ملاحظات عن البدو والوهابيين
جون لويس بوركهارت / الجزء2
مختصر سيرة المؤلف:
سويسري أوفدته الرابطة البريطانية إلى الشرق، بعد تعلمه اللغة العربية بإتقان في مدينة حلب، انتحل شخصية الرجل الشرقي، وأعلن تركه المسيحية ودخوله في الإسلام، وتسمى " إبراهيم بن عبد الله " وتنقل في مناطق الحجاز، ومتن علاقته بمحمد علي باشا باسم الدين، أدى الحج برفقة بعثة الحج السورية، ثم توفي ودفن في القاهرة أواخر سنة 1815م.
ذكر المؤلف أسماء القبائل وفروعها وتوزعها من أراضي الحجاز إلى سيناء والعقبة ومصر وسوريا وسائر الجزيرة العربية، ويذكر المؤلف كيف أن بعض هذه القبائل رفضت دعوة ابن سعود لإخضاعها، فاستعان على بعضها بتحريض جماعات السلب والنهب عليها، لأن هؤلاء الرافضين كان بعضهم يعترف بالسيادة الاسمية لشريف مكة، وتعاونوا مع باشا مصر أثناء حملاته على المدينة المنورة، عام 1812م .
بدو القصيم وبعض نجد موالون للوهابي، وبنو (يقصد أتباع ) حسين تعهدوا باعتناق المذهب الوهابي، لكنهم في السر موالين للفرس، أو المذهب الشيعي، وبني عقيل شديدي البأس، ويمتد تواجدهم من نجد إلى بغداد، وهم مناصرو الباشا ضد الوهابية، وتجمع بنو " حرب" يمكنه ضم ثلاثين إلى أربعين ألف مسلح، وهم سادة الحجاز، وكانت آخر القبائل التي استسلمت للوهابيين، وهم يقومون بحملات سلب ونهب، تصل إلى أنحاء حوران بالقرب من دمشق، بينما قبيلة " مزينة" التي تشكل خمسمائة خيال، وألفي مسلح ببندقية، كانوا من أوائل من اعتنق المذهب الوهابي، وكثير من القبائل على طريق الحجاز تأخذ إتاوة من قوافل الحجاج السورية والمصرية، تصل إلى (ثمانية آلاف دولار).
الحرب جنوبي المدينة المنورة: بعضهم كان يناصر الأتراك وباشا مصر، ثم تحول مع الوهابيين، أما قريش فلم يتبق منها سوى ثلاثمائة رجل من حملة البنادق الفتيلية، يخيمون حول جبل عرفات، ولم يعد لهم وزن كبير عند البدو، وفي الطائف من قبيلة ثقيف وقبيلة هذيل، وكان لهم ألف بندقية، لكن الوهابيين قتلوا منهم ثلاثمائة حتى أخضعوهم، وثقيف دافعوا عن الطائف في وجه الوهابيين، وباتجاه الجنوب قبائل قحطانية، ومنهم " بنو يام" في وادي نجران، وهم شيعة وعجز الوهابيون عن إخضاعهم، وقبائل عسير كثيرة العدد، تجمع خمسة عشر ألف رجل، مع كل منهم بندقية فتيليه، ومن هنا تبدأ أراضي اليمن وقبيلة حاشد، وعمران، وسفيان، وحمدان، إلى صنعاء، وأغلبهم يعمل بالزراعة.
والخيول قليلة في الجزيرة العربية، لعدم توفر العشب، ولهذا كان جيش الوهابيين الذي هاجم محمد علي باشا 1815م يشكل خمسة وعشرين ألف مقاتل، معهم فقط خمسمائة خيال، كلهم من نجد، وبحضور أحد أبناء سعود وهو فيصل، على أن جو اليمن غير ملائم للخيول، وأجود الأجواء لها أجواء سوريا، خاصة في حوران، - ويقول الكاتب: " أنا أنصح الدول الأوربية الكبيرة، أن يكون لهم ممثلون مؤهلون تأهيلاً جيداً، لكي يقوموا بشراء الخيول من سوريا" – وأن يقيموا بدمشق، وبشرائهم للأصيل منها يساعد في تحسين وتأصيل السلالة الأوربية.
مقدمة: عن الوهابيين
أثناء مقامي في الحجاز، كانت المنطقة مغلقة أمامي بسبب الحرب بين الوهابيين ومحمد علي باشا، وأهل نجد هم أدرى بهذه الأحداث، أما أتباع المذهب من البدو العامة، جاهلين المغزى الحقيقي للمذهب، وبإيجاز: عقيدتهم العودة لأصول الإسلام في تنصيب القائد الديني والسياسي للأمة كما فعل خلفاء محمد، ومحمد بن عبد الوهاب، وهو من بني تميم، من الحوطة، التي تبعد خمسة أيام عن الدرعية، لاحظ فساد عقيدة الناس في المشرق، والسواد الأعظم منهم وبخاصة الأتراك " يمكن إدراجهم ضمن الكفار" فكان المؤسس الأول لفكر الوهابية، لكن الناس لم يلقوا بالاً لابن عبد الوهاب وآرائه، فتراجع إلى الدرعية، وكان أول من تبعه بأفكاره " محمد بن سعود" وهو المؤسس الأول للدولة السعودية، وزوجه ابنته، وابن سعود من عشيرة المساليخ العنزية، ولقبها قبيلة المقرن، ومع توسع نفوذ آل سعود توسع انتشار المذهب الوهابي، ولم تكن دعوة ابن عبد الوهاب سوى دعوة تجديدية، في صفوف البدو الذين لا يعرفون من إسلامهم سوى الاسم فقط، لكن الأتراك نظروا إلى هذه الدعوة التي تكفرهم بريبة شديدة، فبادلوها التكفير في المقابل، وحذروا الناس منها، وفعل الشيء نفسه الشريف غالب شريف مكة، العدو اللدود للوهابية، وكان موقف باشوات بغداد ودمشق والقاهرة متساوق مع الدولة العثمانية، في التحذير من مخاطر دعوة ابن عبد الوهاب، خاصة أن قوافل الحجاج من هذه البلاد تنقل أخبار تعسف وتشدد وسوء معاملة جنود ابن عبد الوهاب لهم في طريق حجهم، وهم من البدو، عدا قلة من النابهين السوريين والمصريين، الذين حاوروا علماء الوهابية واقتنعوا بأنه الإسلام الحقيقي، لكن مقال كاتب مثل م. روسو عن الوهابية وأنهم أصحاب دين جديد، استقى معلوماته من بلاط آل سعود في الدرعية، نشر مقالته في بغداد وحلب، فأحدث ضجة لدى الناس عن هذا المذهب، لكن تبدلت النظرة إليه بعد استيلاء ابن سعود على " مكة المكرمة" ووزع نسخاً من كتاب الوهابية على تلاميذ مدارسها، وكان ابن سعود لديه فكرة ساخرة مفادها أن اهل المدن تربوا على جاهلية تامة بالدين، وعندما أدرك أن أهل مكة كانوا أكثر علماً ومعرفة من أتباعه، توقف عن نشر تعاليمه بين المكيين.
