رسالة دكتوراة باللغة الفرنسية استغرق كتابته ثمان سنوات، ترجمه إلى العربية د. عبد الصبور شاهين، وهو ذو طابع فلسفي تحليلي عميق، يحتاج كاتبه وقارؤه إلى ذهن وقاد وعلوم شتى لإدراك حقائقه ومفاهيمه النظرية والتطبيقية.
1- الكتابات الغربية عن الأخلاق: متمثلة في الثقافة الوثنية الإغريقية، والأديان اليهودية، والمسيحية، ومن ثم حسب الفكر الأوروبي العصري الحديث، متجاهلة الأخلاق الإسلامية، وما ذكروه عن الأخلاق في الإسلام لا يعدو الترجمة الحرفية لبعض الآيات القرآنية، وأشهر من ألف فيها: المستشرق "جارسان دي تاسي" + ولوفيفر + وسانت هيلير 1865م + وهي إما تلخيص سيئ للآيات أو ترجمة غير صحيحة، وما كتبه المسلمون في هذا الجانب لا يعدو أن يكون كتابة وصفية لا تحليلية، وربما بطريقة أفلاطونية أو أرسطية، على يد "ابن مسكويه" في كتابه "تهذيب الأخلاق" وأبو حامد الغزالي" في كتابه " إحياء علوم القرآن" وإن كان بعضهم تعمق قليلاً دون إحاطة من خلال علماء الكلام، وعلماء الأصول، وبعض الصوفية، وفي المجال العملي كتب الإمام الغزالي كتابه " جواهر القرآن" وحصر نوعي الأخلاق في الجانب المعرفي (763 آية) والثاني السلوكي (741 آية)، ولهذا كانت محاولتنا جديدة في استخراج دستور الأخلاق في القرآن بشكل قواعدي ومترابط وتحليلي فكري يجعل منها نظرية متكاملة الأركان، جديدة في بنائها وتغطيتها للموضوع المطروح.
2- تقسيم ومنهج: القوانين الأخلاقية في القرآن فرعين هما: (النظرية + والتطبيق)، ولم ينسى القرآن ماضي القيم الأخلاقية لدى من سبق من الرسل والحكماء، بعد أن شذب ما دخل عليها من إفراط أو تفريط، فجعلها شاملة كونية إنسانية في إطار النموذج الخاتم القرآني، ورتبناها بشكل موضوعي، يحقق: لطف في حزم+ وتقدم في ثبات+ وتنوع في وحدة، تجمع بين نقيضين: خضوع في الحرية + ويسر في المجاهدة+ ومبادأة في الاستمرار، وقليل من فهم تلك الحكمة الرفيعة، والبعض يرى إغفال القرآن لقواعد الحكم والشورى والرئاسة والإمارة، ولكن القرآن لا يرى تقييد الناس في تطوير حياتهم وفكرهم العملي خاصة، بعد أن وجه إلى الجانب النظري بإجمال، فسكوت المشرع هنا رحمة بالناس كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث (رواه الدارقطني).
أما الجانب النظري: فلا تنطبق عليه قواعد الفكر الفلسفي لأنه يخاطب الكافة، من خلال تعانق ما يتعلق بالقلب والعقل معاً، لأن الطرح القرآني يختلف عن غيره بأنه طرح مؤثر ومقنع ومحلل وممثل (ضرب الأمثال) ومتكامل يوافق الفلسفة والحكمة في أشياء، ويضيف بصمته الإنسانية الخاصة الإلهية، التي تجمع بين العقل والوحي.
3- دراسة مقارنة: لبعض كتابات العلماء المسلمين السابقين في هذا المجال، وكذلك كتابات مؤلفين غربيين فيها، يجمع بين نظريات هؤلاء وهؤلاء، ليكون البحث أكثر دقة وحيادية مع ما توصلنا إليه في ذلك.
باريس 8 يونيو 1947م محمد عبد الله دراز.
الفصل الأول: الإلزام
لا أخلاق من غير إلزام، ومن ثم تنعدم المسؤولية، وتغيب العدالة، وتعم الفوضى، ويفسد النظام، وعندها يصبح الحديث عن الأخلاق في مثل هذه البيئة مجرد سفسطة وترف ثقافي، والجمال الفني والإحساس به لا يلزم الفنان التعبير عنه إلا حين يرغب به بحرية مطلقة دون الشعور بالإلزام، لأن قصور العمل الفني أو نسبيته لا يثير الضمائر، ولا يقيَّم أخلاقياً، بينما الخير الأخلاقي له سلطته على الجميع، وتدفع الفرد إلى الشعور بضرورة تقديره واحترامه مهما كان موقفه منه، ولهذا عبر عنه القرآن (بالأمر – والكتابة – والفريضة).
1- مصادر الالزام الأخلاقي: عند "هنري برجسون" الفرنسي: الضغط الاجتماعي + الجذب الإنساني الديني، فتصبح عاداتنا كغرائز النحلة أو النملة كفطرة (الوفاء بالواجب)، بقوة الحياة الجماعية، التي هي عند البعض كقهر جماعي، وعند آخرين طموح إلى بلوغ المثل الأعلى نحو الأفضل بحب مبدع، ولقيادة المجتمع لا أنه مقود له، لكن برجسون أغفل العنصر الفردي واستقلالية الفرد في نظريته، حين اعتبر الأمر الأخلاقي غريزة أو عاطفة، مجردة من التفكير الاختياري المقوَّم، لأن القيمة الأخلاقية هنا تصبح نوع من الرهاب الغريزي أو الاجتماعي، بينما القرآن يحذر من الانقياد الجماعي، ومن اتباع الهوى دون تفكير، بينما حقيقة العنصر الأخلاقي الحق يحتاج: عقل+ حرية+ مشروعية، بينما يرى "كانت" الإلزام الأخلاقي ملكة إنسانية مستقلة عن الشهوات والبيئة، وحتى عن الذات الإنسانية، من خلال التسامي في إدراك سمو الواجب، وهذا ما أكده القرآن بأن التكوين الأولي لنفس الإنسان ملهمة للإحساس بالخير والشر، الفضيلة والرذيلة، (فطرة)، وهي قوة باطنة في نفس الإنسان تأمره وتنهاه، لحديث: "إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من نفسه يأمره وينهاه" (عن أم سلمة – السيوطي)، وهو مقتضى التكريم الإلهي للإنسان قال تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) لكن اختياراته وحريته تجعله يسمو أو يسفل، قال تعالى: (قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها) سورة الشمس، كما أن اختيار السلوك المناسب عن طريق العقل، أو العاطفة؛ يحتاج مع الفطرة إلى ضبط علوي من خارج الإنسان؛ وهو الوحي فيما يتعلق بالواجبات العامة، وهي واجبات دينية، وما عداها فيه سعة للمقاربة والنسقية، لأن السلطة العليا في تقدير وتحديد المسموح والممنوع (الحلال والحرام) أو (الواجب والمباح) هي المشروعية الإلهية، لأنها لو أسندت إلى العقل أو العاطفة أو المجتمع أو حتى الفرد نفسه، فإن الخطأ متوقع في هذه الأدوات بخلاف الخطأ التشريعي من خالق الإنسان، قال تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) (سورة الملك) فنور الوحي يكمل ويهدي نور العقل، وهو ما اصطلح عليه علماؤنا بالجمع بين هداية (العقل + والنقل)، وبهذا يكون الإلزام الأخلاقي قانون إيجابي، تحدده مصادر تشريعية: (القرآن + والسنة + والإجماع + والقياس ) أي كلمة الله، وكلمة الرسول، وكلمة الأمة، وكلمة العقل، وهذا كله يشكل سلطة تشريعية واحدة، بوسائل متعددة، وكل هذه المصادر ترجع في النهاية والابتداء إلى كلمة الله العليا وسلطته المتفردة، لأن هذه المصادر محكومة بإرادة الله وتوجيهه، وجميع أحكام هذه المصادر ترجع إلى المصدر الأول وهو كلام الله وحكمه وإرادته، فهو المشرع وحده على العموم، ولا ننسى أن أغلب الأحكام الشرعية قرنت بمسوغاتها الأخلاقية، (الصلح خير، والقسطاط المستقيم، والحياء أزكى، وكتابة الدَّين أقسَط عند الله)، وكل هذا وأمثاله يجعل الأمر أو الحكم مقبولاً لدينا ومقنعاً.
2- خصائص التكليف الأخلاقي: أن يكون قاعدة عامة وثابتة تحكم جميع الأفراد في مختلف الظروف، وقانون الواجب ذو طابع فردي وشامل وهو في القرآن يشمل الإنسانية جمعاء، مثال قانون العدالة، والفضيلة، لكل الناس الأقرباء والبعداء، الأصدقاء والأعداء على حد سواء، وتساوي الجميع أمام الشريعة، ولو عارض مصالحنا الشخصية والذاتية، ويعارض القرآن التعلل بالظروف للتملص من الواجب، إلا في حالات الضرورة القاهرة المادية أو المنطقية، ومع ذلك فالقانون الأخلاقي يكلفنا لنختاره بحريتنا دون أن يكرهنا مادياً، لقوله تعالى: (لا إكراه في الدين...) و ( وما على الرسول إلا البلاغ المبين) ولهذا فسلطان الواجب لا يقهر الجوارح ولا يكره المدارك، ولكنه يفرض نفسه على الضمير، قد تختلف الاشتراطات بين شريعة الأخلاق وشريعة الفطرة، لكن تبقى شريعة الأخلاق ثابتة ومتميزة عن شريعة الفطرة بسبب ديمومتها وعموميتها، وهذا ما نلحظه كما قال "كانت" في أن فن الحياة لا يتطلب نشاطنا بشكل جاد، إلا بناء على هدف محبب، لأن القانون الأخلاقي يفرض النشاط لذاته، بموجب قيمته الذاتية، التي تستدعي ما يسمى (إلزاماً) بالمعنى الحقيقي الغائي، الذي لا ينطبق على الوسائل لبلوغ هذه الغاية، إلا على سبيل الاختيار، وعلى رغم شرعية الواجب المادية، فإن ملاحظة روحية العمل بالأخلاق مطلوبة، وأكثر ما يبين هذه النقطة ما يتعلق بإخلاص النية فيه، لئلا يتحول إلى عمل دنيوي جاف، والقرآن ينظر إلى شروط وجوب العمل الأخلاقي بثلاثة أمور:
أ- إمكان العمل: هو الذي يجعل العمل الأخلاقي والشرعي واجباً، وإلا يكون أمراً بالمستحيل، والله تنزه عن أن يأمرنا بما لا نطيق، قال تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) (البقرة 286)، وإن اختلف العلماء والمتكلمون معتزلة وأشاعرة في إمكانية أمرنا وإلزامنا بما لا نطيق، لأنه يفعل ما يريد، لا حاكم عليه ولا تثريب، لكن بعضهم نزهه عن ذلك، بحكم حكمته ورحمته، لكن الأشاعرة نزهت الله عن المقاصد والغايات، ولهذا قالوا: " الله لا يفعل شيئاً لأجل شيء، ولا بشيء".
