوابه لك عن الاستشارة، لأنه أدب، فكيف إذا لم يكن الأمر على هذا الجلاء؟ وقاله القاضي بن جماعة.
والشورى العائلية: قال تعالى: ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن، فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف...) و ( والوالدات يرضعن أولادهن...فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما)32-33/البقرة، وقال تعالى: (وأتمروا بينكم بمعروف) 6/الطلاق، والاستبداد بالرأي في هذه الأمور العائلية ممنوع، قاله: "الثوري"، وحقيقة الأمر لا يتعلق بمسألة الرضاعة فحسب، بل المقصد رعاية مصلحة الطفل وهي في تربيته ككل وحتى زواجه، ولما سألت أم المؤمنين عائشة رسول الله عن زواج الجارية: " أتستأمر أم لا؟ قال: نعم تستأمر" ( البخاري)، وفي حال الشقاق والخلاف الزوجي، التحكيم مشاورة، واستشار الرسول علياً وأسامة بن زيد في فراق أهله يوم الإفك، (البخاري)، ومشاورته زوجاته في طلبهن النفقة، وأن يشاورن آبائهن وأمهاتهن (يا أيها النبي قل لأزواجك...)28-29/الأحزاب، وبدأ بعائشة في التخيير فقالت: " أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة" (مسلم).
2- الشورى من المجال الخاص إلى المجال العام: إذا ثبتت الشورى في القضايا الخاصة والأسرية، فإن ثباتها في الشؤون العامة والقضايا الكبرى أولى، بنص القرآن قال تعالى: ( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة، وامرهم شورى بينهم، ومما رزقناهم ينفقون) 38/الشورى، شورى الأمة قاطبة، أما شورى القائد والحاكم قال تعالى لنبيه: ( فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين) 159/آل عمران، وقرنها بالصلاة يجعلها فريضة مثلها، فكيف وهي مقررة بصيغة الأمر، والأمر في الأصل للوجوب، بل ربطت بالإيمان كذلك، وإذا أمر بها الرسول فغيره أولى وأشد إلحاحاً وضرورة، لهذا قال القاضي ابن عطية: " الشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه" (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: 3/397).
حكم الشورى: فيما يتعلق بالحكام والأمراء والمسؤولين، حكمها واجب بالنص، لأنهم أولى من رسول الله بالأمر بها، وهو المعصوم، قال أبو هريرة: " ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله " (الترمذي)، وابن عطية يعتبرها من قواعد الشريعة، ويعزل الإمام إذا فرط بها، قال ابن عاشور يرد على ابن عرفة الذي أنكر على ابن عطية قوله: " إن قياس الشورى على فسق الحاكم غير صحيح، لأن فسقه ضرر على نفسه، أم ترك الشورى مضر بالأمة وتعريض لمصالح المسلمين للخطر، وتراه المالكية للوجوب، قال القرطبي: " فإن كان أمر يشملهم نفعه وضره، جمعهم للتشاور في ذلك" والتخيير في الشورى يكون للأمور الخاصة بالفرد، فهذا شأنه، مع أنه يندب له إذا كان يتعلق به وحده، ويجب إذا كان يتعلق بآخرين كأسرته وذويه ومن له ولاية عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلـم: " ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار" (الطبراني الأوسط، والجامع الصغير: 2/425).
3- مجالات الشورى:
أ- المجال السياسي الدنيوي: قال ابن حجر: " المشاورة فيما ليس فيه نص، وقيل في الأمر الدنيوي، وقال الداودي: " في الحرب والسلم، وقاله ابن عطية، وهما في المجال السياسي والعسكري، ويدخل في ذلك التشاور لاختيار خليفة، أو أمراء، وقادة إداريين وعسكريين، ومن ذلك الخطط والسياسات، وقد ورد الأمر بالشورى على العموم، مطلقاً غير مقيد، في آيتين، وخصص الأمر فيما لا حكم فيه من الله ورسوله، قال تعالى: ( وما كان لمؤمن ولا لمؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) 36/الأحزاب.
ب- الشورى في تنزيل الأحكام القطعية: الحكم الشرعي القطعي ليس محل شورى وخيرة في قبوله أو رفضه، وإنما هو في محل الشورى من حيث التطبيق والتنفيذ، لأنه من مقاصد الدين، ولكن يتلبس بأمر خارج عنه، هو محل التشاور، قاله: " ابن الأزرق" والمثال: مشاورة إبراهيم ولده، ليس في الأمر، وإنما في طريقة التنفيذ، وهذا موسى عليه السلام يشير على رسول الله في السماء طلب تخفيف الأمر بالصلاة، فأصبحت الخمسين خمس، - وهذه فائدة جوهرية في الشورى – وهذا يمكن تعميمه في كثير من الأمور للتشاور في حيثيات التطبيق.
ج- الشورى في الأحكام الاجتهادية والخلافية: روى ابن عبد البر عن علي قال: " قلت يا رسول الله: الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن، ولم تمض منك فيه سنة، قال: اجمعوا له العالمين – أو قال العابدين – من المؤمنين، اجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد" (جامع بيان العلم: 2/73)، وهو( حديث ضعيف)، وتشاور الصحابة في النداء للصلاة، حتى استقر بالرؤية والأذان، مع أنه أمر تعبدي، لم ينتظر الوحي له، لأنه وسيلة، قاله ابن العربي، ولم يكن الرسول ص يشاور أصحابه في فرائض الأحكام، وروى ابن سعد عن أبي هريرة أن النبي ص كان يخطب وهو مستند إلى جذع، فقال: إن القيام قد شق علي: فقال له تميم الداري: ألا أعمل لك منبراً كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور النبي ص المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذوه.." (فتح الباري: 3/60)، ويرى الجصاص أن الشورى تكون في كل ما ليس فيه نص، ديني أو دنيوي، مما طريقه الرأي، وكما شاور في أسرى بدر، وتشاور الصحابة عهد عمر، في موجب الغسل بالإنزال أو بدونه؟ وقد روى ابن القيم أن عمر بلغه أن زيد بن ثابت يفتي في الغسل بالمسجد، فقال عمر: علي به: " فقال له: " أي عدو نفسه قد بلغت أن تفتي الناس برأيك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، والله ما فعلت، وكنت سمعت من أعمامي حديثاً فحدثت به،...فقال علي برفاعة بن رافع، فسأله عن ذلك، وقال: ورسول الله يعلم ذلك؟ قال ما أدري، فأمر بجمع المهاجرين والأنصار، فجمعوا فشاورهم، وكان علي ومعاذ على رأي آخر، فقال عمر: هذا وأنتم أصحاب بدر قد اختلفتم، فمن بعدكم أشد اختلافاً، فأشار علي بسؤال أزواج النبي ص فسأل حفصة، فقالت: لا علم لي، فسأل عائشة فقالت: " إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فقال: لا أسمع برجل فعل ذلك، إلا أوجعته ضرباً" ( اعلام الموقعين: 1/56)، فانعقد إجماع أو شبه إجماع بفضل هذا التشاور، والبحث المشترك عن الصواب وأدلته" .
د- الشورى في القضاء: القاضي يحكم في الأموال والدماء والأرواح والفروج، وغيرها من المنازعات، فإذا نظر الفقيه إلى الأدلة المؤدية للحكم، إلا أن القاضي ينظر إليها مرتين، مرة كفقيه، ومرة أخرى كقاضي، فهو يجتهد مرتين، ولهذا هو بحاجة إلى المشاورة، وكان أبوبكر ينظر في المسألة من القرآن، وإلا فينظر في السنة، فإن لم يجد سأل الناس ورؤوسهم، فإذا اجمعوا على رأي قضى به، وهكذا كان يفعل عمر، وكتاب عمر بن عبد العزيز إلى عروة: " إن رأس القضاء اتباع ما في كتاب الله، ثم القضاء بسنة رسول الله، ثم بحكم أئمة الهدى، ثم استشارة ذوي العلم والرأي" ( جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/30)، وحدد لاختيار القاضي خمس خصال: عفيف – حليم – عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الرأي، لا يبالي بملامة الناس" (فتح الباري: 15/50)، فالتشاور صفة لا زمة للقاضي على الوجوب أو الندب، وهذا الاختلاف بسبب وهم الكثيرين من أن الشورى في السياسة فحسب، بينما هي من قضايا الإسلام العامة في كل شؤون حياة المسلمين الخاصة والعامة.