وفحوى الخلاف بين الوهابيين والأتراك هو فيما يأتي:
1- مغالاة الأتراك في النبي، ورفعه لمقام فوق البشرية، والدعاء له والاستغاثة به كأنه معبود.
2- المغالاة في تقدير وتعظيم المشايخ أو الأولياء، إلى درجة القداسة، وتقديس قبورهم وقبابهم، وهذا ما دفع الوهابيين إلى تدمير القباب والقبور المشيدة، في الحجاز واليمن وبلاد الرافدين، وفي مكة لم يبق قبر واحد منها، ودمرت قباب قبر النبي صلى الله عليه وسلـم وقباب حفيديه الحسن والحسين، وعمه أبو طالب، وزوجته خديجة، وما دعم آراء الوهابيين وقوى حججهم، الانتهاكات المريعة التي كان يمارسها الناس في قوافل الحجيج، بمساندة الأتراك وغض الطرف عنها، وخاصة الممارسات الداعرة، والوهابيون يريدون الرجوع إلى النقاء الأخلاقي الذي دعا إليه الإسلام، وكان هديه القرآن والسنة، ولهذا أرسل ابن سعود بعض العلماء إلى الأزهر أيام محمد علي باشا، وتحاوروا مع علمائه وتوصلوا إلى أن دعوة ابن عبد الوهاب هي دعوة الإسلام لا فرق، لكن كثيراً من أفكار الوهابية يعرفها الملتزمون من الأتراك، لكن تشدد الوهابية في بعض الفرعيات جعل منهم أنداداً للآخرين مثل حربهم على القبور، وتشددهم في اللباس، وشرب الدخان، والتحلي بالحرير والفضة ولو كان قليلاً، مع أن علماء الأتراك يحرموا الدخان كذلك، والمالكية يجعلوه مكروهاً، ومع ذلك سمحوا باستعمال الغليون، وحرموا استعمال المسبحة، لكن ما شغل بال محمد بن عبد الوهاب هو جمع العرب على سلطة دينية شبيهة بما كان في العهد الأول (النبوي)، وحتمية رئيس أعلى في المسائل الدينية، توضحه الشريعة بكل صفحاتها، لكن القبائل كانت في صراع فيما بينها، حروب وغزوات السلب والنهب، جعل مركزية نجد، المقر الرئيسي للقوة الوهابية، تحكم سيطرتها على بعض المناطق التي سيطر عليها عبد العزيز بن محمد بن سعود، وتلزمها بمذهبه الجديد، بعد معارك صعبة، وأصبحت سلطته عليا في كل المنطقة، شبه سلطة أتباع النبي الأولين.
وأخذ ابن سعود شيوخ القبائل باللين، على سجيتهم باستثناء الالتزام بالمذهب الوهابي، ودفع العشور، ودعم النظام الجديد، والمشاركة في حروبه على الكفار، ومنع التخاصم بالسلاح بين القبائل المنتمية لسلطانه، والنزاع بينهم يحكَّم عن طريق قضاء ومحكمة بينهم.
سعود وعائلته:
سعود كبير دعاة المذهب الجديد الابن الأكبر لعبد العزيز الذي اغتيل عام 1803م، توفي سعود عام 1814م، وكان العرب يمتدحون حكمته وحكمه، وكان ضليعاً بالشريعة، أنجب ثمانية أبناء، أكبرهم عبد الله، الذي استلم بعد أبيه، تزوج من عرب الزاب من الإحساء، من أخوانه فيصل الذي خاض معارك كثيرة ضد الأتراك، وأنجب سعود من زوجته الثالثة ثلاثة أبناء، عمر، وإبراهيم، وفهيد، وكان لسعود عدداً من العبدات الحبشيات، وإن شئت فقل المحظيات، وكانت عائلته وأخوانه في منزل كبير على منحدر جبل، في الدرعية، وكان حراس منزله من المصريين، وكان له مجلساً خاصاً ثلاث مرات في اليوم يقابل الناس المسموح لهم، أو يكون مجلس علم وقرآن وحديث، يشارك هو فيه أيضاً، لكنه كان ينفعل ممن يخادعه من الزوار فيهوي عليه بعصاه ضرباً، ثم يندم على ما فعله، ويتمنى لو منعه أحد بتدخله من هذا الانفعال والضرب، ويشكر من فعل، وكان لا يغادر منزله إلا نادراً أو لصلاة الجمعة، خوفاً من الاغتيال، ولهذا ظل يلبس درعاً تحت قميصه، ويروي أهل مكة أنه لا يطوف في المسجد الحرام إلا بحاشية كبيرة من الحراسة، وفي مجلسه يبث أبناءه الصغار بين الناس لينقلوا إليه ما يدور منهم من أحاديث، وكان يمتلك أكثر من ألفي حصان، وبعضها أخذت من أصحابها عقاباً أو غرامة على سوء تصرف، وبعضها شراء، وسمح لكل واحد من أبنائه أن تكون له حاشية تضم حوالي مائة وخمسين خيالاً، بينما عبد الله كان لديه ثلاثمائة خيال، ويصل عدد آل بيته وخدمه وزواره يومياً حوالي 400- 500 شخص، يطعمهم الأرز والبرغل والتمر ولحم الضأن، بينما عامة الناس يقدم لهم البرغل والتمر، وكان لا يحتفل بأمر الاحتفال بالختان لأنه ليس من الإسلام، وعندما تزوج ابنه فهيد ابنة عمه، دام العرس ثلاثة أيام، قدم والد الفتاة، -شقيق سعود- للمحتفلين بالعرس لحم أربعين ناقة، وخمسمائة رأس من الغنم، واليوم الثاني ذبح سعود لضيوفه مائة ناقة وثمانمائة رأس من الغنم، وفي اليوم الثالث، استضاف شقيق له الضيوف جميعهم.