ب – اليسر العملي: قال تعالى: (يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر) (البقرة 185)، وهذا لم يكن يشمل الشرائع السابقة، لقوله: (ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا) (البقرة 286)، وهذا قد يتناقض مع قاعدة أن الله رحيم بعباده، فيكون الإصر والعسر والشدة نوعاً من العقاب على عصيان من عصى من الأمم السابقة، لقوله: (ذلك جزيناهم ببغيهم) (الأنعام 142)، ولهذا نهى القرآن عن التشدد والغلو حتى في العبادة، (فاقرؤا ما تيسر منه) (المزمل 20)، ولحديث: " إن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى" (فيض القدير/ ضعيف)، ولهذا خففت بعض الأحكام في بعض الظروف، وربما ألغيت من التكليف، في الجهاد وفي الحج وفي السفر وفي المرض، أو أجلته أو استبدلت به ما يمكن فعله، (بديل)، كالفدية والتيمم، ومثل ذلك في التدرج بالتحريم والأحكام، في مرحلتي المكي (الإعداد) والمدني ( التطبيق)، وقولة عمر بن عبد العزيز لولده: "إني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة".
ج – تحديد الواجبات وتدرجها: في القرآن مشروط لها بأنها قابلة للخضوع لإرادة الإنسان (ميسر عليه) أولاً، وأنه ميسور في الحياة الواقعية يمكن ممارسته، وهذا الخير الأخلاقي: له سلماً في الإيجابية أو السلبية، ومتنوع ووفير، منها واجبات أولية لدى كل الناس، ومنها ما هو متفاوت في الوجوب والالتزام بها من عدمه، حسب عزائم النفوس وكينونتها السامية والمتدنية، بينما يرى "كانت" أن الواجبات منها جوهري ومنها عارض، ومنها للكمال الشخصي، ونها لسعادة الغير، ويصف بعضاً من الواجبات بالصارمة، المنصبة على المحرمات، ويرى الكمال الحقيقي هو النية الأخلاقية لفعل الواجب لأنه واجب، والكائن الإنساني تركيبة من العلاقات المتنوعة الاجتماعية والإلهية، النامية بالتربية المتوازنة المتكاملة، وهذا هو مفهوم الواجب الإسلامي: "فأعط كل ذي حق حقه" (صحيح البخاري)، فالواجب فرع عن القيم، وفكرة الخير تتضمن قيمتين مختلفتين: " الحد الإلزامي، والإضافة المثابة (التطوعية)، فشمولية ما نعتبره قانوناً (واجباً ملزماً) يتطلب التجانس والعموم، وهذا ما نلحظه في مفهوم " الإيمان" وما عداه يشمل الخير الإلزامي، والخير المرغوب فيه، ولهذا ذكَّر القرآن بالنوعين من الخير، الخير المطلق، والآخر النسبي، وهو ما يستوعبه مفهوم الفرض، ومفهوم الإحسان، مفهوم الحق، ومفهوم العفو والتسامح، ولهذا يجعل القرآن بين القيمة ونقيضها قنطرة ثالثة، وهذا في مفاهيم: الفرض، والمحرم، والمباح، وحتى المحرم فهو درجات (كبائر، وصغائر، ولمم) وفي المباح: المسموح به، والمتغاضى عنه، وهذا ما أدركه المفكر الألماني "جوتيه" في القيم الإسلامية وتنوعها المذهل، الذي يتيح مراعاة الظروف المحضة دون الإخلال بالصرامة القانونية للأخلاق الواجبة، وهذا من المرونة التي تتميز بها الشريعة الإسلامية خاصة، للتكيف مع الوقائع والظروف القاهرة، كإباحة الممنوع للضرورة (أكل الميتة)، (والتيمم)، (وإفطار المسافر) مما يجعل الأخلاق والقيم الإسلامية عقلانية.
3- تناقضات الإلزام:
أ- وحدة وتنوع: إذا كان القانون الأخلاقي علم، فينبغي أن تكون قواعده ثابتة وعصية على التنوع، ولكن الحياة الواقعية الإنسانية ليست بهذا الثبات المجرد فنحن مع القيم الأخلاقية بين وحدة قوانينها، وبين احترام تنوع الطبيعة الإنسانية وظروف الواقع، وصعوبتها التردد بين الجوهر والواقع.
ب - سلطة وحرية: وتلك صعوبة التوفيق بين علاقة الإلزام وإرادته لدى الفرد وهو يتمتع بحريته، وبين سلطة
المشرع الآمر بالقيم والأخلاق، وهنا تحضر نظريتان الأولى "لكانت" بأن الواجب ما يمكن صياغته بشكل قانون عام، بحيث يقبله العقل ولا يناقضه، فالفعل عنده هو إما أخلاقي أو غير أخلاقي، من حيث:
1- قابليته ليكون قاعدة عامة صالحة للتطبيق على جميع الأفراد، مع استبعاد الأنانية من خلال الضمير في التملص من تطبيقها، ولو على مستوى القناعة الداخلية وليس السلوكية.
2- وأن تكون قاعدية القانون الأخلاقي عمومية مطلقة، وحكمها جازم، وصادرة عن العقل المحض، الذي يحكم بقانونية القيمة الأخلاقية لكل الناس.
3- وأن نجد تطبيقات هذا القانون في الطبيعة الإنسانية، ونسبر غور هذه المسألة في ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: أن نعطي الفرد سلطة هذه الأحكام، فيختلط الإلزام، بالمباح، والجائز، ومن ذلك أن يكون دافع الواجب عقلي، أو مصلحي، وهذا يتناقض مع العمومية المطلوبة في القانون، لأن عموميته مشكوك فيها بهذه الصورة.
المرحلة الثانية: يعتبر "كانت" القيمة الأخلاقية يشترط فيها أن تكون واقعاً مسلماً للعقل المحض، وحينها تعتبر قانوناً عاماً، وليست كل القيم قابلة لأن تكون قانوناً عاماً، لكن ما يراه "كانت" وغيره في مطابقة القانون الأخلاقي، العقل المحض، يراه اللاهوتيون مطابقته للعقل الإلهي (الأوامر الإلهية).
المرحلة الثالثة: التفريق بين درجات العمومية في الواجبات المتنوعة: أبوية، وأسرية، وزوجية، ووطنية، وعقلية،...الخ، لكن إذا تعدى الواجب حدوده يتوقف وجوبه، ولهذا فوجوب الواجبات نسبية، بين حقوق العقل وحقوق الجسد، لكن القيمة الأخلاقية للواجبات المختلفة، يحكم عليها على الطبيعة، وبحسب الواقع والظروف، وليس بشكل مستقل مجرد، ويساعدنا على التقييم ظروف الواقع وحاستنا السادسة، وعند تجاوز سلطة العقل الخالص عند "كانت" نجد النقيض عند "جيو – ونيتشه – وروه" حيث اعتبرا القيمة الأخلاقية إبداع إنساني، لتساميه على ذاته، وأن الأخلاق صناعة فردية لصاحبها، كما هو فن العلاج الدوائي، يخضع لمزاج المريض، فكذلك رجل الأخلاق يخضع لتأثير الواقع وأثر الزمان والمكان فيه، مع أن المثل الأعلى الثابت، هو التعريف نفسه للقانون الأخلاقي، الذي تحكمه البرهنة أو الإيمان، بينما التجربة وهي مرجعية الأخلاق، تؤكد لنا تناقض المصطلحات والتطبيقات.
بينما نجد القرآن يشير علينا في التكليف بالأخلاق؛ بأن ندور حول التوفيق أو المقاربة بين المثل الأعلى والواقع، وبين المطلق والنسبي، وهذا يؤكد ثبات القانون الأزلي للقيمة، وجدة الإبداع الفني في الالتزام بها قدر المستطاع، كما ذكر القرآن الكريم في قوله: (فاتقوا الله ما استطعتم) (التغابن 16)، فيجمع لنا الخضوع للقانون، وحرية الذات، من خلال توجيه الضمير المستنير بالتربية الفطرية، ومعرفته بالمحددات الشرعية، ووصايا رسول الله وتوجيهاته لنا في أحاديث كثيرة، بالابتعاد عن الشبهات، والصدق في التوجه، وخوف الله والخشية من الإثم والعصيان، ولهذا كانت أكمل الأخلاق هي الأخلاق الدينية الإسلامية الواضحة في القرآن.
الفصل الثاني: المسؤولية
تستلزم فكرة الالتزام؛ فكرة المسؤولية، وفكرة الجزاء، فالإلزام من غير مسؤولية لا قيمة له، وكذلك يتبعهما الجزاء المناسب، والمسؤولية نوع من الإلزام، ولو كانت مسؤولية الإنسان تجاه نفسه.
