منتدى دار النجاح

الإشعارات
مسح الكل

ملخص التوحيد ومضامينه على الفكر والحياة (التوحيد الشمولي)

1 مشاركات
1 الأعضاء
0 Reactions
1,738 مشاهدة
محمد نبيل كاظم
المشاركات: 819
Admin
بداية الموضوع
(@mohammed-nabil-kazim)
عضو
انضم: مند 5 سنوات

ملخص التوحيد ومضامينه على الفكر والحياة
د. الشهيد إسماعيل راجي الفاروقي
المقدمة
أمتنا التي هي شاهدة على الأمم بقوة كيانها وتراثها ودينها لم تعد في هذا المقام، بعد أن حل بها الذل والهوان والتمزق، والآن تتكالب عليها الأمم كما تتكالب الأكلة على قصعتها، هذا أولاً- والسنة الكونية الربانية الحاكمة للتغير والتغيير هي مفتاح قوتها الآن إذا أخذت بمفهومها لاستعادة مجدها الذي تستحقه، قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ (11) سورة الرعد، لكن المساعي الإصلاحية المبتورة والقومية فشلت بسبب عدم فقه الأوليات والأخذ بالأسباب الكاملة للتغيير، والبعض من هذه الحركات لم يستمر على حماسه في الأخذ بأسباب العمق والشمولية المطلوبة للتغيير، فوقع في معارك جانبية أفشلت مخططها، فازدادوا عدداً وانكمشوا عمقاً، هذا ثانياً، وثالثاً- الأولوية التي تحرك العمل والنشاط الدعوي البنائي، اعتبار الفرد المسلم أن دوره هو كونه خليفة في الأرض بأمر الله لصناعة عجلة التاريخ الإنساني المستقيم، وفق رؤية الشريعة والإسلام، فيما يتعلق بالتعامل مع واجباته الزمانية والمكانية والإنسانية لإعلاء كلمة الله في الأرض، كما يريد الله ويحب ويرضى، فيكون سلوكه في جميع جوانب الحياة عبادة يؤجر عليها.
ومؤلف الكتاب كان والده قاضٍ في فلسطين، وهجِّرَ الأبن والآخرون من بلدهم فلسطين، مع من هجروا بعد احتلال فلسطين من قبل الصهاينة، فهاجر إلى أمريكا ليكمل دراساته فيها بعد أن درس في الجامعة الأمريكية في بيروت، ثم التحق بالأزهر لينال بكالوريوس الشريعة الإسلامية، ليكون على بينة من أمره، حين يكتب ويتحدث عن الإسلام الحنيف، وحين عرى اليهودية والمسيحية والصهيونية وتحريفاتهم لدين الله هدده غلاة هؤلاء والحاقدون منهم، ونفذوا تهديدهم بأن قتلوه مع زوجته في بيته بالسكاكين، ودونت القضية وطوي ملفها ضد مجهول، وجاء هذا الكتاب ترجمة صادقة في التعبير عن الإسلام العظيم، وأن المسلم الحق يسترخص دمه وروحه في سبيل الدفاع عنه وعن مصداقيته وقيمه.
التوحيد: جوهر الخبرة الدينية
أولاً- التوحيد كخبرة دينية: وعي المسلم يشغله مركزية معية الله تعالى في كل شيء، وأن نظام الكون متكامل متناغم تحكمه السنن، عند الغزالي، وابن سينا، وغيرهما، وأن عظمة ونبل الذات الإلهية مطلقة، ومغايرتها المطلقة لكل الخلائق، بحيث لا يشبهه شيء، ورفض فلاسفة المسلمين، فكرة علية السببية في إحداث المحدثات، وأن الله تعالى هو المحدث لكل أثر في كل لحظة، لأنه هو الخالق، وما عداه مخلوق، فالأسباب ليست متحكمة في العالم، وإنما المتحكم على الدوام هو الله رب الأسباب، وهو لبُّ المعيارية في الكون، الآمر الناهي المدبر لكل ما في الوجود، والقيمة المعرفية للغيبي الماورائي أنه مصدر الدافعية والمعيارية في الكون والحياة.