الحكم الوهابي:
أرستقراطية على رأسها عائلة سعود، قسم ممتلكاته محافظات على رأس كل منها قبيلة بدوية كبيرة يرأسها شيخ كبير، استحق منصب أمير الأمراء، منها الإحساء وعاصمتها الدرعية، والحرمين (مكة والمدينة)، والحجاز بما فيها بدو جنوب الطائف واليمن، وابن سعود ارسل من طرفه قضاة إلى هذه المناطق لتطبيق العدالة، وسلطة الأمير فيها محدودة، كشيوخ البدو سابقاً وأقل، على أن يوفر لابن سعود الجنود والقوات لجيشه، ومساعدة جامعي الزكاة، وفي حالة السلم لا يشاور ابن سعود سوى أولاد الشيخ الوهابي وأفراد أسرته، لكنه يحذر من إغضاب البدو من أن يستبد بهم خوفاً من تمردهم عليه، لأن البدوي شديد الشعور بكرامته وحريته، فيحاول سوسهم عن طريق شيوخهم بحجة الدين والصالح العام للحكم الذي أصبح وراثياً في آل سعود (1816م) وليضمن ولاء البدو له كان يأخذ منهم اليمين على الولاء له ولولد معين ولي عهد له، كبيعة في عنق شيوخ القبائل، مع أن البدو لا يقرون بهذا في أعرافهم السابقة، وهو يعين أو يعزل شيوخ القبائل، لكنه يسمح لهم باختيار شيوخهم الموالين له والتوريث بينهم، ليضمن الاستقرار لحكمه.
إقامة العدل:
استطاع عبد العزيز وابنه سعود تعليم البدو احترام القانون والمحافظة على السلم فيما بينهم، من خلال تمكين قضاة أرسلهم إليهم ليحكموا حسب الشريعة بينهم، ورواتبهم من الخزينة، ولمنع السرقات بين القبائل شرع ابن سعود غرامات على جيرانهم الذين بإمكانهم منع هذه السرقات، بقيمة المسروقات، فصار هؤلاء يحمون جيرانهم فقلت السرقات، فشاع الأمن بينهم، ولكن بقيت عادة الثأر متحكمة في القبائل، وأراد الشيخان الوهابيان الحد منها بأن يكون التحاكم هو المحكَّم فلم يتم لهما ذلك، لكن شدة عقاب ابن سعود جعل البدو تخشى إغضابه، وكان يعاقب المخالفين بمصادرة أموالهم وخيولهم وإبلهم، كغرامات، فتألب عليه الناقمون لهذا، وخاصة أنه ألغى عرف الدخيل، وأصبح البديل للمذنبين وساطة شيخ من أصحاب النفوذ لدى ابن سعود، وكانت عقوبات ابن سعود تتمحور حول أي اتصال بين الموالين له، والآخرين الذي لم يقبلوا مذهبه وسلطته، حتى أصبحت زيارة المدن الكبيرة التي خارج سلطته شبهة معاقبة، لكنه خفف بالنهاية هذه الأوامر، وسمح لأتباعه بنقل التموينات لقوافل الحجاج السوريين، على أن يحصل لنفسه دولاراً عن كل جمل من هذه القوافل، ومنع أتباعه من التجارة مع سوريا وبغداد عام 1810م، وفي حال خالف أحدهم تصادر بضاعته لصالح الخزانة العامة، بينما تجار مكة الأثرياء لم يكن يحكمهم هذا القانون، ومن يتسبب بإغضاب ابن سعود في مخالفة، تكون مصالحته له، بأن يشارك في الحملات التي يقوم بها على أعدائه، ومن العقوبات المستخدمة عند ابن سعود لبعض المذنبين أو المتمردين هي حلق لحية الشخص، فيكون ذلك عليه عار لا ينسى، لكن أحد شيوخ قحطان حكم عليه بحلق لحيته، وكان ابن سعود يرغب في شراء فرس شمري رفض صاحبها بيعها بأي ثمن، فقال القحطاني للأمير السعودي دع لحيتي ولك فرس الشمري، فتركه يذهب ليساوم صاحبها، على ألفين وخمسمائة دولاراً، وأقسم صاحبها أنه لولا فداء لحية القحطاني لما تخلى عن فرسه مهما كان الثمن، مع أن سعود كان يرفض في كثير من الأحيان العروض المالية، لقاء توفير حلق اللحية.
ومن العقوبات الوهابية المؤسسة على القرآن والسنة:
إجبار السارق على رد ما سرقه، إذا لم يرافقها قتل أو عنف، أو إيذاء، والقاتل يقتل، إلا إذا كان القتل بما لا يقتل عادة، فتدفع الدية فقط، واتهامات السب والقدح تقدر بقدرها، والقيود الحديدية تستعمل مع أفراد الطبقة الدنيا من الناس، أما الأعيان فيحبسوا في قصره، حتى يدفعوا ما عليهم من أموال، وكانت عقوبة ترك الصلاة عدة مرات، ضرب التارك لها بالعصا، وحاول التقليل من عادة الطلاق والحلف به، كما منع التدخين العلني، مع أن أتباعه كانوا يدخنون سراً في مخيماتهم ليلاً، وحرم ابن سعود التجارة مع المسلمين الكفرة، وحرم التعامل بالربا، لكنه لم يمنع الاحتكار خاصة في سني الجفاف، مستنداً إلى أن الإسلام أباح الربح بالتجارة، وكانوا يتعاملوا بالدولارات، ويستقذرون العملة التركية، ويرمونها على الأرض.
الإيرادات والدخل: تأسست على نظام ما كان يفعله محمد صلى الله عليه وسلـم في زمنه:
1- خمس الغنيمة التي يجري الاستيلاء عليها من المخالفين في الحروب. [ يؤكد المؤلف أن محمداً كان يأخذ خمس الغنائم، جاهلاً بأن هذا الخمس لا يأخذه النبي لنفسه، وإنما هو نصيب بيت مال المسلمين يوزع على آل محمد، وفقراء الأمة، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل ] الملخِّص.
2- الصدقات، والزكوات، التي تأتي من البدو يدخلها سعود في خزانته الخاصة، وما يأتي من المدن والفلاحين، تذهب إلى الخزانة العامة، (بيت المال)، فإذا كذب أحدهم في الكشف عن أمواله، يعاقب بمصادرة أمواله أو بعضها، وهذا ما نقم البدو عليه، لأنهم لا يعترفون بالضرائب لأحد.