1- تحليل الفكرة العامة للمسؤولية: وهي استعداد فطري بأن يلزم المرء نفسه، والوفاء بالتزاماته، ولا مسؤولية عن ثبات قانون الطبيعة، لكن النظام الأخلاقي مختلف من حيث اختيارات الإنسان قيمة توافق هواه، احتراماً أو اختراماً، وهي تختلف بين شخص وآخر حسب مهنته وموقعه ووظيفته، وحسب قدرته واستطاعته، فالمسؤولية تبدأ من داخلنا، ثم أمام من يأمرنا، ثم أمام الخالق سبحانه، والمسؤولية حسب المحاسب عنها، فردية، واجتماعية، وربانية، وهذه الثلاث يقررها الشرع الحنيف، ويحكم بها الكتاب والسنة، "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
2- شروط المسؤولية الأخلاقية والدينية:
أ- الطابع الشخصي للمسؤولية: الأخلاقية والدينية، وهذا ما أكدته الآيات القرآنية، قال تعالى: (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها) (الإسراء 15)، وبهذا أبطل القرآن مقولة تحمل الأبناء الخطيئة الأولى لأبيهم آدم، ف (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (الإسراء/15)، فالمسؤولية الفردية باقية في عنق الإنسان، لا يحملها عنه أحد، ويستثنى من ذلك ويضاف تحمل مثل وزر من ضل بالتسبب، دون إعفاء الفاسد من وزر عمله واستجابته للمفسدين، وهذا ما بينه رسول الله في قوله: "من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده..." (ر. مسلم)، لكن المسؤولية الفردية لا تعني أن تنحصر في ذاتها، دون مسؤولية اجتماعية ومجتمعية عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو نشر الفساد أو الخير للآخرين والمجتمع، دون أن ينقص أو يحرم المتسبب جزاء عمله المقتدى به، فتندمج هنا المسؤولية الفردية والمسؤولية الجماعية معاً، ومن ذلك حديث: " إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث.." ولا ينقض المسؤولية الفردية مبدأ الشفاعة في الإسلام، لأنها فضل من الله ومنة، وهي مشروطة بإذن الله ورضاه، لقوله: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) (الأنبياء/28).
ب – الأساس القانوني: للمسؤولية، الإعلام بالقانون ونشره داخلياً بالمبادئ العقلية الفطرية، وهو موجود لدى كل إنسان، (التكليف الفطري) بمقتضى العقل، عند المعتزلة، وبمقتضى الرسالة عند أهل السنة، لقوله: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (الإسراء/ 15)، وما يتعلق بالصغار والأبناء، فإن مسؤولية الآباء تجاههم بتربيتهم على الأخلاق والشريعة، وأن يصل المعرفة بالقانون إلى الجميع في بيئته وداره، وإلا فلا مسؤولية دون ذلك.
ج – العنصر الجوهري في العمل: أن يكون إرادياً، بينما العمل اللاإرادي لا تشمله المسؤولية، وكذلك أن يكون مقصوداً، لأن الخطأ لا يكون مقصوداً، وأن يكون العمل منصوصاً على استحقاقه الجزاء، وانعقدت عليه النية، لأن العمد نوعان، عمد بشبهة وتأويل، وعمد من غير شبهة، ويمكن التفريق بين العمل بحسن نية، وعمل بسوء نية، وأخطأ "كانت" حين قال: " إن الشيء الوحيد في العالم الذي هو خير في ذاته، هو الإرادة الطيبة" ؟. وهذا يتعارض وينقص شرطان من عناصر الضمير الأخلاقي، وهما: المعرفة – والعمل – بالإضافة إلى الإرادة.
د – الحرية: وهي شرط رابع في المسؤولية، لإن الإكراه يمنع المسؤولية، والحرية هي حرية القرار، والبعض نفى الحرية المطلقة لسلوك الإنسان لأنها تبع لأفكاره وعواطفه، والرد على هذا النفي؛ بأن الذي استطاع ترويض الوحوش، يستطيع ترويض نفسه بالتربية والمراجعة والتفكير، وأكد القرآن هذا المعنى بقوله: (ونفس ...قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها) (الشمس/7)، ولأن لكل عمل دوافعه، الخيرة أو الشريرة، وهو ما نسميه علة الفعل، وحريتنا التي هي شرط مسؤوليتنا أن تكون "طبيعة فاعلة – لا – طبيعة منفعلة" كما قال "سبينوزا" ، لأن الحرية والإرادة السوية هي التي تمتلك مسافة بين فعل الطبيعة والأفكار، ورد فعلنا الإرادي عليه، لأننا حينها نمتلك مكبح أن نفعل أو لا نفعل، نقدم أو نتوقف أو نتراجع، وهذا ما يمكننا من الاختيار الأنسب، وتفعيل العقل والحكمة، "ويسبق الإرادة الرغبة، وبينهما المسافة التي تفصل الدعوة عن الاستجابة".
وبالنهاية فإن ذاتنا غير المنقسمة هي التي تتركز في القرار النهائي، الذي تتناوله الإرادة لتحوله إلى أمر للجوارح فتنفذه، ويختلف الناس في ميولهم لفعل الخير أو الشر.
موقف القرآن في مواجهة الحتمية الأخلاقية؟
1- غيبية أفعالنا المستقبلية: (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً) (لقمان 34).
2- قدرة الإنسان على تحسين أو إفساد كيانه الجواني: (قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها) (الشمس/9).
3- عجز المثيرات عن إكراهنا والسيطرة على قراراتنا ما لم نختارها ونستجيب لها بحريتنا ولو كانت من الشيطان. قال تعالى: (وما كان لي عليكم من سلطان) (إبراهيم/22)، و (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر) (المدثر/37).
4- إدانة القرآن للاستجابة للهوى والتقليد الأعمى، (واتبع هواه) واتباع الآباء.
ولهذا كان الإكراه والاضطرار يعفي من المسؤولية، عن التلفظ بالكفر، وأكل المحرم من الجوع، إلا ما يتعلق بالإكراه على قتل وإيذاء الغير، فهو غير معفى من المسؤولية، وهذا يعني بذل الرخيص من أجل الغالي والأهم واجب، وهو هنا رخصة، ومع ذلك فإن اختيار الإنسان قراراته لفعل الخير أو الشر، يسبقه توفيق الله تعالى في الهداية، وتيسيره للشرير في الغواية، دون أن يعفي أحدهما من تحمل مسؤوليته عن هذا الفعل أو ذاك، لأنه ملكه حرية الاختيار، بمشيئته وخالقيته المطلقة، دون أن يكون في اختيارنا هذا أو ذاك، استقلالية مطلقة، لأن الإنسان عبد لله في النهاية والابتداء، ولهذا كانت الآيات الأولى في القرآن دعاؤنا: (إياك نعبد، وإياك نستعين، إهدنا الصراط المستقيم).
نظرية أهل السنة في توصيف إرادة الإنسان، أنها تبع لإرادة الله، لكن هذا ليس محاباة، بمقدار ما هو علم الله القدري بمن يستحق هذه التبعية فيثبت ويعان على الالتزام والخير، وآخر في علمه أنه لا يستحق هذا فيترك لشيطانه ليضله، فالأول فضل من الله، لاستعداده واستحقاقه هذا الفضل، وآخرون صموا آذانهم عن الحق، وأغلقوا أعينهم عن النور، فهم لا يستحقون ذلك، قال تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين) (الزخرف 36)، وهذا لا يعني أن الله يسلبهم حق الهداية بأنفسهم، أو يكرههم على المعصية لفسادهم، وإنما هو التيسير والتوفيق، حسب الاستحقاق، وفي البداية والنهاية فإن قراراتنا وأفعالنا الإرادية من اختيارنا، ولهذا مسؤوليتنا عنها وعن نتائجها مقتضى حريتنا في هذا الاختيار.
3- الجانب الاجتماعي للمسؤولية: كان موجوداً عند الأمم السابقة: بني إسرائيل – واليونان – والرومان، ففي التوراة: الثور القاتل يرجم، ولا يؤكل لحمه، حتى لو اعترف مالكه بمسؤوليته وعوقب بالموت، وعند أفلاطون: " لو أن حيواناً يقتل إنساناً فإنه يقتل، وكذلك الجماد يرمى خارج الحدود" وطبق هذا في فرنسا المسيحية، في القرن 13م وغيرها من دول أوروبا حتى القرن 19م، وعند الرومان مسؤولية الأطفال وحتى المجانين مخففة، وقد تلغى، ونجد في كثير من المجتمعات والشعوب القديمة معاملة القاتل خطأ من غير قصد ولا عمد، تخفيفاً في العقوبة وهي النفي مثلاً، بينما نجد إغفال الباحثين الغربيين ما هو مقرر في الإسلام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " رفع القلم عن ثلاثة: ...وعن الصبي حتى يكبر" وهذا يؤكد ارتباط المسؤولية العقابية بالمسؤولية الأخلاقية، وكلاهما يشترطان الإرادة والوعي، وبالنسبة للتائب عن ذنبه، إذا كانت إساءته لآخرين تضرروا بذلك فإنه لا يعفى من العقاب، إلا في حالة واحدة في الشريعة وهي العفو عن المتمردين الذين تابوا وأنابوا قبل القبض عليهم، كمكافأة لتوبتهم واستدراجاً لهم لوقف عدوانهم على المجتمع والناس، واختلف الفقهاء في نوع هذا العفو وشروطه وحدوده.
أما ما تشمله المسؤولية الاجتماعية عن أفراد المجتمع المحتاجين، فهو مسؤولية تكافلية، (للغارمين – والمساكين – وابن السبيل – والفقراء – واليتامى – [بالإضافة إلى المسؤولية عن المسيء والظالم بالأخذ على يده، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر] م. ن، فهي مسؤولية أخلاقية، ينتج عنها مسؤولية مدنية مالية ومعنوية، لتحقيق التضامن الاجتماعي، وهو واجب حسب الاستطاعة والقرب من المحتاج.
الفصل الثالث: الجزاء
العلاقة بين الإنسان والقانون تمر عبر ثلاثة محاور: أولها الإلزام والالتزام، وثانيها المسؤولية، وثالثها التقييم
والجزاء، وهو ثلاثة أنواع: الجزاء الأخلاقي، والقانوني، والإلهي.