4- وظائف الشورى ومقاصدها:
أ- مقاصد الشورى وفوائدها: ذكر منها الجصاص: 1- إعلام الناس ان ما لا نص فيه، يستدرك حكمه بالاجتهاد، وغلبة الظن، 2- إشعارهم بمنزلة صحبة النبي، وأنهم أهل الاجتهاد، واتباع آرائهم لموافقة المنصوص من الأحكام، 3- تزكية لبواطنهم المرضية عند الله، حيث يأمر نبيه بمشاورتهم، تدليلاً على صحة إيمانهم، الذي يؤهلهم لهذا الاجتهاد، وذكر من بركاتها ابن العربي المالكي: 1- الإقدام على معلوم بعد التحري، 2- تخليص الحق من احتمالات الخواطر، 3- استخراج عقول الناس، 4- تأليف قلوبهم على العمل، كما فعل النبي في بدر مرتين، وقال أيضاً: الشورى ألفة للجماعة، ومسبار للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا" ، وذكر القاضي أبي بكر المرادي أربعة أوجه احتياج إليها: 1- تقصير المستشير عن معرفة التدبير، 2- خوفه من الغلط في التقدير، 3- تعرض الإنسان إلى أثر العاطفة حباً أو بغضاً، فيستشير من رأيه صافٍ منهما مبصر بالآراء. 4- داعية للمستشار في معونته إذا كان مشاركاً فيه، ولهذا جمعت عشرة خصال من مقاصد الشورى:
1): الوصول إلى الصواب والأصوب: هو المقصد الأصلي للشورى، لمعرفة وجه الحق والصواب، أو الأفضل والأحسن، أو معرفة خير الخيرين، وشر الشرين، حيث أمرنا ب: (ادفع بالتي هي أحسن) 34/فصلت، فإذا التزمنا الشورى في جميع أشكال حياتنا كنا في حال أفضل من الفردية والأحادية والمزاجية، وبأكبر مكاسب، وأقل خسائر، قال تعالى: ( لمن شاء منكم أن يتقدم او يتأخر) 37/المدثر، ونجزم بأن أغلب تخلفنا هو غياب الشورى في حياتنا.
2): الخروج من الأهواء والمؤثرات الذاتية: النزاهة من الذاتية، والتأثر بالموضوعية صفة يصعب التخلص من آثارها بالكلية، بسبب التكوين الإنساني القائم على العقل من جانب والعاطفة من جانب آخر، ولهذا تكون الشورى تمحيص لما في العقول وموازنة لما في القلوب، بسبب اختلاف الناس فيهما، فالمشاركة تخفف آثار الفردانية منهما.
3): منع الاستبداد والطغيان: أهم مقاصد الشورى لأن نقيضها الاستبداد والطغيان، وهذا يؤدي إلى أعظم المفاسد، قال تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى) 6/العلق، وهذا ما دفع الطاغية الفرعون ليقول قال تعالى: (ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) 29/غافر، وإذا كان الحاكم مسؤولاً عن صلاح الأمة، فإن الأمة مسؤولة عن صلاح الحاكم ورشده، والشورى تقوم بتحقيق هذا الدور لجميع شرائح المجتمع، آباء وأمهات، وقضاة، وساسة، ووزراء، وإدارات، فإذا كان الاستبداد داء، فإن الشورى هي الوقاية والدواء.
4): تعليم التواضع: لأن الطغيان يكون بسبب الاستبداد والاستغناء عن الآخرين، بينما الشورى تشعر المستشير بالحاجة إلى المعونة والمساندة، فينتج عنهما التواضع، الذي يزيح الاستعلاء، قال سفيان بن عيينة عن الرسول: " أمره – ربه – بالمشاورة لتقتدي به أمته فيها، ولا تراها منقصة" (أحكام القرآن للجصاص: 2/40).
5): إعطاء كل ذي حق حقه: لا يتم للأمة بأسرها إلا من خلال الشورى، التي تحقق أعلى درجات الإنصاف الممكن للرعية، فلا يستبد بحقوقهم فرد أو جماعة، وهذا ما صنعه رسول الله في استشارة زعيمي المدينة بأن يعطي غطفان ثلث ثمارها إذا انسحبوا من حصارها مع الأحزاب، فسألوه أوحي هو؟ أم تصنعه لنا؟ فأخبرهم بشفقته عليهم، فأبوا وعدل عن رأيه إلى رأيهم، لما رأى من ثباتهم، وفي غزوة حنين صنع مثل ذلك، لما أراد أن يرد لهوازن سبيها، فشاور أصحابه، وأمر للتأكد بالرجوع إلى عرفاء الناس ليشاوروهم ويخبروه، فأخبروه بأنهم طابت أنفسهم وأذنوا" ( صحيح السيرة النبوية: 361).
6): إشاعة جو الحرية والمبادرة: الشورى حرية تفكير كما هي حرية تعبير، فإذا استخدمت من غير هاتين الخصلتين، كانت ملهاة وتضليل ومناورة، والله سبحانه أذن للملائكة بالتساؤل والتعبير عن مخاوفهم، حين أخبرهم بخلق خليفة في الأرض، ولتطبيق ما أذن الله به في السماء، أذن الله بمثله في الأرض، فاستمع جدال وشكوى أسماء بنت عميس لرسول الله من ظهار زوجها لها، والصحابة الكرام أخذوا حظهم من حرية الرأي والتعبير زمن رسول الله، حين تكلموا في أمارة أسامة بن زيد على الجيش، وأخذ رسول الله يوم تبوك برأي عمر، بعد أن اعترض على نحر النواضح بسبب المجاعة، واقترح بأن يدعو رسول الله على فضل ما لديهم من زاد فدعا، فالحرية والشورى توأمان.
7): تنمية القدرة على التفكير والتدبير: الشورى تربية وتعليم وتدريب وتأهيل، لتنمية الملكات الفكرية والقيادية، وهي تكريم من الله والشريعة للإنسان، كما أنها ترقى بمستوى فهم الناس المستشارون والمستشيرون.
8): تقوية الاستعداد للتنفيذ والتأييد: القرارات التي يشارك الشعب عبر الشورى الحقيقية في اتخاذها، تمنحه الحماسة اللازمة لتنفيذها والتأقلم مع مستلزماتها من صبر وتضحية، والقرارات الانفرادية لا يتحمس لها الشعب، بل يقف لا مبالي تجاهها، ويتملص من المسؤولية تجاهها.
9): الألفة والوحدة: لأن الشورى تطيب النفوس، وترفع أقدارها، وتحقق الرضا، وإن رد الجصاص هذا التفسير.
10): تحمل التبعات السيئة: والمآلات اللاحقة، فلو كان قرارها انفرادياً، فالشكوى تكون عارمة، وفي حال الشورى أقل بدرجات لأن الاعتراض يكون أخف وأرحم، لأنها تكون نوع من توزيع المسؤولية، بدل أن تكون على واحد.
الفصل الثاني: قضايا أساسية في الممارسة الشورية
أرسى الشرع الممارسة الشورية في حياة المسلم الخاصة والعامة، دون تقييدها بشكل محدد، فإن كانت مندوبة في الحالة الفردية والعائلية، فإن ممارستها في الحياة العامة تحتاج إلى تفصيل.