3- القسم الأكبر من مداخيل السلطة الوهابية، ممتلكات سعود الخاصة من أراضي القبائل التي تمردت عليه، يخربها
في التمرد الأول، ويصادرها في التمرد الثاني، ويوزعها على آخرين، أو يتركها بأيدي ملاكها لقاء تقديم ثلث أو نصف إنتاجها، ويصبحوا فلاحين لديه، وقد يعدم بعض الضالعين في تمردهم عليه، أو يهربوا، وقد فعل مثل هذا في مناطق الحجاز، التي ناصرت محمد علي باشا، وإلى يومنا هذا كثير من الأملاك في هذه المناطق هي للخزانة.
4- الغرامات المالية التي تكون بسبب عصيان أو بهتان، تذهب للدولة، وفي كل منطقة بيت مال خاص يشرف عليه شخص من طرف ابن سعود، ولا يسمح لشيخ المنطقة بمسها، وهي توزع أرباع الأول للخزانة في الدرعية، والثاني للفقراء وأجور العلماء والمعلمين، وإصلاح المساجد، والنصف للجنود الفقراء، وضيافة مضافة شيخ المنطقة، ويحصل شيوخ العرب كل عام على هدية من الخزانة العامة في الدرعية، وقدرها (50 – 300)دولار أسباني، ويعطى جباة الزكاة 75دولاراً إسبانياً، وفيهم من يذهب لجمع الزكاة من الصحراء السورية، ومرة جمعت الزكاة من بدو المحيطين ببغداد عام 1812م في منطقة مسماها "هندى" وفي نفس السنة دفع عرب الجلاس زكاتهم عند مسقى يبعد اثني عشر ميلاً عن مدينة حلب، وابن سعود يتكفل بمصروفات حرسه وقصره من خزانته الخاصة، وهو يتعامل بجشع كبير مع رعاياه، ويتهمه العرب بأنه إذا أعجبه فرس أحدهم، فإنه يختلق لصاحبه حجة واهية ليستولي على فرسه، ويتهمه العرب بالاستيلاء على مغانم مقام الإمام الحسين، وأنه نهب مدن اليمن، وهذا ما جعل مقاومته من القبائل كبيرة ومبكرة، وهو يعترف ببعض أخطائه تلك، ويذكر خصومه، أنه لولا هذا الجشع والأخطاء لشق الدين طريقه إلى القاهرة والقسطنطينية، وهناك مبالغات في بعض هذه الأقوال، وصرح لي بعض المقربين من ابن سعود من أهل مكة أن أكبر مبلغ أودع في خزانة ابن سعود العامة كان مليوني دولار أسباني، في أحد السنوات، ومليون كل سنة، واضطر أخيراً ابن سعود ووالده إلى ترك العرب أحراراً، لأن العرب يصعب استسلامها لأي حاكم مطلق، أو غازٍ أجنبي، والعرب تطيع القانون، ولا تطيع ابن سعود.
الشئون العسكرية الوهابية:
لم تكن طريقة الوهابيين والبدو مختلفة في قتالهم لأعدائهم، لعدم وجود جيش نظامي، سوى مائة مقاتل في الدرعية، وعندما يرغب ابن سعود ووالده، القيام بحملة حربية، يطلب من شيوخ القبائل البدو، أو القرى، توفير عدد معين من قبلهم من أصحاب الركاب والخيول لحملته، في موعد ومكان محدد، فتتكون مجموعة حالاً، ومجموعة أخرى تكون تحت الطلب حين اللزوم، بأعمار تبدأ من 18 – 60 سنة، وكل من يملك فرساً عليه المشاركة، ومن تقاعس قام الشيخ الوهابي بالاستيلاء على فرسه، أو جمله، أو بعض أغنامه، على سبيل الغرامة، وكان سعود قاسيا في مسألة الغرامات، وهذا ما دفع أصحاب الخيول إلى بيعها، للتهرب من المشاركة في القتال، وكان يفتش على من يتهرب، بحيث اضطر كل من يقدر على الحرب إلى الحضور، والفقير منهم يزوده بالإبل والسلاح، عن طريق أغنياء قبيلته، أو من بيت المال، وإذا كانت الحملة بعيدة، كالتي جردها على دمشق عام 1810م فيطلب لها صفوة الخيَّالة والجمَّالة، واحد من كل عشرين، والمؤن تكون تكفي 40 أو 50 يوماً، يدفعون أثمانها من أموالهم، والبدل عن الذهاب إذا سمح به يكون بدفع 8-10 دولارات إسبانية، والمؤنة للجندي تكون بمقدار (مائة رطل دقيق + خمسين رطل تمر + عشرين رطل من الزبد + جوال قمح أو شعير للجمل + قربة ماء)، وكل الوهابيين جنود يمكن للشيخ استدعاؤهم للخدمة في أي وقت، وفي أسبوعين يمكنه تكوين جيش بقوات ممتازة، وأصبحت الحرب ضد المخالفين في الشمال مشروعه من البصرة إلى سوريا، مع أنهم لا يرغبون في مد نفوذهم خارج الجزيرة العربية، لكنهم كانوا يغيرون على العراق، وبلاد الرافدين، وسوريا، بهدف السلب والنهب، وكان هؤلاء المعارضين عرضة لتدمير حقولهم، والقضاء على نخيلهم، والاستيلاء على ماشيتهم، وهذا ما دفع شريف مكة، لتشكيل فرق كثيرة لمقاومة الأسرة السعودية، وهذا ما دفع كذلك قبائل كانت متحالفة مع ابن سعود اضطراراً، وهم بعيدين عن مركز سلطته، إلى التقاعس في إطاعة أوامره لعدم قناعتهم به ولا بمذهبه، وهم قبيلة الشمر، وقبائل الحجاز، واليمن، وهنا حاول ابن سعود أن يستعطفهم، فأعلنوا تمردهم علانية، فأباح لجماعته أن هؤلاء الأعراب أصبحوا أعداء، وأن كل من يستطيع الهجوم عليهم دون أوامره ليفعل، وهنا شن حملات سريعة ضدهم، وأعاد إخضاعهم له، وبعض القبائل القوية النائية، قبلت المذهب ورفضت دفع الزكاة له، ومنهم العنزة، وكان ابن سعود يواصل استرضاءهم بالمراسلات، وكان يقوم بحملتين أو ثلاث في العام، وبخاصة في المناطق المجاورة للبصرة الغنية بالماشية والتمور، وكانت قواته تعبر الفرات، تنشر الرعب والفزع في بلاد الرافدين، ولم يكن يقود هذه الحملات بنفسه، وإنما يرسل واحداً من أبنائه، أو أحد الشيوخ المرموقين، أو العبد الأسود المدعو " حرك"
التكتم والسرية:
