قصة فخر الدين باشا في الدفاع الأخير عن المدينة المنورة 1919م
أكل الجراد 90 يوما هو وجنوده رافضا أن يسلم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
" لن أسلّم مكان مدفونٌ فيه النّبي، لكافر لا وضوء له" .........
فخري باشا أو فخر الدين باشا (1868 – 1948م) ويعرف أيضًا بـ (نمر الصحراء) ولقبه الإنكليز بـ (النمر التركي)، هو آخر الأمراء العثمانيين على المدينة المنورة ما بين (1916-1919م)، واشتُهر بدفاعه عنها عندما قامت قوات القبائل العربية بمساعدة بريطانيا بمحاصرتها لطرد العثمانيين.
حين استدعي عام 1916م إلى الحجاز للدفاع عن المدينة المنورة، وصل إليها فرحاً لأنه كان يحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حباً لا يوصف، منذ اليوم الأول من وصوله للمدينة حتى فراقه لها، لم يشبع من زيارة قبر حبيبه صلى الله عليه وسلم وتنظيف المسجد بيديه.
رغم انسحاب الجيوش العثمانية من الحجاز بعد سقوط الحجاز بيد القبائل العربية، لم تبقَ هناك سوى حامية فخر الدين باشا التي كانت تبلغ 15 ألفاً من الجنود مع بضعة مدافع، وبقي فخر الدين باشا وحده وسط بحر من الصحراء ومن الأعداء، وأصبح أقرب جيش عثماني يبعد عنه 1300كلم، وانقطعت عنه جميع الإمدادات، ومما زاد في عزلته قيام لورنس -الجاسوس الإنجليزي- وأعوانه من بدو بعض القبائل بنسف سكة حديد الحجاز في عدة مواضع، وبنسف أعمدة التلغراف.
انسحبت كل القوات العثمانية من الشام ايضا امام الانجليز، لم يتبق إلا فخر الدين باشا في المدينة المنورة هو وقواته رافضاً الاستسلام وتسليم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوات الخيانة العربية التي كانت تحت قيادة الانجليز، فيما يسميه القوميون بالثورة العربية وما هي بثورة ولا عربية ولكنها الخديعة الانجليزية بيد الخونة العرب ومن تبعهم من الأعراب الجهلة.
كانت أمور الدولة العثمانية تسوء يوماً بعد يوم، وتتراجع جيوشها أمام قوات الحلفاء في معظم جبهات القتال؛ لذا اتخذت الحكومة العثمانية قراراً بتخلية المدينة المنورة، وأبلغوا فخر الدين باشا بهذا القرار، عندها شعر عاشق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن خنجراً يغرس في قلبه، فأرسل رسالة إلى أنور باشا يتوسل فيها إليه ويقول «لماذا نخلي المدينة؟ أمن أجل أنهم فجروا خط الحجاز؟ ألا تستطيعون إمدادي بفوج واحد فقط مع بطارية مدفعية؟ أمهلوني مدة فقد أستطيع التفاهم مع القبائل العربية».
لقد كان توسلاً حاراً، وفي النهاية رضي أنور باشا أمام هذا الإلحاح بل التوسل الحزين، ولكنه لم يستطع إرسال أي مدد إليه، وساءت جداً الأحوال العسكرية في تلك المنطقة، فقد هزم الجيش العثماني في حروبه مع القوات الإنجليزية التي كانت تفوقه في العدد والعدة وفي حسن التموين.
وفي الشهر العاشر من عام 1918م وقعت الدولة العثمانية معاهدة موندروس، وقد كانت معاهدة استسلام قاسية جداً، انتهت الحرب، وصدرت إليه الأوامر من قبل الحكومة العثمانية بالانسحاب من المدينة وتسليمها إلى قوات الحلفاء، ولكنه رفض، أجل، رفض هذا القائد العثماني تنفيذ أوامر قيادته وأوامر حكومته.
كتب إليه الصدر الأعظم أحمد عزت باشا وهو يبكي رسالة يأمره بتسليم المدينة تطبيقاً للمعاهدة، ولكن فخر الدين باشا حبس هذا الضابط، وأرسل رسالة إلى الصدر الأعظم قال فيها إن مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تشبه أي مدينة أخرى؛ لذا فلا تكفي أوامر الصدر الأعظم في هذا الشأن، بل عليه أن يستلم أمراً من الخليفة نفسه، كان في الحقيقة يفتش عن عذر لرفض الانسحاب.
ازدادت الضغوط على الدولة العثمانية من قبل الحلفاء لتطبيق المعاهدة وتسليم المدينة إليهم، لم تر الحكومة العثمانية بداً من الرضوخ، فلم تكن لديهم أي قوة للرفض، وهكذا صدر أمر من الخليفة نفسه إلى فخر الدين باشا بتسليم المدينة وأرسل الأمر السلطاني بواسطة وزير العدل حيدر ملا، وهكذا سدت جميع الأبواب في وجه فخر الدين باشا، فقد وصل إليه أمر من الخليفة نفسه بضرورة الاستسلام، ولكن هل سيترك مدينة حبيبه (صلى الله عليه وآله وسلم) ويسلمها إلى الأعداء؟! كلا، لن يستسلم ولن يقبل تنفيذ أي أمر بهذا الخصوص حتى ولو كان الأمر من الخليفة نفسه، أرسل الجواب مع وزير العدل وقال فيه «إن الخليفة يعد الآن أسيراً في يد الحلفاء؛ إذاً فهو يرفض تطبيق أوامره ويرفض الاستسلام.
بعد أن اشتد الحصار عليه في المدينة المنورة من قبل القوات العربية بقيادة عبد الله بن الحسين، بدأ الطعام يقل في المدينة، كما شحت الأدوية وتفشت الأمراض بين جنود الحامية، فقد كانوا نقطة في بحر الصحراء محاصرين ومنقطعين بواسطة الخونة الاعراب الذين اعمى الذهب الانجليزي بصيرتهم.