5- أهل الشورى بين العموم والخصوص:
أ- البعض حصر أمر الله لرسوله بالشورى في أبي بكر، وعمر، لقوله ص: " لو أنكما تتفقان على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبداً.." (فتح الباري: 15/284)، وعقب ابن حجر بقول: " لا حجة فيه للتخصيص" وقال ابن العربي: " (وشاورهم في الأمر) المراد جميع أصحابه، ويؤكدها خطابات رسول الله العامة أكثر من مرة بقوله لأصحابه: " أشيروا علي أيها الناس .." وقد طبقها رسول الله في مرات كثيرة وأحوال متنوعة، مما يكون ذلك تطبيقاً للآيات التي أمر بها بالمشاورة، [ وهي عامة وحكمها مختلف حسب درجة الحاجة والأهمية، بين الندب والوجوب والإباحة] م. ن.
ب- الرجل والمرأة في الشورى سواء: كل خطاب عام موجه للمؤمنين والمسلمين يشمل المرأة كذلك، إلا إذا خصص بالرجل دون المرأة، أو بالمرأة دون الرجل، ولا دليل على ذلك في أمر الشورى، قال ابن حزم الظاهري: " خطاب نبيه صلى لله عليه وسلـم للرجال والنساء واحداً، ولا يخص بشيء إلا بنص أو إجماع" (الإحكام في أصول الأحكام: 3/80)، وأشهر مشاورة لرسول الله للنساء، مع أم سلمة يوم الحديبية، وفي رواية أن امرأة أشارت على النبي بأن يُصنع له منبراً يجلس عليه يوم الجمعة، فوافق، فصنعه غلام لها نجار، (البخاري)، وذكر القرآن مشاورة بلقيس قومها، للرد على رسالة سليمان عليه السلام، واعترض كثيرون على ان المرأة تمنع من الولايات العامة، وسندهم قول النبي لما بلغه أن فارساً ملكوا ابنة كسرى، :" لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" (البخاري)، ولا يصح قياس السلطة العليا التنفيذية على سلطة تمثيلية نيابية تشريعية، فهذه غير تلك، ويرى علال الفاسي، أن قوله تعالى: ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله، إن الله عزيز حكيم) 71/التوبة، نص في شمولها بالشورى والمشاورة، والولاية والنصرة، وحضور المساجد، والمعارك، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يضاف إليها ما ورد في مشورتها في الأمور الأسرية كذلك، ولا يرى إمام الحرمين [الجويني] للنساء هذا الدور، فإن أراد الواقع العربي الإسلامي في تلك العصور فصحيح، لكن لا ننسى أن الإسلام جاء وغير هذا الواقع وفتح نوافذ الحق والحقوق للجميع، أما النفي المطلق فهو غير صحيح، ولا دليل عليه، من كتاب ولا سنة، ويكفي حضور أم عمارة المازنية، وأسماء بنت عمرو إبرام بيعة العقبة الثانية أول الإسلام، ومشاورة عبد الرحمن بن عوف النساء المخدرات في عقد بيعة عثمان خليفة للمسلمين.
ج- الشورى الخاصة: الشورى العامة لكافة المكلفين، لكن الشورى الخاصة لبعض المكلفين، وفي هذه الحالة يحكمها الفرض الكفائي وحيثياته، ويقبل في هذه الحالة التوكيل بها، لأن المشاورة تنقطع بالعزم، واتخاذ القرار، قال تعالى: ( وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله)، ولتعذر استشارة جميع الأمة، لجأ رسول الله إلى فكرة النقباء عنها، والعرفاء، كما حدث في بيعة العقبة، وغزوة حنين، يضاف إلى ذلك، الحاجة إلى استشارة شرعية، أو عسكرية، أو قضائية، أو تجارية، أو سياسية، هذه التخصصات، تحتاج مستشارين مخصوصين، يتمتعون بفهم هذه الأمور، ولديهم دربة وخبرة فيها، وهذا ما أدركه الفقيه المالكي " ابن خويز منداد" يقول: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتَّاب والوزراء والعمال، فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها" (القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 4/250)، وذكر القرآن: ( سؤال أهل الذكر – والذين يستنبطون ) ، واليوم لا حاجة للحاكم أن يقف بين الجموع ليقول: أشيروا علي أيها الناس، بل عليه أن يفعل ويؤصل وينظم الذي بدأه رسول الله في العقبة وحنين، وهو اختيار مجالس تمثل الأمة، وتمثل المختصين في كل جانب يحتاجه وتحتاجه الأمة، والأعراف اليوم والخبرات العالمية أنتجت ما يعرف بمجالس النواب، أو المستشارين، وحتى مجالس البلديات ..ولا مشاحة في الاصطلاح لتحقيق المقصد الشرعي من الشورى.
6- مجالس الشورى، صفاتها واختيارها: ويعرف في تاريخنا بأهل الحل والعقد: يضاف إليهم اليوم: كبار المستشارين، ولهم مواصفات أوصلها الفقيه " ابن الأزرق" إلى اثني عشر شرطاً: 1- العقل الفطن، 2- التقوى، 3- المحبة والإخلاص، 4- سلامة الفكر، 5- البراءة من الهوى، 6- التمتع بالخبرة مع العلم، 7- الاعتزاز، 8- كتمان السر، 9- برئ من الحسد، 10- الشعور بالسلامة، 11- الشعور بالمسؤولية، 12- الثقة بالنفس.
ويمكن جمعها في التمتع بالعلم والأمانة والخبرة، لقوله صلى الله عليه وسلـم: "المستشار مؤتمن" (أبو داود .صحح).
واختيار أهل الشورى ب: 1- طريقة التعيين: 2- طريقة الانتخاب: وقد يجمع بين الطريقتين، [ وهذا ما فعله رسول الله]، والمقصد الشرعي هو الذي يحدد الكيفية المناسبة، فإذا كان المقصد تمثيلي، [ كما حدث في بيعة العقبة، وحنين] فإن الأمة والمكلفين هم الذين يختارون من يمثلهم، والطريقة الأولى مقصدها اختيار مستشارين بمواصفات محددة، وهذا ما تقوم به الجهة ذات الاحتياج، فالرئاسة تختار من يعاونها، ومجلس الوزراء يختار من يعاونه، ومجلس النواب يختار من يعاونه، بطريقة التعيين، أو آليات انتخابية خاصة يحددها صاحب الاختصاص.
قال في الفتح: " العرفاء جمع عريف: وهو القائم بأمر طائفة من الناس، يتعرف أمورهم، حتى يُعَرِّفَ بها من فوقه عند الاحتياج" (فتح الباري: 15/74)، وأما النقيب: فهو كبير القوم، القائم بأمورهم، التي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها" (المحرر الوجيز لابن عطية: 4/382)، وورد أنه لما قبض رسول الله، حضرت الأنصار للمشاركة في غسله، ونادوا على الباب: الله الله، فإنا أخواله، فليحضره بعضنا، فقيل لهم: اجتمعوا على رجل منكم، فاختاروا " أوس بن خولي" فحضر غسله ودفنه، مع أهل بيته" (التراتيب الإدارية: 2/165).