1): الجزاء الأخلاقي: متضمن في حيثياته وباطن القيم الأخلاقية ذاتها، وما ندم الضمير ورضاه إلا نتائج طبيعية عن القانون الأخلاقي نفسه، ولكن لا يعني هذا تساوي الناس تجاه هذا الشعور بدرجة واحدة، خاصة في أحوال تبلد الإحساس وموت الضمير، وهذا لا يعني أنها جزاء حتمي بهذه الصورة، كونه مجرد رد شعوري تجاه الضمير وتردده بين شعورين مختلفين رضا أو عدم رضا، شعور بلذة أو ندم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا ساءتك سيئتك، وسرتك حسنتك، فأنت مؤمن" (أحمد)، وحديث" " المؤمن يرى ذنبه فوقه كالجبل يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذبابة مر على أنفه فأطاره" (الترمذي)، والندم تمهيد للتوبة، التي هي جزاء إصلاحي للتغيير، وهي مرحلة إصلاحية لما أفسدناه، إذا طبقناها بشروطها المعروفة، وهناك تفريق بين حق الله وحق العباد في التوبة، لاستعادة تقدير والتزام الشرع الذي هو كسلم درجاته على الأرض، ومن تسلقه رفع إلى السماء، فالفضيلة ترفعنا، والرذيلة تهبط بنا.
محاسن الفضيلة:
الصلاة: تنهى عن الفحشاء والمنكر، وترقى بنا لما هو أعظم وأكبر، لتحقيق جميع الكمالات، وهما فائدتين، والصدقة: تطهر النفس من الشح، وتزكي النفس لأعلى، فهي فائدتين: طمس سلبية، وتنمية إيجابية، والصوم: إيقاف الشره، والارتقاء بالتقوى، وهما فائدتين كذلك، تحقيق الكرامة: وهي نفي الجبن والخور بالشجاعة، والحكمة في التعامل، وهما فائدتين كذلك.
قبح الرذيلة:
1- السُّكرُ: خمراً وميسراً يزرعان البغض والعداوة، ويمنعان من ذكر الله.
2- الكذب: وهو أم الرذائل، والصدق أبو الفضائل.
3- السلوك: السوي يساعد القدرات العقلية على التوازن، وغير السوي يشوه الحقائق ويضطرب بالفكر.
4- النفس بأكملها: إما أن نزكيها بالفلاح، أو ندسيها بالفساد، والجزاء منهما والثواب: حسنات أو سيئات.
2): الجزاء القانوني: يلمسه الفرد من استقرار المجتمع، وأمن نفسه وماله وعرضه، لكن يبقى هناك من لا يلتزم به ويخرمه، فشرع الإسلام عقوبات: الأولى: هي الحدود: وهي محددة بدقة، وأخرى: تعزيرات: وهي متروكة لتقدير القاضي، والحدود تعالج عدداً من المخالفات الكبيرة، وهي محدودة العدد، محدودة الكيفية، لازمة التنفيذ إذا وصلت إلى السلطات، لكن المجتمعات الإسلامية المعاصرة تأثرت بمشاعر وثقافة الأمم الأوربية في التحرج من تطبيق العقوبات المؤلمة، كالرجم والجلد والقصاص، فأوقفت هذه العقوبات، التي أكد القرآن على أهمية الالتزام بتطبيقها، لمصلحة المجتمع بأسره، لكن المؤكد أن شدة العقوبة تقلل فعلها، وتخفيفها يزيد في انتشارها، مع ملاحظة التشدد في شروط تطبيق العقوبة، لقوله: "تدرأ الحدود بالشبات" مع أن منهجية التوجيه القرآني تدفع باتجاه الستر، وعدم التجسس، وعدم الإصرار على الاعتراف، لأن غايته حفظ أمن وأمان وطهارة المجتمع، ووجه إلى التوبة وشجع عليها، ونكاد أن نلمس أن العقوبة تنزل على المعلن والمتحدي وناشر الفساد.
والفرق كبير بين من يذنب وينشر معصيته بالإعلان عنها، وبين من يذنب ويتوب منها ويطلب إنزال العقاب عليه ليتطهر من رجس عذاب الضمير.
والعقوبات الشديدة لا تتجاوز نوعين شديدي الخطورة على المجتمع وهما (القتلة والزناة – والسرقة وقطاع الطرق) وما عداهما فإن القاضي يختار ما يناسب نوع الجريمة والأسباب المخففة لها، وقد تكون العقوبة مجرد توبيخ أو نصح.
3): نظام التوجيه القرآني، ومكان الجزاء الإلهي:
يُتَّهَم الإسلام بأنه وعد المحرومين والصحراويين بجنان وثمار في الجنة، فأغراهم هذا بالانصياع لشريعته، لكن بالرجوع إلى الكتب السماوية السابقة والعهد القديم نجد أن ما ترغب به هذه الكتب هو ثمار الأرض وبركتها وغلالها، والانتصار على الأعداء، وهذه الإغراءات من لدن آدم إلى عهد موسى عليه السلام، ليس فيها وعد بجزاء أخروي أو ذكر للجنة، بينما نجد العهد المسيحي يركز باتجاه الجزاء الأخروي في أغلب وصاياه، بعكس العهود السابقة، كأنه يتجه باتجاه ما سيجيء في الإسلام من توازن بين الجزاء الدنيوي والأخروي معاً، ويمكننا أن نلحظ المسوغات القرآنية بثلاث مسوغات:
أ- المسوغات الباطنة: تعليلية تربط بين التكليف وقيمة أخلاقية، العدل والظلم، الحق والباطل، والطهارة والدنس، ويصف الالتزام والطاعة بأنها النور – والصراط – والثبات – والحكم الفصل – والفطرة – والوضوح – والحكمة – وزكاة النفس – والتفقه – والعلم والتعلم – والتنافس في الخير – والاحتشام – والإحسان – والوفاء – والكرم – حب الله – والطمأنينة – والإيمان....الخ.
وبعكس ما سبق نجد مسوغات سلبية في النهي عن آثام تؤدي إلى: القتل – البغاء – الكذب – الهوى – الطمع – الخيلاء – الخلاعة والتعري – الإساءة – الضرر – قهر اليتيم – المن – الغيبة – النميمة – ضعف الإيمان – الضلال – الغفلة – الظلم – العمى – الجهل – السفاهة – الفحشاء – المنكر – الفسق – الشك – الكبر....الخ.
ب – اعتبارات الظروف وموقف الإنسان: حين تكون تشكيلة أخلاقه وسلوكه بضغط المجتمع، فإنه حين يخلو بنفسه، لا يبالي بما يفعل من هذه الناحية، لكن في الإسلام لا وجود دون مراقبة وحضور من الملائكة، عن اليمين والشمال، ورقابة الله في السر والعلن هي الأساس المانع من الفساد والعصيان، ويمكن ملاحظة المواقف التالية في هذا الجانب:
أولاً- موقف التقبل والتجاوب مع النظام والوصايا: فيدفعه الحب والشعور بالرقابة الإلهية للالتزام.
ثانياً - موقف التجاوب لأحكام الشرع وأداء الواجبات بخليط من الاحترام والاحتشام.
ثالثاً – العمل مع الخلط بين الصواب والخطأ، الطاعة والمعصية، مع الندم أحياناً.
رابعاً – العمل بالمجاهرة بالمعصية والوقوف ضد الشرع والشريعة، والكفر علناً، وهنا يبرز تأثير استخدام الوعيد والتهديد إذا كان له من تأثير أو إبراء الذمة بالدعوة والنصح.
ج – اعتبارات النتائج المترتبة على العمل: نصوصها قليلة في القرآن فيما يتعلق بالخير الفردي، حوالي خمس نصوص، (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) (النساء/ 5)، (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) (المائدة/101)، (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن ...ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) الأحزاب/59)، (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً) (الإسراء/29)، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (فصلت/34) (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) ( المائدة/91).
أما الآيات المتعلقة بالجماعة وأثر الطاعة أو المعصية عليها كثيرة منها: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) (الأنفال/ 46)، وقد ذكر ابن عباس أثر الطاعة بقوله: "إن للحسنة لنوراً في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة لسواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنا في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق" (ابن تيمية/ منهاج السنة).
النتائج غير الطبيعية (أو الجزاء الإلهي): ليس صحيحاً ما ذكره "فيكتور كوزان" و "تيودور جوفروي" من أن الأعمال جزاءها متضمن في نتائجها، في الطبيعة والحياة الدنيوية، بينما نجد هذا صحيحاً إذا ضممنا إلى الحياة الدنيا الحياة الأخروية، (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون) (الزخرف/72).
4- الجزاء الإلهي: في التوراة منحصرة في عالم الدنيا، وفي الإنجيل منحصرة في السماء، بينما القرآن يجمع بينهما.
أ – الجزاء الإلهي في العاجلة: ذو طابع عقلي أو روحي، في الغالب، بينما الجزاء المادي قليل:
1- الجانب المادي: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب) (الطلاق/2) و (قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان) (النحل/112)، و (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون)، و (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر...) و (أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون) (النحل/45).
ب – عنصر يتصل بتأييد جماعة المؤمنين: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) (الحج/38)، و (ليستخلفنهم في الأرض) (النور/55).
ج – الجانب العقلي والأخلاقي: هداية المؤمنين، والمجاهدين في الله، ويصلح أحوالهم وينير طريقهم، والطمأنينة، والسكينة، وعكس ذلك للكافرين.
د - الجانب الروحي: هو علاقة رضا الله عن أفعالنا أو سخطه علينا بسببها، كما في قوله: (إن الله يحب المحسنين – يحب الصابرين – يحب المتوكلين – يحب المتقين – وفي المقابل: لا يحب المعتدين – ولا يحب الظالمين – ولا يحب المسرفين – ولا يحب الخائنين – ولا يحب الكافرين....الخ.
قصور الجزاء العاجل: لأن الله لا يستوفي لنا نعيم الدنيا على إحساننا، فيدخره لنا في الآخرة، لقوله: (وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) آل عمران/165).