كل الأشياء والعلاقات والغايات تنتهي إلى الله تعالى، فهو الغاية النهائية، ومصدر الخيرية في الوجود، التي تعتبر قيمة مطلقة عليا، هو الواحد الأحد الفرد الصمد، وتمثلها شهادة أن لا إله إلا الله، وأسقط الإسلام كلمات ومفاهيم: الأب، الأبن، المخلص، الشفعاء، لأن المقصد الإنساني الأسمى والأنقى معرفة الله وطاعته، مع أن الإله في الإسلام غني عن خلقه، لكن من جلاله وعظمته أن يكون هناك مخلوق بإمكانه أن يكون حراً ولا يعصيه، ويطيعه عن حب وقناعة، وهذا من جلال الله وعظمته، وأن الطبيعة سننية ومستقيمة بالإكراه، لكن الإنسان يمكننه أن يستقيم دون إكراه، وهذا ما لا تطيقه الملائكة ولا تحسنه، ويطيقه خليفة الله في الأرض، حين يدرك مشيئة الله فيها فيسير على نهجها، من خلال تعليمه رسالة الله، عن طريق رسله والعقل والكتب المنزلة، وما وهبه الله للإنسان من أدوات (الحواس) والمعرفة والإرادة والعمل، باكتشاف سنن العلم الطبيعي، ومبادئ العلم الأخلاقي، ومعرفة الله ومراده يتم بالوحي (معرفة يقينية) وبالعقل (معرفة إمكانية)، وأن الله فَطْرَ العالمَ والإنسان على فطرة الخيرية، إكراهاً للعالم، واختياراً للإنسان، (لأنه يمكنه مخالفتها)، وقد زوده الله بالفطرة والعقل والإرادة وتسخير الكون له وأنزل عليه الوحي، ومصير الإنسان ما يصنعه لنفسه، مع استعداد للتضحية بها من أجل القيام بواجب نصرة مشيئة الله وتحقيقها وتجسيدها في الأرض، حتى يدخل الناس في سلم وسلام الإسلام، ولو لم يدخلوا في الإسلام، لتحقيق مبدأ التعارف والتعاون، وحرية الإقناع والاقتناع، (وهذا يضمن لكل الملل والنحل حريتهم).
ولهذا كانت الدولة الإسلامية هي الوحيدة التي تحترم سلطة الأديان على رعاياهم، (ومرجعيتها)، إلا في حال اختار ديناً آخر، أو حرم الانتماء إليها.
ثانياً – التوحيد كرؤية للعالم: تعبر عنه وتوجزه شهادة أن لا إله إلا الله، والتوحيد هنا يشكل رؤية عامة للحقيقة الكلية المتمثلة في الواقع والكون والعالم والمكان والزمان والتاريخ الإنساني، ومصيره، وفيه ما يأتي:
- الثنائية: في الوجود: إله خالق، ولا إله مخلوق، أما الإله فهو سرمدي أزلي متفرد واجب الوجود، أما المخلوق الكائن، المتعدد فهو يشمل الممكنات المخلوقة من ملائكة وبشر وحيوان ونبات وجماد، وجنة ونار، ولكل من الوجودين كينونة ونظام وصفات مختلفة، ولا يتداخل أحدهما في الآخر، لا من قريب، ولا من بعيد.
- التصورية: هي إدراك العلاقة بين منظومة الإلهية ومنظومة المخلوقية، ومرجعية الإنسان في معرفتها ملكة الفهم، كونها أداة المعرفة، بكل وظائفها: كالذاكرة، والتخيل، والتفكير، والملاحظة، والحدس، والإدراك، والوعي، والبشر فطروا على الفهم بطريقتي: الوحي، واستنباط السنن، بَيَّنَهُمَا (القرآن).
- الغائية: التي تنفي العبثية والفوضى واللعب في الكون، بل تؤكد الانسجام والتناغم بين جميع المخلوقات، عدا ما منح عالم الأنس، وعالم الجن من حرية الاختيار، بين الانسجام والطاعة، والانحراف والمعصية، من خلال ما منح من مزية القدرة على الفهم والالتزام الأخلاقي، بإرادته واختياره، لأن الله منح صاحبها أمرين: القدرة، والاختيار.