7- إلزامية الشورى ومسألة الأغلبية: العلماء الأقدمون كانوا يرون أن الشورى للحاكم معلمة وليست ملزمة، يأخذ ما يقتنع به منها، أما المعاصرون من العلماء والمفكرين فيميلون إلى ضرورة التزام الحاكم بالشورى، خاصة مع رأي الأغلبية، فتكون ملزمة، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلـم، أمرنا أن نكون مع سواد المسلمين، أي غالبيتهم، وطبق هذا تماماً يوم أحد، في خروجه التزاماً مع رأي الشباب، - وترك رأيه الخاص – وحديث ما لم يكن فيه كتاب ولا سنة، قال: " اجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد." (ابن عبد البر: جامع بيان العلم: 2/73)، وقوله لأبي بكر وعمر: " لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما" (أحمد في المسند: 4/227- وفتح الباري: 15/284)، ومقولة الخليفة الراشدي الخامس: عمر بن عبد العزيز: لما ولي إمارة المدينة، دعا عشرة من فقهائها، وقال لهم: " إني إنما دعوتكم...ما أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم" (تاريخ الأمم والملوك للطبري: 7/61)، والتأكيد على الشورى تأكيد على الزاميتها، خاصة في حالة إجماع المستشارين، وحين اختلافهم، يكون رأي الأغلبية ملزماً، بدليل:
1): النظر في القرآن الكريم: استشهد البعض بذم القرآن للأكثرية على أنها لا تعبد الله وهي لا تؤمن به، وهذه ليست حجة لأنها لا تتحدث عن المسلمين والأخيار، وقوله بفضل الأقلية، لا يقوم دليلاً، لأن المتكبرون والفراعنة، والظلمة دائماً هم أقلية تتحكم بالأغلبية كذلك، [ فيتساوى الدليلان ويتساقطان معاً، ] م. ن، وهذا عمر يقول: " اعلموا أنه لا يزال الناس مستقيمين ما استقامت لهم أئمتهم وهداتهم" (جامع بيان العلم: 1/226)، وقال مثلها من قبل: أبوبكر لامرأة من أحمس يقال لها " زينب" وعلق ابن حجر على مقولته: " لأن الناس على دين ملوكهم، فمن حاد من الأئمة عن الحال مال وأمال" (فتح الباري: 7/536)، [ وفكرة التشكيك بالكثرة وتقليل شأنها، تناسب الفراعنة والمستبدين]، قال تعالى يمدح كثرة المؤمنين: (واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم..) 86/الأعراف، وقد ذكر القرآن الترجيح بالكثرة في قوله: ( قل لا يستوي الخبيث والطيب، ولو أعجبك كثرة الخبيث) حكاه ابن عرفة التونسي، عن ابن المنير الاسكندري، (التحرير والتنوير: 7/64)، وذكر قول النبي لثناء المسلمين على جنازة فقال وجبت وجبت، فاستنبط منها أن كثرة الشهادة بالصلاح معتبرة عند الله، وأمر الدنيا أهون من الشهادة لوجوب الجنة لمسلم، ويستشهد بالقرآن الذي ذكر فيه إصرار ملكة سبأ على عدم الانفراد برأيها فيما يمس مصلحة شعبها، ( ما كنت قاطعة امراً حتى تشهدون) 32/النمل، وقال الشاطبي: " لم يرد في القرآن ما يرد قولها أو يبطله، إذا كان باطلاً، (الموافقات: 3/353)، والأمر الثاني الذي يشهد لصحة شوراها وتصرفها، هو إسلامها واستجابتها للحق، بتزكية قرآنية: (رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) 44/النمل، والشهادة الثالثة من القرآن، أن ينطبق عليها قوله تعالى: ( ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا) 193/ آل عمران، وعلق القرطبي على فعلها في مشاورة قومها بالاستحسان، فقال: " وهي محاورة حسنة من الجميع" والشهادة الرابعة للشورى، تعليق ابن عباس على قوله تعالى مؤيداً كلامها: ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، ) و (وكذلك يفعلون) أنه من الله معرفا لمحمد صلى الله عليه وسلـم وأمته، بذلك ومخبراً به" (تفسير القرطبي: 13/ 195)، وقال عن ذلك العلامة محمد الأمين الشنقيطي: " تصديق الله قولها، والتزامها بمشورة قومها، مثالاً يحتذى.
2): في السيرة النبوية:
أ- في غزوة بدر: لم يطمئن رسول الله لخوض مواجهة قريش يوم بدر، وهو يقول: أشيروا علي أيها الناس، حتى تكلم الأنصار بالموافقة وقالوا: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ فقال: أجل: ذلك أنهم عدد الناس، (أي الأكثرية)، ولما انتصروا فيها وأسروا عدداً من المشركين، فاستشار النبي فيهم مرة أخرى، ولم يكن قد نزل فيهم شيء من القرآن، فأشار أبوبكر عليه بالفداء، وغالبية الصحابة، وأشار عمر بقتلهم، فنزل القرآن يعاتبهم على فرحهم بالفداء، وأنه من عرض الدنيا، وطبق النبي راي الأغلبية، بعد أن أباح الله لهم ذلك، في آخر النص: ( فكلوا مما غنتم حلالاً طيباً، واتقوا الله، إن الله غفور رحيم)، وهذا العتاب لمن استحكمت رغبة الدنيا فيه وليس للجميع، (تربية ربانية عظيمة).
ب- غزوة أحد: لما تجهزت قريش لغزو المدينة، ثأراً لهزيمتهم يوم بدر، استشار النبي الصحابة لكيفية مواجهتهم، فكان رأي الغالبية الخروج لملاقاتهم خارج المدينة، حماساً ومعنويات، خاصة من الشباب والذين لم يشاركوا في بدر، وكان رأي النبي مواجهتهم لكثرتهم بالتحصن داخل المدينة، فلم ينصاعوا لهذه الرغبة النبوية، فنزل على رأي الأغلبية، ولما أرادوا التراجع عن رأيهم رفض النبي،
ج- غزوة الخندق (الأحزاب): لمواجهة تحالف قريش والقبائل واليهود والمنافقين، فتعلم النبي والمسلمون الدرس من أحد، فحفروا الخندق بمشورة سلمان، ولما طال الحصار عليهم، أراد النبي فك تحالف قبيلة غطفان مع الأحزاب، بإغرائها بثلث تمور المدينة لموسم، واشترط استشارة وموافقة السعود الأربعة (وكانوا زعماء أهل المدينة): سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن مسعود، وسعد بن خيثمة، ولما علم هؤلاء أن الأمر شفقة عليهم وليس وحياً، رفضوه وقال النبي لهم: أنتم وذاك، وترك النبي اقتراحه، لعزيمتهم وصبرهم.
8- مقام النبوة وخصوصيته:
أ- فوق الشورى ونتائجها، لأن تأييد الله له وعصمته، تغنيه عن كل ما نظنه من خطأ أو صواب، لكن ما يفعله من مشورات كثيرة ومؤكدة، تجعل أي شخص غيره من الحكام والأمراء هو أولى بان لا يستغني عنها، لأنه لا عصمة له ولا وحي يتنزل عليه، ولا مقام له يدانيه أو يقاربه في شيء، فإذا أمضى بعض الأمور وأصر عليها دون شورى، فكيف لا يكون له ذلك وهو المعصوم المؤيد؟ فلا حجة لمن يريد أن يبعد وجوب الشورى للرقي بحياة المسلمين، وحسن إدارتهم لشؤونهم الخاصة والعامة.
ب- الترجيح بالأكثرية عند العلماء: حتى لا يظن أحد أن اعتبار الأكثرية منتج ديمقراطي غربي فحسب، وهي أمر عرفه المحدثون والفقهاء والأصوليون، والقضاة المسلون، وأشار أبو بكر بن العربي، أن العامي عليه أن يستفتي من يقع عليه اتفاق أكثر الناس في الشهادة له بعلمه" (أحكام القرآن: 2/225)، وقال ابو إسحق الشيرازي: " القول الذي عليه أكثر الصحابة هو الذي يقدم ويتبع، لقول النبي: " عليكم بالسواد الأعظم" (شرح اللمع: 2/751)، وقال ابن القيم: " فإن كان الأربعة الراشدين في شق، فلا شك أنه صواب" (أعلام الموقعين: 4/122)، وقال الحسن البصري: " يبعد أن يكون الأقل راجحاً" وهذا لا يعني عدم خطأ الأكثرية، وصواب الأقلية والواحد، لكن هذا نادر، لأن الغالب هو العكس، خاصة إذا كان الأمر وجهة نظر ورأي الواحد لا دليل معه.