ب): الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى: المقام الأبدي في الجنة أو النار، وقوله: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) (البقرة/97)، الوعد الحسن – الفوز – الفضل الكبير – شكرهم على استقامتهم – لهم أجر غير ممنون – وآيات كثيرة تذكر هذه الثوابات بالإجمال.
ج – الجنة: في القرآن التفصيل المعنوي والمادي، أمن وفرح، ومغفرة – وجوه ناضرة – مقام محمود – نور يحفهم – تسلم عليهم الملائكة - في الدنيا ندفع ثمن متعنا المؤقتة جهوداً ووقتاً أكثر من الوقت الذي نستمتع به بها بعد صناعتها، أما في الجنة كل ذلك وأكثر يقدم لنا من دون جهد ولا ثمن، ولهذا كانت الهدايا في الدنيا مرغوبة لهذا لأنها بالمجان، وفي الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على عقل بشر، وهو نعيم دائم ومتنوع، (ولهم ما يدَّعون) وأعلى نعيم الجنة المعنويات والروحانيات، مثل رضا الله تعالى - واستمرار النعم – سلامة الصدور والقلوب من كل ما يعكر صفوها، - فواكه للتلذذ وليست للبقاء – الشراب الطهور – أزواج وزوجات خيرات حسان، تذوق أولي للمصير: للصالحين استقبال حسن في الجنة، والكافرون يستقبلون بالضرب على وجوههم وأدبارهم، أما نعيم وعذاب حياة البرزخ فإن القرآن لا يفصل فيها كثيراً، وذكرت السنة بعضاً منها.
د – النار: نماذج من عذابات النار، شبيهة رمزياً بما يفعله الظالمون في المظلومين في الدنيا، دون أن يستوعب القرآن كامل ما يفعله هؤلاء المجرمون، بسبب فظاعته وسوء ذكره شكلاً ومضموناً، وعلى القارئ أن يتخيل بعدها عذابات النار، بمقدار ما يعرف منها في دنيا الظالمين والمظلومين.
عقوبات أخلاقية سلبية: حبوط أعمالهم – خيبة أملهم – يأسهم من رحمة الله – خسرانهم – سود الوجوه – عض أصابعهم – خذلانهم – شهادة جوارحهم على أفعالهم .....الخ.
عقوبات بدنية: سجنهم – جوع – عطش – نار متقدة – قيود وسلاسل – مقامع من حديد – سلخ الجلود – ماء حميم – طعام الزقوم - .......الخ.
أسس التكليف الأخلاقي: الاقتضاء الأخلاقي المحض – والضرورة الاجتماعية في جوهرها – والعقل الراشد العملي – ورابعاً: الإيمان بوجود سيد خالق مشرع، سلطته علوية على عباده.
الفصل الرابع: النية والدوافع
النية هي الغاية التي يقصد العاقل بلوغها من عمله، أو بمعنى الهدف، وهي مبدأ أو فكرة تحفز النشاط الإرادي، وتدعى (الباعث) أو (الدافع) لتسويغ العمل المعتزم، ليطابق القانون أو الشرع، وهي الموضوع الذي يلهم الإرادة لتقوم بالعمل المطلوب، ونفرق بين النية الأخلاقية، والنية النفسية، والثانية لا تدخل في مجال الأخلاق مباشرة لحياديتها، والنية بمعنى القصدية، والدافع بمعنى الغرض والهدف.
النية
النية هي القصد والعزم للقيام بعمل ما ويمر بثلاث مراحل: 1- تصور العمل المراد 2- إرادة إحداثه 3- تقييمه.
وهي في هذه الأدوار حالة شعورية.
أ- النية كشرط للتصديق على الفعل: وغيابها يحول الفعل إلى عالم لا إرادي، كالنائم، والحادث الطبيعي، والكوارث الطبيعية، وبهذا يفتقد هذا العمل المسؤولية الأخلاقية أو القانونية، ويمكن قيام الدولة بالعمل نيابة عن الممتنع عنه وغياب نيته فيه، فتكون نية الدولة أو القاضي بديلاً عن المستحق عليه الفعل، فهنا يتم أداء الواجب برضا أو إكراه، وربما كان التكافل الاجتماعي وواجبات الفرد تجاه مجتمعه تتطلب قيامه بأفعال نيابة عن المستحقة عليه إذا قصر عن فعلها مثل كف الأذى أو امتناعه عن فعل المنكرات، فيقوم أفراد المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد أو اللسان أو القلب، أما ما يقوم به المنافقون من صلاة وصدقات فلن يقبل لغياب الرضا الشعوري الخالص، وغياب الحماس لأداء هذه الواجبات برغبة وحب وسرور، والسبب في ذلك غياب النية الشرعية المقبولة، ولهذا صدر كتاب البخاري بحديث: " إنما الأعمال بالنيات" ويمكن الاستثناء في بعض الحالات إذا تم الأمر كما ينبغي، عند بعض الفقهاء، (الحنفية) في بعض المسائل: كالوضوء والاغتسال، وحجتهم أن النية في مثل هذه الأمور الحسية شروط كمال لا شروط قبول (وبطلان)، والجميع أقروا بمثل هذا في زكاة الصغار من أموالهم، وأن النية من الوصي.
ب – النية وطبيعة العمل الأخلاقي: قيمتها من حيث اتفاقها أو اختلافها مع القانون، إذا كان العمل مشروعاً فإن النية الحسنة أو السيئة لا تأثير لها على هذا العمل، إلا إذا توصل به إلى غاية غير مشروعة، فمن قصد الخير بمعصية عن جهل فهو غير معذور، إلا إذا كان قريب عهد بالإسلام، قال الحسن البصري+ وسعيد بن جبير: " لا يصلح قول وعمل إلا بنية، ولا يصلح قول وعمل ونية؛ إلا بموافقة السنة، وأن يكون العمل برضا وحرية، وإذا وقعنا على رغم هذه الشروط في الخطأ، دون قصد، فالحكم لقوله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)، ولنا الأجر في حال الاجتهاد الحقيقي المخلص، مع الإرادة الطيبة، طالما أننا نتوجه إلى الخير الموضوعي.
وثاني التحديدات: حركتنا الإرادية تنطلق من الفكرة المشروعة باتجاه العمل والتنفيذ، ودور النية دور النطفة التي يخرج منها الوليد فيما بعد، والعاقل النموذجي هو الذي يخلق وقائع يطوعها لفكرة الخير، حتى يجعل الدنيا أكثر كمالاً كما يريدها الله الخالق، والدور الرقابي هنا يكون للضمير الأخلاقي الحي الملتزم، وعندها يلتقي العقل المفكر، والقلب المخلص، واليد العاملة.
ج – فضل النية على العمل: ما من عمل إلا ويحتاج إلى قرار (نية) وتنفيذ (عمل)، لكن الأخلاق الإسلامية تغلب الواقع القلبي على الواقع الحسي، والقرآن ربط بينهما، إيمان وعمل، وكلمة التقوى التي تكررت في القرآن 220 مرة هي في الأساس عمل قلبي، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله..." (البخاري)، فيكون العمل الظاهري مكمل للعمل الباطني، وأثر النية أكبر من أثر العمل، لأنها قريبة من نفس الإنسان وهي المقصودة بالعمل الأخلاقي، والعمل مجرد تأكيد وتحقيق.
د – هل تكفي النية بنفسها: أحياناً تكون هي المحددة للفعل من ناحية القيمة الأخلاقية نفذت أو أعاق تنفيذها عائق، كالمسلمين المتقاتلين بسيوفهما، فالقاتل والمقتول في النار، وأخرى ينقصها التوفيق للتحقق، فلصاحبها أجر الصلاح، أو لم يستطع فعلها عليه وزرها إذا كانت للفساد، أما قوله: (ولكل درجات مما عملوا) و (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره) تبين أن لكل عمل ومنها النية (لأنها عمل باطني) حسابها في إطار تحققها بعمل، أو إعاقتها عن التحقق، حسب الواقع فمن بقي حبيس نيته ليس كمن تحول إلى تنفيذها، وفي جميع الأحوال النية لها وعليها من الأجر أو الوزر، فإذا تحولت في الخير إلى واقع فهي الأكمل والأبر.
دوافع العمل
بعد أن تعرفنا على مشروعية العمل والنية وشروط استحقاقهما القيمة الأخلاقية، وعلاقتهما بالواجب من حيث الالتزام والمسؤولية، اليوم نجيب على سؤال لماذا أفعل الواجب؟ وفي سبيل أي هدف؟ وما علاقة الأخلاق بالغاية من الفعل، إذا كانت مشروعة أخلاقية، أو غير مشروعة ولا أخلاقية.
أ – دور النية غير المباشرة وطبيعتها: يقول الإمام الغزالي: "إنما النية انبعاث النفس وتوجهها، وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها، عاجلاً أو آجلاً، ويسبق هذا الميل اكتساب أسبابه، وانبعاث النفس إلى الفعل إجابة للغرض الباعث، الموافق للنفس، وأحياناً تتضارب وتتشابك الأغراض بين إرواء الغرائز، وتحقيق الأهداف، ويصعب التمييز بينهما إلا مع توفر اتخاذ الأسباب إلى هذا وذاك، وما يؤثر في حكمنا على النية 1- نوع العمل المقصود، 2- الباعث الأكبر لهذا العمل، مع ملاحظة البواعث الجانبية الأخرى.