- القدرة الإنسانية وقابلية الطبيعة للتطويع: غائية الكون والخلائق عبادة الله وطاعته، والمكلف بذلك عياناً الإنسان من خلال الاختبار (الابتلاء) وفلاحه بدرجة الإجادة (الإحسان)، وبدون هذا المفهوم، لا معنى لاستجابة الطبيعة للمكلفين، وتحقق الالتزام الأخلاقي منهم، فتنهار الغاية التي خلق الله من أجلها الكون، وجعله قابلاً للتغيير والتغير استجابة للتسخير الذي يخدم غائية وصول المكلف إلى معرفة الله وعبادته، بطواعية لتحقيق هذا الهدف والغرض النبيل.
- المسئولية والمحاسبة: الحرية والاختبار والقدرة على التغير والتغيير والالتزام الأخلاقي، يحدد المسؤولية والمحاسبة على هذه القدرات وتكاليفها، قال تعالى: (وقفوهم إنهم مسؤولون)، وهذا مبرر وجود يوم القيامة والجزاء والحساب، والنتيجة لتحقق السعادة والجنة، أو التعاسة والنار.
هذه المبادئ الخمسة: هي لب التوحيد، وخلاصة الإسلام، ومرتكزات الحنيفية، في جميع الشرائع التي أرسل الله بها رسله جميعاً، وتشكل أسس الثقافة الإسلامية بكاملها، من خلال سنن النظام الطبيعي، والنظام المتسامي، وبهذا يعتبر المسلم نظريات: [ المتعة – والسعادة – والمنفعة – والحرية ] هراء يدخله بوابة الشرك، لأنها تقضي على مفهوم الالتزام الأخلاقي الديني التكليفي الاختباري، لأن معيارية التزامه مصدرها الله الخالق وحده، لإنجاز مهمته ولو بالتضحية بنفسه من أجلها، وقدوته في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التوحيد: لباب الإسلام
أولاً- أهمية التوحيد: نابعة من كونه جوهر الإسلام ومرتكز الحضارة والثقافة الإسلامية، وهو قابل للوصف
والتحليل، وهو يربط بين جميع مكونات الإسلام، ومكونات حضارته، وتأثيره يمتد بدرجة يسيرة أو جذرية، ولهذا أنشأ له علماء الإسلام علم خاص به، يعتبر علم المنطق وعلم المعرفة والعلوم الماورائية وعلوم الأخلاق فروعاً له للتحقق من الالتزام به معرفياً وسلوكياً.
وأكثرت الآيات القرآنية من ذكره وذكر توابعه في الالتزام التعبدي والالتزام العملي والالتزام القلبي، والجزاء المترتب على هذا الالتزام في الدنيا والآخرة، سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، وفي غيبة التوحيد تنهار مؤسسة ووظيفة النبوة، ولهذا كان التوحيد حجر الأساس فيما يتعلق بالتقوى والتدين والفضيلة، وتعبر عنه كلمة (لا إله إلا الله).
ثانياً- السمو الإلهي في اليهودية والمسيحية: منبعه ذات المصدر الذي نزل به الإسلام الخاتم، لكنه انحرف لديهما عن مساره الصحيح، وهذا ما اعترض عليه الدين الخاتم فيهما، واكده القرآن حين بين انه ذنب لا يغتفر، ولا يقبله الله تعالى منهما.
- النقد الإسلامي لليهودية: أنهم تحدثوا عن الرب بصيغة الجمع، حين نسبوا إليه أبناءً من الملائكة، وانهم تزوجوا من نساء البشر، فولد لهم جبابرة الأرض منهم، (العهد القديم – سفر التكوين 1: 4-6)، ونسبوا إلى يعقوب عليه السلام أنه صارع الإله، ولم يتركه حتى باركه، وزعم اليهود أن الله تعالى هو أب ملك اليهود، وأنه ولده ويكون الله له أباً، وأنه والد أمتهم بالمعنى الحرفي للكلمة، وأنهم أبناء الله الحي (الإصحاح السابع: 14-15) وفي مواضع أخرى من المزامير، وسفر التكوين، وأشعيا، وأكثر من ذلك اعتبروا أن على الله الزاماً أن ينعم عليهم حتى لو وقعوا في الرذيلة والعناد والجور، وعبدوا التمثال المسبوك، باعتبارهم من صلب الرقبة.