الفصل الثالث: التجربة الشورية الإسلامية بين عهدها التأسيسي ومآلها التاريخي
بين يدي الفصل: [ شكلت الشورى أحد أهم عناصر قوة المجتمع المسلم الأول بعد التوحيد، باعتباره ناظماً للحياة المجتمعية، والتوحيد ناظماً للحياة الفردية، وكلاهما يتحدا في تنظيم الاعتقاد والفكر، والسلوك والأخلاق، ونحن اليوم أحوج إلى التطلع لهذا النموذج النبوي الراشدي لاستلهامه في تسديد خطانا نحو الإصلاح والتجديد لاقتباس هذا العنصر الرئيس الذي شكل قوة جيل الرعيل الأول، دون أن ننسى اننا في عصر لا يمكن إغفال متطلباته الحاجية والضرورية، لنكون من أبنائه البررة، دون أن نعق سلفنا الصالح، بأن نكون الخلف الذي ضيع وقصرَّ وفرَط وأفرط، بل نكون خير خلف لخير سلف، وهذا ما سيتحدث عنه المؤلف جزاه الله خيراً.] م. ن.
9- التجربة الشورية الأولى: بداهة الفطرة تؤكد أصالة قيمة الشورى في عقل الإنسان العاقل، وهذا ما بينته الآية الأولى المكية حيث وصفت المؤمنين: (وأمرهم شورى بينهم) ولا يحتاج إدراك أهميتها لشيء من خارج عقل الإنسان، لأمره بها وفرضها عليه، ولئلا يقصِّر فيها أحد، أو يهملها صاحب غرض، نزلت الآية الثانية في الشورى في العهد المدني، بقوله: ( وشاورهم في الأمر) فاجتمع لها وصفين، الأول: الوصف الفطري الذي لا يغيب عن العقلاء والحكماء، والثاني: الوصف التكليفي، الذي يقتضي ليس فقط الوجوب، بل تطوير الآليات العملية لتطبيقها في كافة الظروف، وتحسين استثمارها في تنظيم وقوة الدولة والمجتمع والجماعة، قال الطرطوشي: هي مما تعده الحكمة من أساس المملكة وقواعد السلطنة، ويفتقر إليها الرئيس والمرؤوس" (سراج الملوك: 63)، وقالها بعينها " ابن جماعة"، (تحرير الأحكام: 169)، وكان تطبيق النبي والخلفاء الراشدون لها من بعده، تقوم على البساطة واليسر والسماحة، دون نظام صارم يرضي أو يغضب، بل كانت المشاورات تجرى في جو من الحرية والأمن والجرأة، والمساواة، وفهمها الصحابة والخلفاء الراشدون بهذا الوضوح:
أ- بيعة الصدِّيق: بعد وفاة رسول الله ص لم يكن للمسلمين نظام للأمرة والأمارة، ولكن الإدارة النبوية كانت تقوم على الشورى وقواعد حسن اختيار الرجال للمهام المنوطة بهم، ولهذا سارع الأنصار وهم سكان المدينة، - وهم أقرب للشام من مكة، ولديهم احتكاك بها عبر التجارة – لاختيار أمير منهم لأنهم أهل البلد، على رغم عروبتهم التي لا تعرف نظام الرضوخ لملك، حيث كانوا في حالة القبلية وأعرافها، ولديهم زعامات يمثلون قبائلهم، لكن أن يكون لهم أمير يمثل الجميع، فهذه أخذوها حديثاً من شريعة الإسلام وثقافته، لأنهم انصاعوا لرسول الله، فتعلموا أن يكون لهم من يخلفه لهذا الانصياع للاستمرار في تبليغ رسالة الإسلام، إلا أنهم لم يفطنوا إلى المتغيرات الجديدة التي جعلت الجزيرة العربية بأسرها واليمن، دولة الإسلام وهذا يهم جميع قبائل العرب، وليس قبيلتي الأوس والخزرج فحسب، ولهذا تدارك الأمر عمر وأبو بكر وآخرون فسارعوا إلى سقيفة بني ساعدة، التي اجتمع بها الأنصار، فتكلموا فيهم بأن العرب لا تعرف هذا الأمر – في زمن البعثة على الأقل – إلا لهذا الحي من قريش، فاقتنعوا بالأمر، خاصة بعد أن اقترح عليهم عمر قرين وصديق النبي صلى الله عليه وسلـم في حله وترحاله وغاره وسيرته، الذي لا يعدله أحد من صحابته والناس، وبتزكيات متعددة من رسول الله، فكان هو خليفة المسلمين الأول.
ب- استخلاف عمر: عندما اشتد المرض بأبي بكر، بدأ يفكر ويستشير الناس فيمن يمكن ان يخلفه عليهم، فاستشار عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وسعيد بن زيد، وأسيد بن الحضير، وغيرهم كثير من المهاجرين والأنصار، (تاريخ الخلفاء للسيوطي: 70)، وعبر البعض لإبي بكر عن تخوفهم من غلظته، فرد عليهم، وأمرهم أن يبلغوا من وراءهم برده وحجته، وأخرج ابن عساكر عن يسار بن حمزة: " لما ثقل مرض أبي بكر اشرف على الناس من كوة فقال: " أيها الناس، إني عهدت عهداً أفترضون به؟ فقالوا رضينا، فقال علي: لا نرضى إلا أن يكون عمر، قال: فإنه عمر" (تهذيب تاريخ الخلفاء: 71).
ج- بيعة عثمان: لما طعن عمر وشعر بدنو أجله، طلب منه الناس أن يستخلف، فأبى، اقتداءً بفعل الرسول ص، وعلم ابنه عبد الله من أمه، بنية والده في عدم تعيين شخص ما يخلفه، فحلف أن يكلمه، فدخل عليه وروى له قصة راعٍ ترك قطيعه في البرية، ودخل المدينة، وسأله إن كان يقبل فعل هذا الراعي، فأجاب عمر لا، لكنه في اليوم التالي، اجتهد في أمر جديد، وهو توكيل ستة رجال قادة مخلصين، يعرفهم الصحابة والناس، توفي رسول الله ص وهو عنهم راضٍ، واقترح أن يختاروا بعد التشاور مع الناس أحدهم، فوقع الاختيار أخيراً على عثمان رضي الله عنه.
10- التشاور حول الأراضي المفتوحة: وهذه قضية فقهية ذات أبعاد سياسية، وعسكرية، واقتصادية، عرضت زمن عمر، بعد أن افاء الله على المسلمين فتح العراق والشام، فوزعت الغنائم المنقولة على المقاتلين، حسب أعراف ذلك العصر، وكان من بينها أراضٍ شاسعة فتحت عنوة، فطالب المقاتلون بتوزيعها عليهم كباقي الغنائم، وبينما هو يقلب الأمر في كيفية توزيعها عليهم، وقد وصل إلى الجابية بالشام، ورأى بعينيه هذه الأراضين الزراعية، اعترض على ذلك معاذ بن جبل، وقال له: إذن ليكون ما تكره، إنك إن قسمتها، صار الريع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون، فيصير ذلك إلى الرجل الواحد، أو المرأة، ثم يأتي قوم يسدون من الإسلام مسداً، وهم لا يجدون شيئاً، فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم، ولهذا بدأ عمر باستشارة كبار الصحابة، علي وعثمان وطلحة وابن عوف، وأرسل إلى عشرة من الأنصار، خمسة من الأوس، وخمسة من الخزرج، وبين لهم أنه لا يريد منهم أن يوافقوه بقدر ما يريد منهم أن يشيروا عليه بالحق، الذي لا يظلم فيه أحد من المسلمين، المعاصرين والأجيال القادمة، واقترح عليهم وقفها وإبقاءها بيد أهلها، على أن يأخذ منهم الخراج والجزية، فتكون تمويلاً ورواتب للجيوش والثغور ومصالح المسلمين، فأيدوه في اقتراحه [ وأظنه استشهد بقوله تعالى: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)] م. ن.
11- المآل التاريخي للممارسة الشورية: انتقال الحكم من الخلافة الراشدة إلى الملك الوراثي، أصاب الأمة الإسلامية بسهم دامي ينزف في جسد الأمة إلى يومنا هذا، لكن هذا لا يغمض عيوننا عن حالات استثنائية لخلفاء وأمراء مارسوا الشورى كما هي في القرآن والخلافة الراشدة، ومن ذلك عهد عمر بن عبد العزيز، وقبل عهده عندما صار أميراً على المدينة، فجمع عشرة من كبار فقهائها، وعرض عليهم ثلاثة أمور: 1- مشاركته الرأي في إدارة المدينة، 2- إخباره عن أي مظالم للناس فيها، 3- التبليغ عن العمال والموظفين إذا قصروا أو ظلموا.