كتب الجنرال "وينجت" المندوب السامي البريطاني على مصر رسالة تهديدية لفخر الدين باشا، يقول فيها: " إن الأتراك قد هزموا، وإن الدماء التي ستسيل من الآن ستقع مسؤوليتها عليك شخصيا إن لم تستسلم وتسلم المدينة ".
فكتب له أسد الصحراء:
" إلى وينجت بمصر، أنا محمدي، أنا عثماني، أنا جندي، أنا ابن بالي بك" ويقصد أنه لا يُهدَد وجاهزٌ للقتال والدفاع عن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى الموت.
جمع فخر الدين باشا ضباطه للاستشارة حول هذا الظرف العصيب، كان يريد أن يعرف ماذا يقترحون، ومعرفة مدى إصرارهم في الاستمرار في الدفاع عن المدينة، اجتمعوا في الصحن الشريف، في الروضة المطهرة عند صلاة الظهر، وبعدما أدى الجميع الصلاة في خشوع يتخلله بكاء صامت ونشيج، ارتقى فخر الدين باشا المنبر وهو ملتف بالعلم العثماني وخطب في الضباط خطبة كانت قطرات دموعه فيها أكثر من عدد كلماته، وبكى الضباط حتى علا نحيبهم ثم قال: «لن نستسلم أبداً، ولن نسلم مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا للإنجليز ولا لحلفائهم».
نزل من المنبر فاحتضنه الضباط ضابطاً ضابطاً، احتضنوه وهم يبكون وهو يبكي، كانت لحظة مأساوية من أروع اللحظات التي ستبقى ساطعةً في سجل التاريخ، إنه رجل هام في حب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل قل نظيره، وثارت فيها العواطف وتأججت وسالت من المآقي الدموع، ولكن الحقيقة المرة كانت ماثلة أمام كل عين، حقيقة مادية وواقعية لا يمكن تجاهلها، لم يكن من الممكن الاستمرار في هذا الرفض، فقد اشتدت وطأة الجوع والمرض على الجيش العثماني، وقلت الذخيرة الحربية ولم تعد كافية للدفاع عن المدينة، وعندما يئست القوات المحاصرة للمدينة من فخر الدين باشا زادوا اتصالهم مع ضباطه، وكان الوضع ميؤوساً منه، فكلمه ضباطه شارحين له الوضع المأساوي للحامية، فوافق أخيراً على قيام ضباطه بالتفاوض على شروط وبنود الاستسلام.
كان على رأس بنود الاتفاقية بند يقول: «سيحل فخر الدين باشا ضيفاً على قائد القوات السيارة الهاشمية في ظرف 24 ساعة، وأنه تم تهيئة خيمة كبيرة لاستراحته»، وفي المدينة كانت ترتيبات الرحيل تجري على قدم وساق، كانت سيارة القائد فخر الدين مهيأة، وقد نقلت إليها أغراض القائد، بقي الضباط في انتظار خروجه، ولكن الساعات مضت ولم يخرج إليهم، بل جاء أمر منه بتخلية السيارة من أغراضه الشخصية ونقلها إلى بناية صغيرة ملحقة بالمسجد النبوي، كان فخر الدين باشا قد هيأ هذا المكان لنفسه لأنه لم يكن يريد الابتعاد عن قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ذهب إليه نائبه نجيب بك ومعه ضباط آخرون فوجدوه متهالكاً على فراش بسيط في تلك البناية ولم يكن يريد أن يخرج فقال لهم: «اذهبوا أنتم أما أنا فسأبقى هنا». احتار نائبه والضباط ولم يدروا كيف يتصرفون، وتشاوروا فيما بينهم ثم قرروا أن يأخذوه بالقوة، اقتربوا من فراشه وأحاطوا به وحملوه قسراً إلى الخيمة المعدة له وهم يبكون، إنهم يعرفون مدى حب قائدهم للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولماذا يعاند كل هذا العناد رافضاً الابتعاد عن المسجد النبوي، لكنهم لم يكونوا يستطيعون ترك قائدهم هكذا وحيداً هناك.
حدث هذا في يوم 10/1/1919م، وفي اليوم الثاني اصطف الجنود العثمانيون صفوفاً أمام المسجد النبوي، كان كل جندي يدخل ويزور ضريح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويبكي ويدعو ثم يخرج، وكذلك الضباط، لم يبقَ أحد لم يسكب دموعاً حارة في لحظة الوداع المؤثرة هذه، حتى سكان المدينة وقوات البدو بكوا من هذا المنظر.
عندما نقل فخر الدين باشا إلى الخيمة المعدة له كان هناك الآلاف من قوات البدو يحيطون بالخيمة ويشتاقون إلى رؤية هذا البطل الذي أصبح أسطورة، وما أن ظهر حتى ارتجت الصحراء بنداء “فخر الدين باشا، فخر الدين باشا” لم يكن هناك من لم تبهره بطولته وحبه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي 13/1/1919م دخلت قوات البدو حسب الاتفاقية إلى المدينة، واستسلمت الحامية العثمانية في المدينة المنورة بعد 72 يوماً من توقيع المعاهدة، اما فخري باشا فسلمه الثوار العرب (الخونة العرب) إلى الإنجليز الذين أرسلوه إلى مصر في 27/1/1919 كأسير حرب، توفي في 22 نوفمبر 1948م عن عمر يناهز 79 عاما في اسطنبول ودفن بناءً على طلبه في قلعة (روملي حصار).
فخر الدين باشا - القائد التركي الذي دافع عن المدينة المنورة بقوة، وبكى لفراقه قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.