- جناية المسيحية: أنها زادت على ما انحرفت فيه اليهودية، بأن سلبت من الله الواحد الأحد فرديته وصمديته التي انحرفت عنها اليهودية، إلى ما هو أشنع، بأن جعلت وحدة الجوهر الواحد متساوية بين الله وعيسى عليه السلام، فمنحته الألوهية الواحدة، بانبثاق وولادة الأبن من الاب، واستحقاقهما العبادة ذاتها لكليهما، واعتبارهما واحد بشخصيتين متماثلتين، ومصدر هذا المفهوم ليس من اليهودية فحسب، بل من مفاهيم عبرية وآرامية، مع أن الغنوصيين رفضوا التسوية بين الرب وعيسى، وحجتهم أن من يتألم ويعاني ليس بإله، بينما جاءت هذه الانحرافات من "بول تيلي" واعتبروا مقولة أن الله خلق الإنسان على صورته دليل الألوهية، خاصة فيما يتعلق بعيسى عليه السلام، فاعتبروه إله وإنسان في آن واحد، فخالفوا قواعد المنطق، وأجازوا هذا تجاه ما هو مطلق ومنطقي، ومتعالي على الخلائق كلها.
- الطابع المتعالي المفارق للذات الإلهية في الإسلام: واعتبار التسامي الإلهي المطلق في مواجهة كل إنسان وكل مخلوق، (في الفطرة) وأن الانحراف عنها هي مسألة زيغ وتربية وهوى ومصالح، التزاماً بما ذكره القرآن عن الله تعالى:
- الطابع المتعالي المفارق للذات الإلهية في الفن الإسلامي: تحاشى الإسلام أن يتعلق الإيمان بالله مع أي صور أو تماثيل في أي مسجد على وجه الأرض، واكتفى المعماريون والفنانون برسوم خطوط زخرفية أو هندسية، أو كتابة آيات قرآنية، (أرابيسك)، فالفن الإسلامي التزم بالتأكيد على جمالية فكرة السمو الإلهي المفارق للخلائق، وهذا ما التزم به المسلمون على اختلاف شعوبهم في كل الأرض، وشكلت لغة القرآن محور صلواتهم وأدعيتهم، وذكر أكثر من 99 اسما له، لكنها تبقى رمزية دون أن تتحول إلى محسوسات، وما وقع فيه بعض مشبهي ومجسمي بعض الشعوب رد عليه المعتزلة، حتى اعتبروا الوعد برؤية الله في الجنة أمراً مجازياً (معنويا) فخاف آخرون كأبي الحسن الأشعري (322هـ - 953م) من النيل من قيمة مفهوم الذات الإلهية وإنكار ما يتصف به، فقال: " بخطأ التشبيه، وخطأ التعطيل، من خلال: قبول النص المنزل كما هو، (معجمياً) أولاً- ورفض سؤال الكيف بحمل المعنى الحسي على الذات، لكونه سؤال غير شرعي، (بلا كيفية)، وقد صور القرآن هذا في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)) إبراهيم. فجعل أصل الكلمة كأصل الشجرة ثابت، لكن الفروع متسامية في السماء اللانهائية.
- حفظ اللغة العربية: جعل إمكانية فهم مدلولات معاني القرآن ممكنة، من خلال المضامين التي توحي بها للتطبيق السلوكي والتشريعي، كما فهمها النبي وصحابته إلى يوم القيامة، ومعجزة القرآن قابليته للفهم الكشفي والإبداعي، وهذا يحتاج إلى متخصصين في اللغة، والإبداع باعتماد الخيال والتخيل، وهذا غير معصوم في طروحاته، لأنه يحكمه النسبية والذاتية، مع أن اللغة العربية ثابتة لم تتغير، ومعاجمها فاقت الوصف في الثبات والدقة الوصفية، ولم تحظ أي لغة بهذا المقدار من الثبات والقوة والإبداع، وغدت اللغة العربية فرعاً معرفياً دقيقاً، حافظ على مفهوم التعالي والتسامي المفارق لله تعالى، بينما وقعت الأديان الأخرى بتطور لغاتها إلى تبديل وتحريف فهم النصوص المترجمة من الأصل القديم والمفقود.