والمثال الآخر: ما فعله أمراء وحكام دولة المرابطين في المغرب العربي القرن الخامس، من التزام بالشريعة والشورى، ومنهم علي بن يوسف، حتى سميت دولة الفقهاء، وما عدا ذلك لم يعد للشورى مكان في الدولة الإسلامية، سوى ما يمكن للحاكم وأسرته السيطرة والاستبداد والانفراد بالحكم، وأكبر دليل على ذلك إغفال كتب الفقه والشريعة وعلم الكلام التفصيل والاستنباط لمسألة الشورى وما يتعلق بها من أحكام السياسة الشرعية، سوى شيء باهت خفيف لا غناء فيه ولا تأكيد، سوى تجميل بعض الكتب بشذرات من هذه المسائل، لا تسمن ولا تغني من جوع، حتى أن الفقيه الجليل الطرطوشي كتب " سراج الملوك" وذكر في مقدمته، وصايا وحكم للأمير تغنيه حتى عن استشارة وزرائه، فأصبحت الحكم السلطانية، ترف أدبي، وليس واجب عملي للأمة وحكامها.
12- الدولة الإسلامية بين التطور التنظيمي والتراجع الشوري: كثيرة هي التطويرات التي حدثت في هيكلية الدولة الإسلامية منذ العهد النبوي والراشدي، إلى الدولة الأموية والعباسية وما تفرع عنهما من دول ودويلات، في الأمور القضائية والمالية والعسكرية والتعليمية، متأثرين بأنظمة الدول المجاورة والتي فتحها الإسلام وهيمن عليها كفارس والروم، من ذلك الخطط التي تتعلق بما ذكرنا ومنها، خطة الحسبة، وخطة العدالة (التوثيق)، وخطة الفتوى، والأوقاف، والمستشفيات، والشرطة الكبرى، والوسطى، والصغرى، وصاحب السوق، وصاحب المدينة، ورد المظالم، كل هذا وأكثر منه، عدا ما يتعلق بالشورى ونظام الحكم، فبقي تطوره إلى الأسوأ وليس إلى الأصلح، حيث أصبح الفقهاء يفتون بانعقاد بيعة الواحد، وبيعة الاثنين، حتى أن خلافة العهد أصبحت تسند إلى أطفال وصغار وحتى رضع، ولم نجد من فقيه يتصدى لهذه المهازل التي قضت على دولة الإسلام في النهاية، وعد ابن الخطيب في كتاب سماه " إعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام،" وصل عددهم إلى 48 أميراً وخليفة، ولم ينتقدها، وإنما أشار إلى أن من غلط من الفقهاء بإجازة ذلك، يقول: فنحن راضون لمشاركتهم في الغلط" ، ولم يعد من الحكم سوى التغلب.
الاستثناء القضائي: لعل أحسن تطبيق للشورى استمر في تاريخنا كان في النظام القضائي، فهذا عثمان الخليفة، يحضر أربعة من كبار الفقهاء، حين يقضي، ويستشرهم، وما يحكمون به يقضي به، وكان عمر يستشير علياً وغيره فيما يرفع إليه من أمور المسلمين، وتطور القضاء في المغرب العربي، فيما عرف ( بالمستشارين) يختارهم القاضي من الفقهاء، وانتشرت هذه الخطة في الأندلس كذلك، وللقضاء في الدولة الإسلامية صفحات مشرقة في الاستقامة والعدالة والمساواة، حتى مع بعض الأمراء والخلفاء، والسبب تأثير استمساك الناس بالشريعة، التي كانت السلطات لا تقربها إلا من أجل تحقيق الحظوة والتأييد من عامة الناس لهم على أنهم مستمسكين بتطبيق الشريعة، عدا ما يتعلق بالحكم والمال والشورى، لأن المرجعية الوحيدة التي كانت مهيمنة هي الشريعة الإسلامية.
الفصل الرابع: الشورى اليوم: كيف نبنيها وكيف نبني بها؟
13- نحو إعادة البناء واستكمال البناء: ظهرت حديثاً دراسات متعددة تتعلق بإعادة الاعتبار للشورى وما يتعلق بها من الحكم الإسلامي الرشيد، ونحن بحاجة إلى مزيد من هذه الدراسات حتى يتسنى للأمة تطبيقات مناسبة لها في عصورنا الحالية، للخلاص من التشرذم والضعف والاستبداد وما يتبعه من فساد في جميع الأصعدة، والشورى ليست أكثر من طاعة الله تعالى في وصفه للمؤمنين: ( يستمعون القول فيتبعون أحسنه) 18/الزمر، وقوله: ( والذين استجابوا لربهم، وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم)، ومن يأباها من الظالمين يقع في مشابهة الله، الذي لا راد لحكمه، وهذا عين الشرك والعياذ بالله، وحذر ابن خلدون من خراب العمران بسبب الظلم، المتسبب عن هضم حقوق الناس المادية والمعنوية، ومثله حذر كذلك الكواكبي في كتابه " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد".
أ- نحو تنظيم الشورى ومأسستها: أكبر ثغرة في تاريخ المسلمين أدت إلى كثير من المصائب الطامة، وإسالة الدماء في ربوعهم، هو غياب الشورى من حياتهم السياسية، ولذا لا تجد تنظيم فقهي وأصولي مفصل يقنن تطبيق الشورى في حياتهم، عدا النور المتلألئ منها في العهد النبوي والراشدي، والذي طبق عملياً، اتباعاً للنصوص، وفهماً للقرآن والسنة، بشكل ناسب حياتهم الأمية والفطرية والقبلية، ذكر البخاري: " كان القراء أصحاب مشورة عمر، كهولاً كانوا أو شباناً" ثم انطفأ انطفاء شبه كلي عن حياتهم السياسية والثقافية، بينما تأصلت مؤسسات كثيرة وأخذها عنهم الغرب، في تنظيم الوقف، والتعليم، والفقه والتشريع، والشرطة، والقضاء، عدا تنظيم الشورى، الذي ترك غيابها فراغاً تنظيمياً وفقهياً، فتحكمت القوة والشوكة في حياة المسلمين، واستُبْعِدَتْ الشورى والحكمة والشريعة من التدخل في تنظيم شؤونهم وحياتهم السياسية، فوقعت الطامات الكبرى، وكانت بما كسبت أيدي المسلمين: قال تعالى: ( ولا يظلم ربك أحداً) 49/ الكهف، ويشير إلى ذلك ما أخرجه مسلم قال: " ...مر رسول الله ص بمسجد بني معاوية – في المدينة – دخل فركع ركعتين وصلينا معه، ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف إلينا، فقال صلى الله عليه وسلـم: سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة – الجفاف – فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق – الأعاصير المدمرة – فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها" أجاب الله دعاء النبي في أن لا يهلك أمته بقدر الجفاف، ولا بقدر الطوفان، وهما أمران قدريان، لكن الله لم يجبه بالدعوة الثالثة، أن يجنب أمته الصراعات الداخلية، والبأس بينهم، لأنها كسبية ولها مسبباتها، ويمكنهم اجتنابها بالفهم والعمل والالتزام، والحرص على مقتضيات الأخوة والمحبة والتناصر والتعاون، وهم لم يفعلوه حين فرطوا بالشورى ومستلزماتها السياسية والفكرية، فهدموا كل مقتضيات الأخوة باستبعادها، وهذا بيان صريح بالنتائج من الله والرسول في هذا الحديث العظيم.