ب – النية الحسنة: إذا اعتبر "كانت" فكرة الواجب هي المحددة للإرادة الطيبة، المتوافقة مع القانون والعقل، فإن القرآن يعتبر أن الإذعان للواجب باعتباره صادر عن سلطة عليا للموجود الأسمى (الله) الذي منح الواجب القيمة الأخلاقية، في المقام الأول، لينزهنا عن أهوائنا باتباع شرعه الحنيف، (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) ص/26، وهذا يجعل المقصود بالنية الحسنة (الله تعالى) ولا أحد سواه، مثال الصدقة للفقير، والإحسان للغير، وهذا لا يعني إغفال أهمية الآخرين ونعيم الدنيا ورفاهية الحياة، لكن كل ذلك لمرضاة الله وفي إطار منهجه العظيم، ونرصد ست حالات في هذا الصدد:
1- لا أخلاقية حيازة الدنيا بالحرام. 2- لا أخلاقية الالتزام المرائي والكاره له باطناً. 3- الحيادية في عمل الخير والالتزام بسبب الفطرة وليس الشرع. 4- الالتزام العقلي في أدنى سلم الأخلاقية. 5- الالتزام من غير نية لأكون صالحاً ومفيداً. 6- عدم الخضوع للمادة والمادية في أحلك الظروف، من قبل أناس جعلوا من أنفسهم يد القدر لنجدة المحتاجين، وكل همهم مرضاة الله تعالى.
المبدأ الأسمى للأخلاقية يُلتَمَس في النية، والإرادة النزيهة، والأحكام المعللة بالخير مقصودة في الواجبات، فتزيد في جمال الالتزامات والطاعات، ونحن بحاجة إلى توحيد موضوع الإرادة مع موضوع الشرع، سواء توقفنا عند شكله، أم تغلغلنا في جوهره، والباقلاني كفر من ادعى البراءة من الحظوظ، لأنهم نسبوا لأنفسهم ما هو من صفات الله، ولهذا كانت أفعالنا بين ثلاثة أحكام: ثواب – وعقاب – ومباح، وهذا في حديث: "الخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر،" (الموطأ)،
ج – براءة النية: عندما تتجه إلى المباح من الأغراض والأعمال، دون قصد، فإن قيمتها الأخلاقية صفر، بينما يجب علينا الخضوع لسلطة الواجب طوعاً أو كرهاً في الاستجابة لله ورسوله، ومن لاحظ رضا الناس في عمله انقلبت طاعته معصية، بسبب الرياء، والنية في حالة براءة إذا اجتنبت الآثام، ولو لم ترقَ إلى الواجب الأخلاقي، عند ممارسة المباحات، والسعي للمنافع لا يعتبر إثماً طالما أنه يجتنب الآثام، والسعادة الأبدية تحتاج 1- طهارة القلب 2- الإيمان الراسخ، والمؤمن بين الخوف والرجاء، فإذا كانت اليهودية (شريعة الخوف)، فإن المسيحية (شريعة الحب)، والإسلام يجمع بينهما، ولهذا ذكرت السنة: 1- الكسب الحلال مباح، 2- الكماليات: لا بأس بها، وتندب لشكر الله على نعمه، 3- الاستثناءات لا تطلب لذاتها حتى لا تتحول إلى نكران لنعم الله. 4- اللعب: لترويح النفس يتحول إلى ما هو فوق المباح، بل المندوب لتحقيق النشاط في الطاعات والواجبات، وتتحول النية بها إلى أمر حسن،
اختيار الجوع والعفة في حال كانت تكاليف الشبع والزواج كبيرة وكثيرة وصارفة عن تحقيق الفضائل، يكون اختيارها أفضل، لكن في حال توفر ما يسد الرمق ويسكت الجوع والباءة للزواج لتحقيق أغراض ما فوق العفة، وهو الانجاب والتكاثر وزيادة العلاقات الاجتماعية يكون هذا أولى، والامتناع لمجرد الامتناع للتظاهر أو تمثل التقوى والتعبد، ومن ثم المغالاة في ذلك يكون منافياً لوسطية الشريعة، ومضادة لأمر الله وسنة رسوله، ولهذا نجد في القرآن مراتب التوجيه الرباني متتابع ومتتالي جنباً إلى جنب: واجب – مستحب – مباح، والمسلم لا يلتزم الأخلاق العقلانية (كالرواقيين الإغريق) بعيداً عن المنهج الشرعي الذي يوجهنا إلى مرضاة الله في الالتزام الأخلاقي، لأن سعينا للكمال يتجه لتحقيق غاية أعلى وأعظم وهي الحرص على مرضاة الله، لأن الغاية الأساس ابتغاء وجه الله في كل أمورنا.
د – النيات السيئة: هي ما كانت خارج نقاط الخط المستقيم الذي يمثل صراط الله، ولهذا إذا كانت النية أو الغرض 1- الإضرار. 2- التهرب من الواجب 3- الكسب الحرام. 4- الرياء، فهذا كله خارج نقاط ومواضع الصراط المستقيم.
1- نية الإضرار: أحكام الشريعة تحقق العدالة والرحمة والسعادة، لكن اتباعها ليسوا في جميع العصور على مستوى هذه المطالب، وهذا ما يجعلها ذات وجهين بعيون أعدائها، ظاهر أتباعها مسلمين، وباطنهم وسلوكهم يتلون بكل مكونات المجتمع البشري وشعوبه، فيصبح حاله كدين وهوية؛ حال هش، وكثير من أتباعه غثاء كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أشبه بالمنافقين سلوكاً، لحديث: " إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا" وفصل القرآن العلاقة الزوجية وبين كيفية إصلاحها، أو انفصامها كنموذج.
2- نية التهرب من الواجب: إذا كانت مقصودة وبتخطيط مسبق للتهرب من الواجبات فإن الشريعة تؤثمه وتحرمه، (كفعل أصحاب الجنة المحترقة) أما إذا كانت عفوية من غير قصد بدوافع المصالح التجارية وحركة السوق وظروفه، ولو أدى ذلك إلا خرم شروط أداء الزكاة، وتضرر الفقراء من عمله، فإنه لا يؤاخذ لأن العمل على تحقيق المصالح الشخصية ليس بمحرم ولا محظور، والأنانية المفرطة وغير المفرطة، إذا لم تكن تؤدي إلى نتائج سلبية فيما يتعلق بأداء الواجبات أو بعضها بشكل مقصود (نية سيئة) فإن الشرع لا يمنع من تصرف الأفراد بشكل يحقق مصالحهم.
3- نية الحصول على كسب غير مشروع: قد لا يكون كسبهم بهذه النية الواضحة، لكن أعمالهم وحيلهم وغشهم يؤدي إلى هذه النتيجة، دون أن يشعروا بالحرج، حين يظنون ويعتقدون أن التجارة شطارة، من خلال إخفاء ما يقومون به من حيل ومواد لو علمها الزبائن لما أقدموا على الشراء منهم، حتى لوكان الأمر في النهاية برضا الطرفين، وذكر منها الترمذي: هدية القاضي (رشوة)، والمدين الذي يطلب مخالصة مالية، فيها شبهة (الربا)، ومنها تنازل الزوجة عن جزء من مهرها ترضية للزوج ليحسن إليها (سوء معاشرة)، ومنها ما صنعه يهود حاضرة البحر يوم سبتهم (للصيد المحرم)، ومن ذلك (بيع اليهود شحم أنعامهم) وهم ممنوعون من أكله، فأكلوا ثمنه، ومن ذلك ما تفعله البنوك الإسلامية من بيع سلعة مشتراة لشخص بالتقسيط (إقراض)، ثم شراءها منه بأقل من ثمنها الأول ونقده ثمنها، والفارق بين العمليتين (ربا مبطن)، هناك من أحله، وهناك من حرمه، ومثل ذلك في الأيمان والحلف، بنيات مختلفة، والحيل الشرعية التي يمنع وجودها إقامة الحدود، وقد توسع مذهب " "الحنفية" في هذه الحيل على اعتبارها شبهات تمنع إقامة الحدود، لأن الشريعة تؤكد في إقامة الحد على توفر شروط الجريمة الكاملة، وهذه الحيل تمنع تحقق الجريمة الكاملة في هذه المخالفات.
4- نية إرضاء الناس (الرياء): تميل إليه النفس البشرية لتحقيق الاعتزاز بالذات في العلاقات الاجتماعية، وحين تكون درجة هذا الرياء متطرفة، ينقلب الرياء إلى نفاق مذموم محرم يبطل العمل، لكن في بعض صوره المشروعة المخففة، يكون لتزكية قبول الناس للشخص في دعوته لهم، وإرشادهم، وتحقيق مآرب سيادية في المجتمع مشروعة بعض الشيء، فلا يكون فيها حرج، خاصة إذا تساوى هذا الرياء مع حضور الناس وغيابهم على حد سواء، لأن طاعة الله لديه لا ترتبط بالناس في السر والعلن، وربما كان قوله تعالى: (لإيلاف قريش إيلافهم) توحي بأهمية الألفة الاجتماعية والقبلية بذكر اسم القبيلة متفضلاً الله عليهم في هذا الإيلاف، الذي قد يكون مطمحاً لكل فرد فيهم، للمقولة الذائعة الصيت: "الإنسان كائن اجتماعي" والمنكر من هذا الرياء ما كان المسلم يظهر خلاف ما يبطن ليخدع الناس، والنية وتلونها هو المحدد لهذه الرذيلة، التي تحبط العمل، وذكرت السنة نماذج من هذا الرياء: 1- المقاتل الذي يرغب بأن يقال عنه جرئ.." 2- والعالم الذي تعلم ليتصدر الناس فيقال له: قارئ" 3- والمنفق الذي ينفق ليقال له: جواد" فهؤلاء هم في النار بسبب شركهم مع الله (شرك أصغر).
هـ - إخلاص النية واختلاط البواعث: حين يجتمع للمرء الإخلاص لله في عمله، ومحبة ظهوره في الناس، هذه الرغبة تحبط الإخلاص، إلا إذا كان غير مقصود كما في حديث: " يا رسول الله، أسِرُّ العمل، لا أحب أن يُطلع عليه، فيُطَّلع عليه، فيسرني ذلك" فقال النبي: "له أجران، أجر السر، وأجر العلانية" (الترمذي)، والمفسرون اتفقوا على أن انكشافه بعد تمامه، كما إذا أراد الاقتداء به من الآخرين، وتشجيعهم على فعل هذه الفضيلة، ويمكن ملاحظة سبق النية الخالصة هذا الظهور والرغبة فلا تأثير على ما عزم عليه قبل، وما حدث له بعد، لقوله تعالى: (خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، عسى الله أن يتوب عليهم) (التوبة/102)، ويميز الغزالي بين النوايا ثلاث: مرافقة – ومشاركة – ومعاونة، فهنا يتصارع باعث الواجب، وباعث الهوى، فالذي له الغلبة هو المستحق والمتحكم بالنتيجة، وهذا ما أكده القرآن وأباحه في الحج من التجارة لقوله: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم) على أن يكون الواجب الروحي والحج هو المقدم والأصل والباعث على هذا السفر.