وكان يتكتم في وجهة تحركه، ويخادع أعدائه على الدوام، ومن ذلك حملته على حوران سوريا، لم يشعروا به إلا قبل يوم أو يومين، ومسيره كان 35 يوماً، وبهذا استطاع سلب ونهب وتدمير خمس وثلاثين قرية من قرى حوران، قبل أن يباشر باشا دمشق بالعملية الدفاعية، وكان يحرس نفسه بشكل جيد جداً، من قبل فرسان شجعان يختارهم لهذه المهمة، يرفدهم بالمال والمؤنة السنوية، والزبد والتمر، والذلول، والسلاح، ويرافقه هؤلاء في حله وترحاله، ويصل عددهم إلى ثلاثمائة رجل، ومدرعون بالدروع، وخيولهم ملبدة بالجلود واللباد الذي يصعب اختراق الرماح له، ولا يجبر أحداً على حراسته ليضمن ولاءهم، وأضعف قوة القبائل حين ضم عقداءها (عكيد) إلى خدمته، وحملات الوهابيين طوال السنة بما فيها شهر رمضان، وخاصة شهر ذي الحجة، وأمتعة سعود في سفره وحملاته وحجه يحملها مائتا جمل، وتتقدم حملته سرية من ثلاثين خيالاً، ويبشر من يقتل في معاركه بالجنة، والوهابيون لا يدعون مسلحاً في معاركهم إلا قتلوه، سواء كان من (جنود سوريا، أو جنود بلاد الرافدين، أو جنود مصر) وحتى عرب القبائل التي تعارض حكم الوهابيين، أو تتمرد على سلطانهم، ولم يحدث أن ترك الوهابيون جندياً واحداً من جنود محمد علي باشا حياً، وبعد الاستيلاء على كربلاء (ومشهد الحسين) والطائف، قام الوهابيون بذبح السكان الذكور جميعاً، وهذا التوحش والخوف هو الذي سهل عملية نشر المذهب الوهابي، وسعود يعطي الأمان لمن يستسلم طواعية، شرط تسليمه الخيول والإبل كلها، والدروع والحراب والسيوف والأوعية النحاسية كلها، غنيمة، عندها يدع لهم ما تبقى، وإذا أبرم صلحاً مع قبيلة، يروح بشيوخها إلى الدرعية، أو قريباً منها، ويزودهم ببعض المؤن، ويختار شيوخاً آخرين مكانهم في القبيلة، ذووا ولاء له، ولأنه أراد ضمان ولاء أهل المدينة المنورة بعد فتحها، وضع فيها حامية خاصة دائمة، من بدو نجد واليمن، وزودهم ببنادق فتيلية، وسبعة دولارات أسبانية شهرياً، ودقيق وزبد، وهم من خيرة جنوده.
استيلاء الوهابيين على المدن المقدسة (مكة والمدينة):
لم أعثر على كتابة تؤرخ لهذا الاستيلاء، مع أني كنت قريباً من هذه الأحداث، بعد سيطرة الوهابيين على مناطق شاسعة في صحراء العرب، وانتشار مذهبهم الديني، كانوا حذرين من التعدي على حكومة بغداد، أو حكومة الحجاز، لكن تدخلات الوهابيين في شؤون القبائل أثارت غضب أمير مكة " غالب "، فدخل في حرب معلنة على الوهابيين، بمساندة قبائل البجوم، وبني سالم في بيشة، وقبيلة غامد في الظهران، وبدو حول الطائف، واستولى غالب على مكة واستعادها، وكان يراسل الباب العالي في الدولة العثمانية، ويخبرهم بما يصنعه الوهابيون من ذبح العرب، وأخذ ضرائب كبيرة على المرور للحج، فجهز حاكم بغداد سليمان باشا التركي (وكان ذا سمعة حسنة في عدله وشجاعته) جيشاً قوامه خمسة آلاف مقاتل، ومثلها من قبائل بني شمر، وظوفر، واتجه بطريق الساحل إلى الدرعية، لكنه مر وتوقف وحاصر قلعة الإحساء، ولم يستطع فتحها شهراً، وعندها جاء مدد ابن سعود فقرر الأتراك الانسحاب، والتراجع، خوفاً من المباغتة بعد هذا التعب، فوقع الطرفان هدنة سلام مدتها ست سنوات.
لم تدم الهدنة طويلاً حتى خرمت من أعراب العراق، بالعدوان على قافلة حج فارسية، مما أثار الوهابيين فانطلقوا يعيثون فساداً في بالبصرة وما حولها، ونهب قبر الحسين وكنوزه، وهدمت قبته، وذبحوا حوالي خمسة آلاف من الرجال، ونهبوا ممتلكات السكان، حتى تصدى لهم عرب الزبير، وسكان مشهد، فحمل الوهابيون غنائمهم ورحلوا، وفشلت حملة أخرى من بدو قبائل الشمال والعراق مع بعض الجنود الأتراك وقتل غالبهم بعد اغتيال قائدهم المدعو " الثويني".
بدأ عبد العزيز والد سعود في عام 1801م هجومه على الحجاز، واستسلم كثير من عرب الطائف له، وباتجاه الجنوب، وضم إليه نسيب شريف مكة لعدائه مع غالب، وحاصر الطائف قائده عثمان المضايفة، ودمر كثيراً من عمرانها، وقتل جنوده الصغار والكبار من أهلها، (مذبحة)، وأكمل الوهابيون الاستيلاء على الحجاز عام 1803م، وحوصرت مكة أشهراً حتى قطع عنهم الماء، وأكل أهلها القطط والكلاب، فانسحب الشريف غالب إلى جدة خفية، فدخلها سعود وزعم أنه رأى الرسول في الحلم، يوصيه بأهلها، وتحول أهل مكة إلى المذهب الوهابي، ولحق سعود الشريف غالب إلى جدة، فصمدت في وجهه، وأغراه غالب بمبلغ خمسين ألف دولار إسباني، فانسحب وترك له مكة من جديد، ثم سيطر الوهابيون على المدينة المنورة، وكانوا يتعقبون من يتغيب عن الصلاة في المسجد، ولما دخل سعود المسجد النبوي جرده من التحف الذهبية المهداة للضريح، وحاول هدم القبة فوق القبر، وحلقوا لحى الجنود الأتراك، على زعم أنها لا تشبه لحى الصحابة، ولم يكن ذلك سوى لإظهار احتقارهم للأتراك، ومنعت الأدعية التي فيها شبهة الاستغاثة بالنبي، وقام الوهابيون بسلب مدينتي (لوحية – والحديدة)، وكان الشريف غالب يرشي سعود عند قدومه للحج إلى مكة، بقافلة كبيرة من الإبل المحملة بالهدايا وأطايب الطعام والحلوى والألبسة، والحرير الموسليني الهندي، ويهدي ضباطه كذلك منها، وامتدت سلطة سعود إلى سائر الجزيرة العربية بالتدريج، وفي أحدى حملاته على البصرة صده عرب العراق وقتلوا من أتباعه ألف وخمسمائة رجل، لكن أحد قواده " الزنجي حرك" وصل في غزواته إلى قرب حلب ونشر الخوف والذعر في السكان، وحول نهر الفرات، كل هذا والباب العالي التركي لا يحرك ساكناً، والخسارة الأكبر للوهابيين كانت في تدمير ميناؤهم المحصن في رأس الخيمة على ساحل الخليج الفارسي، من قبل حملة إنجليزية قدمت من بومباي، وسبب ذلك هو قراصنة سكان رأس الخيمة القواسم سطو على التجارة البريطانية في البحر.