ب- حديث مسلم والبخاري عن الفتنة: التي تموج كموج البحر، وسؤال عمر حذيفة عنها، وقوله أن بابها بينه وبينها يكسر، فقال عمر: أحرى أن لا يغلق" وسببها استبدال الشورى بالقوة والغلبة، ومأسسة الشورى وتنظيم أمورها بالقفل والمفتاح والباب، والفتح والغلق الشرعيان يحل كل المشكلات، ويجعل لكل منها مفتاحه الشرعي، [ حتى الجنة دخولها له مفتاح، وهو لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكن كما قال أحد العارفين الصالحين: مفتاح الجنة له أسنان، هي الالتزامات الشرعية، فإذا لم تلتزم، المفتاح هنا أيضا لا يفتح، ] م. ن، والله لم يفصل ثوباً خاصاً لكل واجب إسلامي، سوى العبادات، لأن ذلك متروك لكسبهم وجهدهم واجتهادهم، وتطور الزمن معهم وبهم، يفصلوها على حسب احتياجاتهم، كما فعلوا مع العلم، الذي أوصلوه إلى مراقي عالمية، آثارها ظاهرة بارزة إلى يومنا هذا،
وهذا ما نحتاجه مع الشورى كذلك:
14- تُحدَث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور: قالها عمر بن عبد العزيز، وكانت معروفة قبله وبعده، ولهذا قرر الفقهاء تضمين الصناع، خلافاً لأصل البراءة، وأن عملهم أمانة، لكن ضمنوا استحساناً لئلا يتهربوا من المسؤولية بالتقصير والطمع، ولهذا قال عمر لمن يتحين فرصة وفاته: " فيبايع أحدهم يفرضه كأمر واقع على المسلمين، فلتة كفلتة مبايعة أبي بكر على زعمه " فقال عمر: " من بايع أحداً عن غير مشورة للمسلمين، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه،" بل هدده بالقتل إن فعل، ولهذا قال ابن عطية: " من لا يستشير أهل العلم والدين، فعزله واجب"، ومنها :
أ- قاعدة سد الذرائع: منع المباح والمشروع إذا كان يؤدي إلى ضرر مؤكد، لا لحرمته وهو حلال مباح، ولكن لأنه يؤدي إلى ضرر وأذى، والرسول ص يقول: " لا ضرر ولا ضرار" وهذا المنع يستخرج منه قاعدة تسمى " سد الذرائع" ومن تطبيقاتها: ان النبي منع قتل المنافقين، معلومي النفاق، سداً لذريعة تخوف الناس من دخول الإسلام، ومثله: منع إقامة الحدود في الغزو وجبهات القتال، لئلا يفضي إلى استفادة العدو من ذلك، ومنع عمر بعض الولاة من زواج الكتابيات، خوفاً على مصالح الأمة، وفتنة المسلمات، واستبعد ابن عمه سعيد بن زيد من ستة الشورى مع أنه من المبشرين بالجنة، سداً لذريعة توريث الخلافة، واستخدمت هذه الذريعة في كثير من الأبواب والأحكام الفقهية، إلا في الأحكام السياسية، والشورية، وقد استخدمت في القضاء في دولة الموحدين، حيث حددوا سنتين للقاضي فقط، لئلا يتخذ الأقران والأخدان في عمله، فينقصه الإخلاص والنزاهة.
ب- المصالح المرسلة: قال ابن القيم الشريعة أساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل.." (أعلام الموقعين: 3/3)، وقد أشبعت المصالح المرسلة دراسة وبحثاً، لدى الفقهاء والإمام الشاطبي، واشترط لها: 1- الملاءمة لمقاصد الشرع ولا تعارض أدلته، 2- أن تكون مما يعقل ومناسبته معقولة، 3- وأن تحقق مقاصد شرعية من الوسائل.
بهذه القاعدة : جمع المصحف ونسخه، وبها عمل التاريخ الهجري، وبها دونت الدواوين، وبها فرضت الرواتب للجند، والعلماء، والمعلمين، إلا أن نصيب الشورى من هذه القاعدة يكاد أن لا يذكر، ولهذا ينبغي أن ينظم أمرها، وتحدد الطرق والوسائل لإعمالها، وتأسيس هيئات شورية محكمة في شتى الاختصاصات؛ لتكون المعلم الذي ينهض بالأمة من كل ما سببه غيابها عن واقع المسلمين، وحياتهم السياسية والاجتماعية والثقافية.
15- الاقتباس من الغير لما فيه مصلحة وخير: علمنا القرآن أن نقتبس ونتعلم من الآخرين والطبيعة والحيوان، وذلك في قصة الهدهد وسليمان، والغراب وقابيل، والأمم الأخرى المندثرة، والهالكة، عظة وعبرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلـم لم يحجم عن الاستفادة من الآخرين، في قصة ما أشار به سلمان من حفر الخندق يوم الأحزاب، وكذلك صناعة منبر ليجلس عليه ويخطب، بإشارة امرأة كان عندها غلام نجار، وصوغ خاتم لختم الرسائل المرسلة للملوك، وصلاته إلى بيت المقدس جهة تعبد النصارى أول أمره، لأنهم أهل دين سماوي بالجملة، وحديث المستورد القرشي، عند عمرو ابن العاص، وقول النبي: " تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو: أبصر ما تقول: قال: سمعته من رسول الله، قال: لئن قلت ذلك، فإن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك" (ر. مسلم)، واستخرج القاضي عياض من حديث أم زرع الذي روته عائشة رضي الله عنها: جواز الحديث عن الأمم الخالية، والاستفادة من تجاربهم، وهذا فعله الرسول وخلفاؤه الراشدون دون حرج.
16- الشورى في معركة الإصلاح والبناء: قبل عقود من الآن كانت الأقطار العربية والإسلامية تعج بالأفكار الثورية من كل نوع، وإلى اليوم لم يتغير شيء، بل ازدادت الأمور سوءً، لكن التفكير الثوري اليوم تغير من التنظير إلى الفعل، وهذا الفعل على المستوى الفردي والجماعي، بدأ بمقاربات فكرية إصلاحية عملية، على المستوى الفردي، في التنمية البشرية ومستلزماتها، وعلى المستوى الجماعي، النقد الإيجابي البناء، القائم على الاستفادة من الأمم الأخرى، والتجارب الناجحة، والشورى تعتبر القاعدة الرئيس في ولوج ساحة التغيير والإصلاح، دون فقد الهوية والثقافة الإسلامية، وهذا يحتاج إلى آليات للنهضة المنشودة الشاملة.
17- ثقافة الشورى: كانت حاضرة بكثافة في العهد النبوي والراشدي، ثم ضمر استخدامها بعد ذلك، نظرياً وعملياً، ونحن اليوم بحاجة إلى دراسات وبحوث ومحاضرات وندوات، بحيث تصبح هاجس عند جميع شرائح ومؤسسات المجتمع، وإعادة الروح إليها حتى تصبح منهج حياة الناس، ومنهج تفكيرهم وعلاقاتهم، وهو منهج يرشد العلاقات الأسرية والاجتماعية والوظيفية، والحكومية، والدعاة أحوج إليها، لنشرها بين الناس: 1- عموم المسلمين، 2- تربية الوعاظ والدعاة والطلاب عليها، 3- إقامتها في المؤسسات والجمعيات والأحزاب، والنقابات، والبلديات والقرى، حتى تتأصل في سلوكيات الأفراد والجماعات، 4- ومن ثم تصل إلى أعلى مستوى في الدولة والمجتمع وهو الحكم والحاكم، وقال صلى الله عليه وسلـم: " من زار قوماً فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم" (أبو داود-والترمذي)، وحديث: " لعن رسول الله ص من أم قوماً وهم له كارهون" (الترمذي)، وهذا يدفعنا إلى نشر ثقافة إدارة الحي لمسجده شورياً، ومن ذلك المجمعات الفقهية الجماعية عالمياً وإقليمياً، تصب في هذا الاتجاه الشوري، وكلما زادت جرعة الشورى والثقافة الشورية الجدية، كلما خفتت الاختراقات الفردية والتخريبية التي تستغل فراغ الساحة من الشورى فتملأ فراغها بانحرافات ودسائس ما أنزل الله بها من سلطان، فالحل هو الشورى والشورى، وليس غير تعميم الشورى.