رابعاً – الإسهام الخاص للإسلام في الثقافة العالمية: شق النفي من لا إله إلا الله، زلزل أوهام اليهودية والمسيحية والجاهلية، وكل أنواع الشرك في الملل كلها، التي اساءت إلى وحدانية الله وتعاليه المطلق، واعتبر الإسلام أن الله هو الخالق الوحيد للكون، وأن ما عداه متساوي من حيث المخلوقية، وأن الناس جميعاً متساوون أمام الله، ليس لأحدهم دالة على الله، وحققت عبارة التوحيد ثلاثة معاني: 1- مادة المخلوقات تجسدت فيها الإرادة الإلهية المطلقة في الإيجاد الحسن (الفطرة)، وأن الغاية من الخلق قيمة أخلاقية تتجسد فيها طاعة الله كرهاً أو اختياراً، تسبيحاً له (سننياً)، أو طاعة وحمد وعبادة (بمنهجية)، 2- أن عقبات تحقيق الإنسان المكلف طاعة الله، لا يعينه عليها سوى تكريس نفسه لحمل أمانة رسالة الله على الأرض، في جميع جوانب الحياة، لتحقيق الفلاح، وليس الخلاص والنجاة فحسب. 3- الواجب التكليفي فعل الخيرات المأذون بها بالإرادة الإلهية، وخضوع الجميع لها، كفعل أخلاقي مطلوب، متساوق مع الزمان والمكان والأشخاص، وهو إضافة جديدة من المنهج الرباني الإسلامي الخاتم، تميز به الإسلام.
وتجاوز الإسلام المفاهيم الهندوكية الثنائية القطب (البرهما) المتشيء في المخلوقات، و(النيرفانا) المتطلعة للخير الأسمى، وقسمت الناس تبعاً لأوضاعهم الاجتماعية بين هذين الإلهين، الأول – شر – والثاني – الخير – ولا يحق للمنبوذين الانتقال من حالة لأخرى لأنهم تبع لأحد المعبودين المذكورين، وخصت الطبقة المحظوظة بخير لا تطاله الطبقة الدنيا الفقيرة، وفي (البوذية) قريب من هذه المفاهيم في عدم الإقرار بخالق وحيد خلق الكون وحده، وجعلت خلاص الناس بتقليد وطاعة مخلصين بشر سمو بأخلاقهم إلى درجة القديسين، بينما اختلطت الديانة المصرية القديمة والإغريقية، والفارسية، والغنوصية الشرقية، والديانة الهيلينية، فحاصرت المسيحية بعد أن تطاول عليها الزمن، فأدخلوا فيها فكرة تجسد الرب في الإنسان، لتحقيق خلاصه من خلال اعتبار الدنيا شرور لا ينبغي الانغماس فيها بل ازدرائها والترفع عنها ليحظى بتكفير خطاياه الموروثة من أبيه آدم، فيستحق دخول الجنة بعدها.
التوحيد: مبدأ التاريخ
يلزم التوحيد الإنسان بأخلاقية للعمل، يستحق بها درجة النجاح، في علاقته بالمكان والزمان بالنسبة لنفسه ولمن حوله، ولا ينفي هذا علاقة أخلاقية النية كمقياس لحالة وعي الفاعل بالغرض واتجاه الفعل، كشرط للدخول في ساحة الوفاء بمقتضيات تكاليفه، قال تعالى (ألا لله الدين الخالص...(3)) سورة الزمر، دون أن ينعزل عن الواقع إلا على سبيل التدريب والتمرين على ضبط النفس على الانضباط الذاتي، لا للتمركز حول الفردية والذاتية، بل الهدف منها تحويل العالم إلى تمثل الإرادة الإلهية فيه وفي واقعه.