دمشق في المرمى، ومصر غير مبالية:
عام 1810م جرد سعود حملة إلى قرى حوران، بشكل خاطف، قوامها ستة آلاف رجل، فنهب وسلب حوالي خمس وثلاثين قرية، وحرق حقول القمح، واستولى على حيوانات الفلاحين ورجع سريعاً، ومرت به قافلة حج مغاربية راجعة من حجها، فتبادل الهدايا مع قائدها، وقال: المغاربة أناس ملتزمون متدينون، وحاكم مصر الباشا لم يحرك ساكناً تجاه التوسع وأعمال الوهابيين في الحجاز والجزيرة، وهذا كان مستغرباً، وهذا يبين جبن وجشع الحاكم التركي الذي لا تهمه سوى مصالحه، (هذا غمز عنصري دائم من المؤلف تجاه الأتراك).
حملة محمد علي باشا، بقيادة ولده طوسون إلى الحجاز
تولى محمد علي والياً على مصر عام 1805م فكلفه الباب العالي التركي في تحرير الحرمين من الوهابيين، والمكافأة تولية أحد أولاده على دمشق، فاستعد منذ 1809م بسفن لنقل جنوده، فبنى 28 سفينة، (حمولة الواحدة 50- 100 طناً) وحصن قلاعه على طرق ساحل البحر الأحمر، وراسل الشريف غالب محمد علي سراً، للتعاون معه لتحقيق هذا الغرض، رأس الحملة طوسون ابن محمد علي، برفقة أحمد أغا الخازندار، (كان سكيراً) يرافقهم العالمان: (الشيخ المهدي+ الشيخ الطهطاوي) والمشاة البحرية كان تعدادهم ألفي جندي، نزلوا في ينبع، وحملة برية خيالة قوامها 800 رجل، فاستولوا على ينبع واستمالوا بعض القبائل بالرشا والمال، وتوجه طوسون وحملته إلى المدينة عام 1812م، واستولى على مدينة بدر، وفي مكان ضيق من جبال المنطقة وصل عشرون ألف من الوهابيين بقيادة عبد الله وفيصل ولدي سعود، فأحدثوا فيهم مقتلة كبيرة وهزيمة مروعة، (هذا يدل على ضعف استخبارات الجيش المصري) م. ن، لكن محمد علي أرسل أموالاً كثيرة لولده لاستمالة البدو من عرب قبيلة حرب: بني سالم، وبني صبح، واستمالة الشريف غالب، وانضم إليهم أعداداً من قبيلة الجهين، ثم عاود طوسون حملته إلى المدينة بعد فترة، حين قوي جيشه ودخل المدينة، بعد استرخاء وغرور الوهابيين بانتصاراتهم السابقة، فقُتِل منهم ألف وهابي في شوارع المدينة، فاستسلم الوهابيون لوعد الأمان من الأتراك، ثم غدروا بهم، فقتلوهم وشردوهم، وبعدها استولى الأتراك على مكة وجدة والطائف، وانضم إليهم الشريف غالب، وتم ذلك يناير 1813م وعومل أهل مكة بإحسان، كما كان يفعل الوهابيون معهم.
قدوم محمد علي من مصر إلى جدة ومكة بجيش من الأتراك
أسكر النجاح القائد التركي مصطفى بك، فاتجه من الطائف إلى "تربة" شرقاً على بعد ثمانين ميلاً، وهي معقل للوهابيين، فقتل من عساكره فيها (لتحصينها) ما يقارب خمسمائة رجل، وفي هذه الأثناء أبحر محمد علي باشا إلى جدة ومعه ألفان من الجنود، يرافقه براً ألفان من الخيالة، مع ثمانية آلاف جمل، فوصلها سبتمبر 1813م، فاستقبله الشريف غالب من السفينة، ووزع محمد علي على العلماء والفقراء عطاياه وصدقاته، وخصص مبالغ لترميم الحرم، واستأجر سفناً للنقل من إمام مسقط، وتمنى لو أحضر فرقاطته الوحيدة من الإسكندرية إلى جدة، لكن الحكومة الإنجليزية لم توافق على ذلك، ونفقت آلاف الجمال التي تنقل المؤن من جدة إلى مكة ولم يتبق سوى خمسمائة بسبب قلة الأعشاب، والفول الذي يقدم إليها كان يهرَّب ويباع إلى البدو والعرب، من قبل السائسين المصريين، والغش وعدم الأمانة المتفشية أضعفت جيش محمد علي، وكان الشريف غالب يمكر بمحمد علي، ومحمد علي لا يثق بالشريف غالب كذلك، مما دفع محمد علي إلى الكيد له لاعتقاله، بسبب عدم الوثوق بولائه، فاعتقل، وأحصيت أمواله فكانت ستة عشر كيسا، تحوي مائتين وخمسين ألف جنيه إنجليزي، ونقل الشريف غالب إلى مصر، وأتيح لي فرصة مشاهدته في قنا مصر اليوم الأول من يناير 1814م وكان بروح عالية، ويتحدث باعتزاز، وكان يلعب الشطرنج مع سجانيه الطواشي، ورافقه طواعية ولداه، ولحق به نساؤه ومعهن ممتلكاته بناء على أوامر من الباب العالي، وأسكن في سالونيكا التركية مع أسرته، وأجري له راتب يليق به، وتوفي فيها بالطاعون سنة 1916م، بعد حكمه لمكة دام 28 عاماً، وكان داهية وشجاعاً بكل معنى الكلمة، وكان اعتقاله خسارة كبيرة لمحمد علي، حيث فقد مصداقيته عند العرب والبدو وأعداء الوهابيين، فكان تصرفه إحدى الأخطاء الكبرى، التي أضعفت موقفه في الحجاز، والجزيرة العربية.