18- تنظيم الممارسة الشورية: كما نظمت العبادات بتفصيل دقيق، ينبغي أن يكون للشورى تنظيم دقيق كذلك، وقد ربط القرآن بين استجابة المؤمنين لربهم وإقامتهم الصلاة، والشورى بينهم، في آية واحدة، (38/الشورى)، مما يعطي دلالة أن الله تكفل بتفصيل أمر الصلاة وإقامتها على أحسن صورة، وان على المؤمنين أيضاً أن يتكفلوا بتفصيل أمر الشورى وتطبيقها بينهم على احسن صورة كذلك، لأنها من أمور دنياهم، فإن الترتيب القرآني لآياته وكلماته ليست سوى تشريع مباشر وغير مباشر، وهذا ما ينبغي فعله تماماً فهماً واستنباطاً، قال تعالى: (قد جعل الله لكل شيء قدراً)، ولدينا من المنهج النبوي والراشدي أفضل دلائل لتطوير وتأصيل وتفصيل الشورى، بما يناسب حاجاتنا وعصرنا، والخبرات العالمية اليوم فيها غناء كبير من خلال دراسة قانونية عالمية تسمى القانون الدستوري، نأخذ منها ما يناسبنا ويناسب ظروفنا وحاجاتنا.
والقرآن استخدم للتعبير عن أدق الموازين لتحقيق العدل، وهو ميزان روماني، أو كلمة رومانية، ( القسطاس) ، ونقل ابن حجر عن القاضي عياض: " القسطاس أعدل الموازين" وهو كلمة رومانية، كأنه إشارة قرآنية ترمز لوجود هذه القيمة " العدالة " عند الرومان، فنطقها القرآن بلغتها، ليصار إلى اقتباس ما يتعلق بها من تطبيق، وهذا ما فهمه الصحابي العبقري العظيم، داهية العرب وأرطبونها- عمرو بن العاص- في وصف الروم، ولهذا نرى اقتباس ما يتعلق بالشورى من ديمقراطية الغرب، لا يمنعه الشرع، على أن ننزله على قالب هويتنا واحتياجاتنا، طالما ان القرآن نفسه اقتبس هذه المفردة لهذه الدلالة الإيجابية، ولا مانع شرعي من ذلك، إذ العكس هو الذي يوحي به وإليه القرآن، والعلماء يقولون لا مشاحة في الاصطلاح، قال ابن القيم: " إن الله أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل واسفر صبحه باي طريق كان، فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره" (اعلام الموقعين: 4/373)، ولسنا مضطرين لأخذ النظم الديمقراطية،- وهي تختلف بين بلد وآخر وفترة وأخرى – كاملة على علاتها، وإنما هي كالقماش الذي يفصل من جديد على مقاس لا بسه، [ ونحن نستورد الكثير من الغذاء والدواء والسلاح والالبسة، وكلها ليست صناعتنا، فلم لا نعيد تدوير وصناعة الديمقراطية الشورية من جديد في بلادنا، إلا إذا أصر المستبدون على أننا لسنا أهل لهذا ، كما قال غاندي يوماً: " إن الديمقراطية فراء لا يصلح أن يلبسه سوى الغربيون" وهذا ما يحاولون فعله معنا، وبتصفيق من أغبيائنا او سادتنا الظلمة قاتلهم الله. ]م. ن.
19- الديمقراطية أحد أنظمة علم الإدارة: في السياسة، صحيح ما يقال أن الديمقراطية اليوم تعاني من تسلط رأس المال عليها، وكبريات المؤسسات الاقتصادية، ويتبعها الأحزاب الممولة منها، ووسائل إعلام جبارة توجه الرأي العام وتحقق ما تريد من هذه اللعبة الانتخابية، فتوصل أقلية للحكم عن طريق الغالبية، التي ليس لديها الوعي والإمكانات التي تحررها من هذه السيطرة المدروسة بإحكام، ومن ورائها القوة والتخطيط والمال، لكن لا مشكلة من غير حل، فالديمقراطية المطعمة بالشورى الإسلامية تستطيع بالجهد والوعي، أن توصل مخلصين أبطال يحققوا أهداف الأمة في الحرية والكرامة والاستقلال، ويمكن تفعيل أحكام المحاسبة المالية، وكيفية الاعتدال في الانفاق، لمنع تأثير المال إلا في الحق والعدل، ودعوى أن الديمقراطية تلغي بالتدريج الأحكام الإسلامية، غير صحيح، لأن هذا الإلغاء يتم الآن بالتسلط والقهر وغياب الديمقراطية، بينما يمكننا أن نستخدم هذا السلاح لنصرة الشريعة كما فعلت تركيا حالياً بعد تسلط قهر عسكر أتاتورك، وبسلاحه نفسه الصندوق والديمقراطية، ولم تتاح فرصة حرية التعبير في بلد إسلامي إلا اختار الإسلام والشريعة، ولهذا قال أحد الغربيين، إن مزيداً من الحرية والديمقراطية في بلد مسلم، معناها مزيداً من الإسلام، وبنص واحد في الدستور يحدد أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس والوحيد للتشريع والقانون، يمنع أي اختراق لهوية الأمة، والأمر الثاني الأهم، هو أن اتباع الدين الحقيقي ما كان عن إيمان وصدق، وليس عن نفاق وكذب، ولهذا قال تعالى: ( لا إكراه في الدين) فما فائدة دين بالإكراه، يضعف مع الإيام، ثم يزول، لهذا الأجدى هو القناعة والدعوة المخلصة، وكما انتصر الإسلام في عهوده الأولى بالإخلاص والنزاهة، فاليوم وغداً كما بشر رسول الله ستعود الأمة على منهج النبوة، لهذا لا عذر لمن يريد إيقاف عجلة الإصلاح والصلاح، بحجج واهية رخيصة كسولة، وكثير منها من تلفيقات أعداء الإسلام وخصومه.
20- الخاتمة: ليس بالشورى وحدها:
الدول التي فاقت غيرها بتقدمها وتحضرها، لم يكن ذلك بمجرد تطبيق الشورى، وإنما بتخليق نهضة مواتية لأهداف حضارية متكاملة في السياسة والاقتصاد والتعليم والإعلام والقيم والأخلاق العامة والخاصة، عبر مخاض طويل، ولد في النهاية هذا المولود المتجانس المسمى نهضة وأمن واستقرار وتقدم وتحضر، ونحن لسنا وحدنا سكان هذه الكرة، ويحكمنا ما يحكم غيرنا كذلك، وسنن الله لا تحابي الكسالى والنائمين والمتقاعسين، ولهذا ينبغي أن نستخدم الشورى الصح، في البيئة الصح، والظروف الصح، والأهداف الصح، وهذا لا يثمر دون جهد وجهاد، بالكلمة والفعل، والتخلق، والبذل والعطاء المادي والمعنوي، إن تربية فرد مستقيم يؤدي إلى أسرة مستقيمة، وأسر مستقيمة تؤدي إلى مجتمع مستقيم، وكل هذا لا يتحقق من غير ثمن، ولا يظن ظان أن الشورى المجردة لا تنتج صراعات وعنصريات وأضرار، لأن فرعون كان يشاور، وإخوة يوسف تشاوروا وتآمروا، فالشورى الصالحة، يمارسها قوم صالحون، وبنوايا صالحة، مع حرية ضمير، وحرية تفكير، وحرية تعبير وإخلاص في العمل وإيمان بالله وشريعته، فيتحقق بها معجزات فوق الوصف والإمكان، لأن الله ينصر من ينصره، ورسول الله كان فرداً وبإيمانه وأصحابه صنع أمة تحكمت بالعالم قروناً، ولما زاغ خلفهم تخلى الله عنا وعنهم، والتناصح – وهي فحوى الشورى- من بنود عقد البيعة مع رسول الله المتضمنة للصلاة والزكاة، فعن جرير قال: " بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلـم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم" ( ر. مسلم).