خاتمة
الواجب الأخلاقي في القرآن محاط بشروط المشروعية، والإخلاص، والنية الحسنة، والارتباك الحاصل من خلال اختلاط البواعث على العمل الأخلاقي، لا يمكن الحكم عليه بمجرد لحظة شعورية وحيدة، وإنما يراعى فيه درجات قيادة هذه النوايا والمشاعر لإتمام العمل أو الابتداء به، على قاعدة "اعمل وغايتك الله وحده".
الفصل الخامس: الجهد
في معركة الفضيلة نميز بين النية والعمل، وفي هذا الفصل نلقي الضوء على العمل، وحين خلق الله الإنسان، ألهم نفسه فجورها وتقواها، من خلال ما منحه من نعمة الحرية وإرادة الاختيار بين الخير والشر، مع إدراك ما يتمتع به الإنسان من كمال نسبي، ونقص نسبي، لهذا الاعتبار الأولي فيما ألهمه خالقه من القدرة على الفجور أو التقوى، مع تحمل مسؤولية اختياراته وتصرفاته، فالمسؤولية مقابل الحرية، والقرآن نبهنا إلى أن العمل لا يكفي دون مجاهدة، لأن النشاط الإنساني الفعال يحتاج إلى هذه المجاهدة ليثمر فعلاً ويؤثر، ولهذا استخدم القرآن كلمة (جاهدوا) كثيراً، كناية عن بذل الجهد والقوة في العمل، ولهذا نلحظ مفاهيم هذه الكلمة والعبارة فيما يأتي:
1- جهد وانبعاث تلقائي: باتجاه تحقيق معنى أخلاقي، أو مضاد له، والانتصار على الشر، يكلفنا غالباً تضحية، وكفاحاً انتصاراً لفضيلة، واكتساباً لسلوك حسن، والفيلسوف "كانت" ينكر قدرة إنسان على التحلي بكامل الالتزام بالقانون، لكنه لا ينكر قدرة إنسان على أداء واجب معين بطواعية وهمة وحب، واختلف علماء الإسلام فيمن روض نفسه فوصل للتلقائية في الخير، وآخر يجاهد في التوبة، لكن لديه نزوع للعودة إلى شهوات نفسه، الفضيلة ليست من ثمرات الطبيعة، وليست اكتساب مطلق، لأن الإنسان القديس، والشرير، لا يخلو أحدهما من احتياجه لجهد المقاومة للشهوات ولو بدرجات متفاوتة ومن ذلك:
أ- جهد المدافعة: في مواجهة الميول الخبيثة مشكور ومشجع عليه في القرآن: (وأما من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى..) والصوم أحد وسائل المجاهدة، وهي تضحية معتبرة، لدى الإنسان السوي المزود بالغرائز الطبيعية، والعقل الضابط، لكن بعض الناس يصلون إلى التلقائية في اختيار الخير فحسب، وهم الصالحون والأولياء والرسل، لكن البعض من هؤلاء دفع مجهوداً للوصول إلى هذه الدرجة، ويؤيد الله فطرتهم للانتصار للفضيلة، (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (الأنعام/ 124)، فالقديس مدفوعاً بالحب، والرجل الوسط مدفوعاً (بالعقل)، والعامي (بالخوف)، بينما الصالحون كما ذكر القرآن خنس الشيطان عندهم بقوله: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)، والجهد يصنع المواقف ويصقل النفس ويكون العادة، لهذا وضع "أرسطو" الفضيلة في طائفة العادات، ولهذا كان الجهد وسيلة لتقليل جهد المقاومة، حين يروض نفسه على الالتزام بالفضائل.
إن الذي يحتاج إلى جهد كبير من المجاهدة لمقاومة شهواته إنسان بدائي؛ لأن الإنسان الناضج يسير في حياته بشرف دون أن يعرض نفسه للعنف في الانضباط، بسبب إيمانه القوي بأهمية الفضيلة، والمدد الإلهي يسبقه طلب إنساني واستعداد لتلقي المنح الربانية في الحفظ والتوفيق وسلامة القلب، قال تعالى: (كانوا أحق بها وأهلها)، وذلك لأن إنسان على هذه الشاكلة، يتمتع بالأخلاقية التي تعرف بأنها "فن السيطرة على الأهواء" مع أن التعريف بالأخلاقية هي تجاوز السلبية في الدفاع والكف، إلى الإيجابية في طلب فعل الخير والصواب، وهذه مرحلة متقدمة على ما ذكرناه قبلها، فهو جهد متقدم مبدع، فوق جهد المدافعة.
ب – الجهد المبدع: يبدأ بإزاحة الميول السيئة من النفس، لكن هذا وحده لا يكفي إذا لم نغرس الاتجاهات النافعة في سلوكياتنا وعاداتنا، من خلال العمل الأخلاقي في الإرادة الخيرة، على أن يكون محدداً بكيفه، وكمه، وغايته، ووسائله، ومكانه، وزمانه، على أن لا يكون الأمر موكول لمجرد الفطرة والبيئة، أو العواطف الجامحة والاعتبارات الاجتماعية، بل يرتبط بكمالنا النفسي واستقلالنا الحر الأخلاقي، وقيمنا الثابتة، وحينها نقول أننا صانعي أخلاقنا، ولهذا خاطبنا القرآن بقوله: (اعملوا فسيرى الله عملكم) (التوبة/105)، مع الحذر من الاتكالية الأخلاقية، لأنها تعبير عن الفتور المعطل للنشاط والمبادرة، ولهذا جاء الحديث: " احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز" (ر. مسلم)، ولا يكفي العمل الخيِّر الأخلاقي إلا بأن يستهدي بتوجيه الشرع، ويتطابق مع قواعده وحدوده، مثال: [إخراج الزكاة والصدقات]، لها ضوابطها كماً وكيفاً، أدنى وأعلى، والأشخاص المستحقين، وحالة السر أو العلن، والابداع هو البحث وعمل الأفضل الممكن، لقوله: (فيتبعون أحسنه) وفي الحديث: "إن الله يحب معالي الأمور..." (الجامع الصغير)،
في ظروف معينة يبذل المجاهد نفسه في سبيل انتصار الحق، ويوجد آخر من القاعدين من يبذل ماله دون نفسه، فإن القرآن يثني على الأول، ثم يثني على الآخر كذلك، باعتبار ما يقدمه من خير، لئلا يحرم أحد ممن يفعل الخير، ولو بدرجة أدنى من الأول السابق المتقدم، مما يعطي فلسفة أن الخير لا يفقد فضله ومسماه بتدني درجته، لأن الناس متفاوتون في طاقاتهم وهممهم لحديث: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير" (ر. مسلم)، ولا يظن الدارس أن صيغة (الأفضل) هي الحد الأعلى، بل ربما كان الأفضل الصادق المخلص المقل، عن المتثاقل المكثر، حسب الموقف، والتدرج يشمل ثلاث درجات: (الاختيار الإرادي – والاختيار الصالح – والاختيار الأفضل)، ولا يجب أن نقارن الأفضل بالذي هو دونه، فنسمه بالنقص، لأن الأفضل يسبقه الفاضل كذلك، وكذلك ما ينسب إلى الأفاضل من رسل وأنبياء وأولياء من ذنوب، أو معاصي، فإنها لا تكون بنفس الدرجة التي يفعلها العامة والآخرون، لأن هؤلاء الأفاضل معصومون أو شبه معصومين من الذنب والمعصية الصريحة، وإنما يحيط بها النسيان، وعدم العمد وعدم القصد أو الإصرار.
2- الجهد البدني: لا يطلب فيه شدة الألم وقسوة الجهد، لأن الإسلام مبني على اليسر وعدم الحرج، والوسطية، ولا يطلب الجهد لذاته، وإنما يكون بذله حين لا يكون منه بد، كما هو في الجهاد والحروب، وربما يكون في:
1- النجدة: لإنقاذ غريق، أو حفظ حياة إنسان، وما تقتضيه من تضحية، ربما تصل بصاحبها إلى أعلى درجات الفضيلة، لأنها تحتاج نية خالصة، وإرادة قوية، وجهد بدني مغامر.
2- الصلاة: بما تستلزمه من شروط وتكرار وجهد وإرادة ونية وبذل وعمل بدني، والتزام في أحلك الظروف برداً وشتاءً، وصحة أو مرض في سفر أو حضر، يقارب ما بذل في النجدة.
3- الصوم: إذا لم يكن الألم والمشقة موضوع تكليف مباشر، لكنه ناتج عن مستلزمات بعض الواجبات الأخلاقية والدينية، مثل فريضة الصوم، كما أن من نتائجها التحرر من استرقاق الشهوات، لأنه لو فعل وبقي منغمساً في الآثام لم ينفعه هذا الإمساك، لأن الصوم هنا باعتباره واجباً فريضة، وباعتبار آدابه شروطاً لتمام الأجر وكمال الالتزام، كما في الحديث: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"
(ر. البخاري). لكن الصبر والتحمل مطلوب في حالات غير هذه الفرائض الدينية والعملية مثل:
1): صبر وعطاء: أيهما أفضل لو قارناهما ببعضهما، لكن في الحقيقة لا مقارنة، لأن لكل حالة ظروفها وحيثياتها، فليس الفقر مطلباً، كما أن الرفاهية الزائدة ليست الأفضل، لأن شروط كل من هاتين الحالتين تعتمد على الظروف التي تحفظ للقلب سلامته، وللسلوك وجاهته.