استيلاء ممد علي على "تربة" و"القنفذة"
عرب البجوم في مدينة تربة، ترأسهم امرأة مسنة قوية تدعى "غالية" وهي وهابية وثرية، ومائدتها تستوعب شيوخ الوهابية عند اجتماعاتهم، وهذا ما دفع طوسون إلى القيام بحملة من الطائف للاستيلاء على تربة، لكن مناوشاته على الطريق إليها مع بدو العتيبة، أنهكت جيشه فخسر فيها مئات من جنوده وإبله، فانسحب إلى الطائف مهزوماً، وفي شهر نوفمبر 1813م وصلت قافلة الحجاج السورية يقودها سليمان باشا الدمشقي، وقوافل آسيوية أخرى وتركية ومصرية أنعشت تجارة سكان الحرمين، التي حرموا منها لسنوات الحكم الوهابي، وجاء مع قوافل مصر آلاف الجمال والمؤن للباشا، فخطط لاحتلال ميناء قنفذة الذي هو في سيطرة أتباع الوهابيين من قبائل عسير، فاستولى عليها مارس 1814م دون قتال، لكن عدم تحصين هذا الانتصار دفع الوهابية إلى حملة عشرة آلاف وهابي استردوا القنفذة وأوقعوا مذبحة برجال محمد علي، وبعدها وصلت قوة جديدة ألف وخمسمائة جندي مشاة من مصر بقيادة حسان باشا، وتصادف وصولي (المؤلف) إلى جدة قادماً من سواكن (السودان)، وكان الغلاء متفشياً بحيث لا يكفي الجندي المصري ما يأخذه من راتب لتلبية حاجات طعامه وشرابه، فاضطر بعضهم لبيع ملابسه وسلاحه بسبب ذلك، أو التفكير بالهرب والعودة إلى مصر، وقد مررت ورأيت بنفسي بعض هؤلاء الجنود (ثلاثين منهم) مقيدون بحبل طويل، في طريق جدة مكة، بالإضافة إلى الجو المتعب والممرض الشاق في هذه المنطقة، وخوف محمد علي باشا أن يعزله السلطان العثماني إذا لم يحقق نصراً في الحجاز، أعد خطة واستمال كثير من قبائل المنطقة، (من هذي+ وثقيف+ وبني سعد+ وبعض العتيبة) بالمال والحسنى، والصبر، وبحكم ترددي على مركز الرئاسة في الطائف كنت أرى شيوخ القبائل يفدون عليه للانتساب إلى قوة محمد علي والحصول على منح مغرية وأموال، وكثير منهم كان يخبر الوهابيين بهذه الأمور، وأحدهم قال لمحمد علي: " تخليت عن دين المسلمين، واعتنقت دين محمد علي" فضحك الجميع، وشدد محمد علي على جنوده في مسألة مضايقة السكان أو ظلمهم، فخف حقد العرب على الأجانب.
في شهر مايو 1814م توفي سعود، فخلفه ولده الأكبر عبد الله ابن سعود، ودب شيء من الخلاف بين الأشقاء والقبائل بعضها مع بعض بعد وفاة سعود، وخاصة الجنوبيين.
مذبحة بحرة، وهزيمة الظهران في الأتراك
كان يقدر عدد من تحت امرة الباشا سبتمبر 1814م حوالي عشرين ألف رجل، مع خدم آخرين مرافقين للجيش، يخدمون هذه القوات في تجهيزاتها الحياتية اليومية، وكان يأتي يومياً دعم من القاهرة لهذه القوات، لكنه كان يخشى على حكمه في مصر، من المماليك في دنقلة، أو من القسطنطينية، أو من إنجلترا، وبخاصة هذه الأخيرة، وعند سماع المتطوعين من ألبانيا، وروميليا، وساحل آسيا الصغرى، بخسائر ومعاناة جند محمد علي في الحجاز، أحجموا عن الالتحاق بجيشه وخدمته، ويقول المؤلف: " وأنا شخصياً سمعت الباشا وهو يصرخ قائلاً: إن جيشه مكون من 53000جندي، 20000 منهم في الحجاز، و15000 منهم في مصر، ".
وفي الطريق بين الطائف ومكة وجدة، كانت حوالي ثلاثين ألف جثة جمل نافقة، استأجر بعض الزنوج لتغطيتها بالنباتات وحرقها، وحاول شراء إبل من دمشق وليبيا، وما ترفد به الطائف من مؤن لم يكن يكفي عشرة أيام، في نفس الوقت لم تتوقف إغارات الوهابيين المتكررة على الطائف والقبائل التي انضمت إلى محمد علي، وهو كان يفعل مثل ذلك، حيث غنم من الإغارة على قنفذة بعض الجمال، فثأر "تامي" زعيم القحطان، بهجوم ستمائة من رجاله على بحرة – منتصف الطريق بين جدة ومكة- فذبحوا كل السكان فيها، ونهبوا وسلبوا، وأنا تمكنت من الهروب من هذه المنطقة، وحافظت قبيلة "حرب" على وفائها مع الأتراك، لكن ملاسنة بين "الجيزي" زعيمها، وبين أحد قادة الأتراك أدى لمقتله، وغضب قبيلته، ولم يهدأ لهم بال حتى توفي أمير المدينة التركي المسيء " ديوان أفندي"، فصالحهم طوسون ودفع دية زعيمهم، ووصل حوالي ثمانمائة من الخيالة البدو الليبية إلى الحجاز، مع كل خيال جمل للمؤن، وقاموا فور وصلهم الطائف بحملة على الوهابيين، وعادوا بثمانية آلاف رأس من الغنم، وقدم ثلاثة آلاف جمل سوري مشترى للباشا، ومثلها مع حملة الحج المصرية، وألف خيال تركي، وقدمت زوجة الباشا "أم طوسون" وآلاف الحجاج (ثمانين ألف حاج) من كل البلدان هذا الموسم، ومن اسطنبول، واستعد الباشا تماماً للمعركة الفاصلة، لكن الوهابيين حشدوا أنصارهم من عرب وقبائل الجنوب، (تامي شيخ عرب عسير+ وشيوخ اليمن+ وشيوخ الجنوب+ وشيخ مدينة تربة+ وعرب غامد وظهران+ وعرب شمران+ وابن كتامل العتيبي+ وعرب الدواسر+ وكنت مقيماً حينها في مكة، فوصلت أخبار محبطة للعزائم عن هزائم الأتراك، وبدأ الناس بالهروب إلى جدة ولو مشياً على الأقدام، ووجدت أنسب مكان للحماية الجلوس في المسجد الحرام، مع الحجاج الآخرين، لاحترام الوهابيين لهذا المكان، فوضعت أمتعتي في جوال، وتبين للناس بعد ذلك أن الأخبار كانت مكذوبة، وحدثت خدعة حربية من الباشا في بيسيل التي تمركز فيها الوهابيون، وحقق بخدعته نصراً كبيراً، وقتل من الوهابيين خمسة آلاف رأس، وأسر ثلاثمائة وهابي.