2): عزلة واختلاط: أيهما أفضل، فإن الاختلاط أفضل لما فيه من فوائد نقدمها لمن نختلط بهم، لكن في حال الاضطرابات تكون العزلة أولى لما فيها من تجنب الفتنة أو التعرض لها، لحديث: "المسلم إذا كان يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" (الترمذي)، لكن العزلة المباحة هي ما كانت للجوء إلى الله وتصفية النفس من مشاغلها، كقيام الليل، والاعتكاف، والتحنث.
3): جهد وترفق: يشمل الحالتين الأولى: (وجاهدوا في الله حق جهاده) (الحج/77)، وقوله: (فاتقوا الله ما استطعتم) (التغابن/16)، وفي حالة الضرورة يمكن تجاوز الوضع الطبيعي لقوله: (إلا ما اضطررتم إليه) (الأنعام/119)، لكن التضحية غير الواجبة التي تقتضيها الأخلاق والالتزام، يسجل لها الأجر العظيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصهيب: "أبا يحي، ربح البيع، ربح البيع" (السيوطي)، شرط أن لا يكلف الإنسان نفسه المشقة دون داعٍ لها، لقوله تعالى: (وما أنا من المتكلفين) (ص/86)، وبعض النصوص جمعت بين المجاهدة واليسر، كما في حديث: "إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق" (ر. أحمد).
خاتمة
فالنشاط الأخلاقي والقيمي الذي وجهنا إليه القرآن، هو النشاط الذروة والأفضل حين يكون هذا الأفضل يستوجبه الواجب، ويثمن نشاطنا المتناسق مع اليسر وعدم الحرج، والمعتدل حين تكون التلقائية والاعتدالية هي المطلوبة، ولقد سبق أفلاطون في الاعتراف بان المجال الأخلاقي مقياسه ما يوجبه العقل السليم، بينما أرسطو يضع قاعدة الوسط العادل وهو تجنب الإفراط أو التفريط، والقرآن حدد ما ألهم به هذين الفيلسوفين، بقوله: (واقصد في مشيك، واغضض من صوتك) (لقمان/19)، لكن هذا لا ينطبق على الصدق، الذي يقتضي الكمال الكامل، وقول الحقيقة التامة، ومثل الصدق الأمانة، وإذا كانت قواعد هذين الفيلسوفين لا تنطبق عليهما جميع الفضائل والأمثلة، فإن القرآن لم يضع قواعد تعريفية حدية، لئلا يقع في التناقض التعميمي أو عدم الدقة التي وقع فيها أفلاطون وأرسطو، فتحدث القرآن عن كل مسألة على حدة، ومثله صنعته السنة النبوية كذلك، حيث وضعت الشريعة لكل فضيلة مقياسها النوعي.
خاتمة عامة: لقد علمنا القرآن واجباتنا العملية، وعلمنا كذلك إلى جانب ذلك الجانب النظري الذي يجعلنا نقوم بهذه الواجبات على أكمل وجه ظاهراً وباطناً، وهو مفهوم الأخلاق وطبيعتها ومصدرها وشروطها والوسائل الموصلة إلى نقائها وتمامها، وعلاقتها بالدين، وأن شعائر الدين قليلة جداً إلى جانب قيمه الأخلاقية، التي تشمل كامل السلوك الإنساني، الذي يجب أن يدور في فلك طاعة الله ومحبته، والسعي لكسب رضاه، وهي ليست أخلاق دينية محضة، بمقدار ما هي أخلاق إنسانية وعقلية ونفسية تشكل الشخصية الإنسانية بعامة، في جميع أحواله كإنسان، وعاقل، وحكيم، ومتدين، وحتى من غير أن يكون متديناً، فهو مطالب بتفعيل كرامته التي منحها الله لكل إنسان، وذلك لأن الله الخالق نفخ في روحه ونفسه فطرة إدراك الشعور بالخير والشر، قبل أن يخاطبه بواجباته التعبدية، وهذا ما نلحظه لدى الأطفال، والملاحدة كذلك.
إن الشريعة الدينية لم تأت لنسخ الشريعة الطبيعية، بل لتأكيدها في الفطرة والمعرفة والكينونة، بينما الدِّين جاء ليحثنا على التكامل بين الشريعتين، لتحقيق كمال الشخصية الإنسانية المكرَّمة، والسعي لكسب مصيرها المستقبلي الأبدي في النعيم الخالد، مع عدم نسيان قدسية الالتزام بالواجب الدنيوي في السلوك الفردي والأسري والاجتماعي والإنساني، بما يحوطه من رحمة وعدالة، ومحورها التزام ما يسمى "التقوى"، من خلال الاعتدال والالتزام بأحكام: (الفرض – المباح – المحرم)، في إطار ما يسمى (الثابت – والمتحول)، لتحقيق الطاعة الكاملة، والأخلاق المتكاملة.
الأخلاق العملية
بعد أن غصنا في تركيبة الأخلاق القرآنية، وجدناها تتميز بقيم ذات طرفي المستقيم، متوازنة بين الصرامة والليونة، والعقلية والقلبية، والفردية والاجتماعية، التحررية والنظامية، الواقعية والمثالية، من خلال توازن عجيب، لا يستطيعه فكر بشري، لأن مصدره خالق البشر، ويزهر من خلال تكامل العقل والإيمان، دون أن يوقع الإنسان في الإفراط أو التفريط، الغلو أو الميوعة، وأدلة ذلك من الآيات والنصوص التي تتحدث عن:
1- الأخلاق الفردية: في التعلم والتعليم، والجهد والمجاهدة، وطهارة النفس، والاستقامة، والعفة والاحتشام، وضبط الأهواء، والتحكم في الغرائز، والحلم وكظم الغيظ، والصدق، والتواضع، والتثبت وعدم التسرع، والثبات والصبر، والاعتدال، والصلاح، والتنافس، وحسن الاستماع، والإخلاص.
2- النواهي: عدم القتل، وعدم الانتحار، وعدم الكذب، وعدم النفاق، عدم تنفيذ ما نقوله، عدم البخل، وعدم الإسراف، وعدم الرياء، وعدم الخيلاء والكبر، عدم التفاخر، أو التعلق بالدنيا، عدم الحسد، عدم الزنا والخمر والربا عدم أكل الحرام.
3- المباحات: التمتع بالطيبات، وإباحة الضرورات، والسعي للدنيا والآخرة معاً.
الأخلاق الأسرية
1- الإحسان للوالدين، ولذوي القربى، رعاية الأولاد، رعاية حقوق الأزواج، المعاشرة بالمعروف، احترام الصداق (المهر)، قواعد وشروط تعدد الزوجات، تحقيق المودة والسكن والرحمة، المساواة والتكامل، التشاور الأسري، طرق حل المشكلات الأسرية، التحكيم، الطلاق، العدة، تعويض المطلقة، عطاء الأقارب، الوصية، والإرث.
الأخلاق الاجتماعية
1- المحظورات: قتل الإنسان، السرقة، الغش، الربا، أكل الأموال، خيانة الأمانة، الظلم، الإيذاء، التواطؤ على الشر، الخيانة، شهادة الزور، كتمان الحق، السخرية، احتقار إنسان، التجسس، الغيبة والنميمة، القذف.
2- الأوامر: أداء الأمانة، تنظيم العقود، الوفاء بالعهد، الشهادة بصدق، الشفاعة، التراحم، رعاية الأيتام، تحرير العبيد، العفو، التعاون على البر، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، نشر العلم، العدل والإحسان، الإيثار، شروط الإحسان، ذم الكنز والبخل.
3- قواعد الأدب: آداب الاستئذان، خفض الصوت، تحية الدخول، رد التحية، حسن الجلوس، المناجاة بالخير، الكلام الطيب، استئذان الكبار في المغادرة.
أخلاق الدولة
1- دور الرئيس: مشاورة الشعب، اتخاذ القرار، الحكم بالعدل، إقرار النظام والاستقرار، حفظ الأموال العامة، معاملة الأقليات بالحسنى.
2- واجبات الشعب: طاعة القانون والنظام، الطاعة المشروطة بالشرع، الاتحاد قوة، التشاور، تجنب الفساد، الدفاع عن الدولة والأمة، الاستعداد الحربي، الرقابة وضبط الإعلام، الحذر من العدو.
3- العلاقات الخارجية: احترام السلام، حرية الدين، منع نشر الكراهية، ترك الاستبداد، احترام الحيادية، حسن الجوار، احترام السلام في الأشهر الحرم، الدفاع عن النفس، ومساعدة المستضعفين، ملاقاة الأعداء، الثبات والوحدة، الحذر من مكائد الكفرة، الوفاء بالمعاهدات، الأخوة الإنسانية.
الأخلاق الدينية
1- واجبات نحو الله: الإيمان بالله وبما أنزل من حقائق، الطاعة المطلقة (التامة)، وتدبر آياته، وتدبر صنعه، وشكره على نعمائه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، وعدم اليأس من رحمته، أو الأمن من بأسه، والإيمان بأن كل أمر متعلق بمشيئته، والوفاء بعهد الله، تجنب مجالسة الخائضين في آيات الله، وعدم الإكثار من الحلف بالله، ودوام ذكر الله، وتسبيحه وتكبيره وتعظيمه، وأداء الصلوات المفروضة، وحج البيت مرة على من استطاعه، الدعاء لله، والتوبة إلى الله، والتماس مغفرته، وأن يكون حبه فوق كل شيء.
أمهات الفضائل الإسلامية
الإيمان بالله وأركان الإيمان الستة، وأداء العبادات الخمسة (أركان الإسلام)، التوكل على الله حق التوكل، والصبر على الضراء، والشكر على السراء، التحلي بصفات عباد الرحمن، التقوى الحقة، والتوبة الدائمة، الحب الخالص لله ورسوله وكتابه ومنهجه القويم، والتحلي بحسن الخلق، والعمل بكتاب الله وسنة رسوله، والتعاون على البر والتقوى، والعفة عن كل محرم، ونصرة دين الله ونشره بين الناس قدر المستطاع.
انتهى تلخيصه 26/10/2025م مع التدقيق.