بشائر نصر محمد علي باشا ومقترحات السلام
عومل الأسرى الوهابية الثلاثمائة أبشع معاملة بقتلهم بالخوازيق، في الأماكن العامة في مكة، لإرهاب الناس، ووصل الباشا إلى تربة، وتمركز فيها مؤقتاً، وهربت المرأة الحديدية "غالية" ووصلت جيوش محمد علي إلى بيشة، وبقيت فيها أسبوعين، ودخل جيشه بعدها في منطقة جبلية يمنية، وجمع حليف الوهابية "تامي" أكثر من ثمانية آلاف مقاتل وهابي، قتل من الأتراك في اليوم الأول ثلاثمائة، لكنهم انتصروا في اليوم التالي بعد استخدام المدفعية، وهرب تامي، وعثر على مؤن كثيرة في قلعتهم المحصنة (الطور)، وانضم الشريف اليمني حمود إلى محمد علي، وراسل محمد علي شريف صنعاء، بعد أن استولت قواته على قنفذة، ورجع بعدها إلى مكة، وسمح لكثير من الجنود بالعودة إلى مصر، واستبدالهم بآخرين، وعندها جمع علماء المدينة وقرأ عليهم رسالة طلب استسلام وسلام موجهة إلى عبد الله بن سعود، شرط إرجاع ما سلبه من كنوز المسجد النبوي الشريف، وهنا جاءت الوفود من كل مكان من القبائل العربية مؤيدة للشريف محمد علي، وخاصة قبائل الشمال، وكذلك شيوخ القصيم، تعلن مساندة طوسون في حربه ضد الوهابية، فحمسه ذلك للسير باتجاه نجد، فسار إلى الحناكية باتجاه الشرق والقصيم، ولما علم والده بنيته أمره بالرجوع، فلم ينصاع لأمره وسار إلى القصيم، (عشرة أيام) ثم وصل مدينة الرس، فجاءه شيوخ المنطقة لتأييده، لكن أحدهم " الحجيلان" رفض ذلك وبدأ بالحشد ضده، في مدينة بريدة، وفي هذه الأثناء (يناير 1815م) كنت طريح الفراش من الحمى في المدينة المنورة، مع عبد يخدمني.
اتفاق الصلح بين الطرفين
بعد وصول طوسون القصيم، جهز عبد الله سعود جيشاً دخل به القصيم من جهة أخرى، ورجاله حاصروا وزير مالية طوسون المدعو إبراهيم أغا (توماس كيث)، وقتلوه، وقطعوا طرق المدينة المنورة على طوسون، وكانوا أكثر عدداً وحماساً من رجال طوسون، ومحمد علي كان أخبر ولده برغبته في الصلح، ووازن عبد الله بن سعود فوائد الصلح عليه وعلى أتباعه، فأرسل من يتحسس له خبر طوسون ونيته، واتفقا أخيرا على إتمام الصلح بين الأطراف، وانسحب طوسون من القصيم، وفض عبد الله سعود مخيمه فيها، وتراسلا بينهما (ولدي بعض رسائل ابن سعود)! ووصل طوسون المدينة يونيو 1815م، ومعه اثنان من الوهابيين لمقابلة محمد علي لأجل السلام، ورسالة من ابن سعود للسلطان العثماني الكبير.
ورحل محمد علي على وجه السرعة إلى القاهرة، لما بلغه من احتمال قيام " كابيتان باشا" بانقلاب على حكمه في مصر، وسافرت أنا إلى القاهرة بعد أسابيع، ولما وصل وجد الأمور على ما يرام، لكن قواته الحجازية العائدة إلى مصر بدأت تتمرد وتنهب المدن، فأصدر فرامانات حدت من تصرفاتهم، ولما وصل مبعوثا عبد الله بن سعود، وأحدهم من أقارب المؤسس الوهابي، قابلا محمد علي وبعض علماء مصر، وتناقشا في جميع المسائل الدينية والسياسية، وأخطرت السلطنة باتفاق طوسون مع الوهابيين، وبين محمد علي للسلطان أنها اتفاقية مؤقتة، ووصل طوسون القاهرة نوفمبر 1815م وتوفي بالطاعون سبتمبر 1916م، وأكرم محمد علي شيوخ العرب الذين وفدوا عليه طالبين الدعم، لكنه انشغل بتجهيز دفاعات على ساحل المتوسط، للوقوف أمام الهجوم المنتظر من الإنجليز على مصر(!)، وكان على علم بأطماع الأوربيين فيها، لكن انحسرت مخاوفه بعد فترة، فأراد القيام بحملة ثانية إلى الحجاز، بقيادة ولده إبراهيم باشا، وراسل لهذا الأمر أنصاره القدامى من شيوخ الحجاز، ووصلته أخبار معاودة ابن سعود وأتباعه النشاط في الجنوب الحجازي، في بيشة، وتربة، فتحرك ابراهيم باشا قاصداً الحجاز أغسطس 1816م، ومعه عدة آلاف مقاتل منهم من بدو ليبيا، بصحبة أثنان من الضباط الفرنسيين، المطرودين من فرنسا، وأحدهم كان في خدمة بونابرت.
الملاحق
قاموس لغوي عربي أجنبي، لعبارات المؤلف ومفرداته العربية.
ورسالة ابن سعود للصلح مع طوسون بن محمد علي.
ورسالة من محمد علي يزف البشرى بانتصاراته إلى أهل مكة.