أفاض القرآن باعتبار الدنيا ساحة اختبار لحمل أمانة إعلاء كلمة الله فيها، كوظيفة استخلافية للإنسان لتحقيق مفهوم الفلاح، والتسابق في الخيرات وعمل الصالحات، وسورة الماعون من خير ما وضح هذا المفهوم، وأن الجزاء الأخروي مرتبط بهذه السلوكيات الاجتماعية الكونية، بينما اليهودية والمسيحية اعتبرت الآخرة خلاص من الدنيا التي هي محطة شرور وشتات، فلعنها وهجرها سبيل خلاص (اليهودي والمسيحي)، بينما المسلم يجد أن الفاصل بين الدنيا والآخرة هو يوم الحشر والحساب لنيل شهادة حسن التخرج أو سوئه، على صناعة التاريخ في دار الاختبار، سواءً على المستوى الفردي أو المجتمعي، لأنه ينظر إلى نفسه على أنه خليفة مستخلف لتحقيق هذا الغرض النبيل تنفيذا لإرادة الله في هذا الكون وهذه الحياة، وهذا ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، منذ ابتعثه الله إليهم، لتغيير العالم والبشر بالاتجاه الصحيح، ولم يستسلم النبي ولا أصحابه لأعدائهم وأتباع الشيطان، بل استخدموا كل وسيلة توصلهم إلى انتصار إرادة الله فيهم وفي أعدائهم على حد سواء، ولم يغادر الدنيا إلا بعد أن حقق الواجب المراد، وهو إقامة دولة الرشد والاستقامة والدستور الذي يحكمها في حياته وبعد مماته، كنموذج للبشرية جمعاء، ولم يغادر إلا والجيش الذي سيبدأ بفتوحاته على أتم الاستعداد على أطراف المدينة (جيش أسامة) لمواجهة العالم بأسره، لصناعة تاريخ البشرية (ونظام عالمي جديد) بشكل مختلف عما وصلت إليه من إسفاف وظلم وطغيان وانحراف، وكان مثل كل مسلم كمثل (حي بن يقظان) في جزيرته، سيفكر في صنع سفينة من جذوع الأشجار ليعبر بها إلى العالم يخبرهم ويدلهم على خالقهم ونظام حياتهم الموافق لفطرة الإيمان.
التوحيد: مبدأ المعرفة
لا للشكوكية، ولا لإيمان المسيحيين:
طغت الشكوكية في عالم المتعلمين اليوم، وخاصة في الغرب، بسبب نجاحات العلم الطبيعي واكتشافه فاعتبر انتصاراً للعقل التجريبي، على العقل الديني، لكون العقل الكنسي عقل عقدي مستسلم لفرضيات غير تجريبية، وغير قابلة للنقد والتمحيص، نتيجته تعميم فحواه، أن ما لا يخضع للتجريب مشكوك في صحته، وبالتالي هو زائف وخرافي، لأن الاعتقاد تسليم وإيمان بصحة ما لا يخضع للتجربة، وهذا عثرة أمام التفكير العقلي، الذي يعتمد على البرهان والحجة، وهيمنت الثورة الرومانسية في أوروبا على الوعي الغربي، استناداً إلى اعتبار الخبرة الذاتية هي محك معايشة تجربة الإيمان والتصديق حتى بوجود الذات الإلهية، ولهذا على المسلم الحذر من التعبير عن يقينه من خلال مفاهيم العقيدة والإيمان، في الأوساط الغربية، لما تحمله هذه العبارات من ظلال الشك وعدم التسليم بمنطقيتها، لبعدها عن حقل البرهنة والإثبات، بينما هو في الواقع اللغوي والإسلامي، لا يعني هذا، بل هو يتساوق وينسجم مع العمليات العقلية، التي يجريها المرء في تمحيص وقائع تثبت البراهين صدقيتها، فيؤمن ويتيقن من صدقها، ولهذا وقع الغربيون بعكس ما أرادوه من مصطلحاتهم فيما يتعلق بالدين، بل وما يتعلق بالكون والسنن والحياة، ولا فرق بين الدليل الحسي، والدليل الغير حسي من حيث الوصول فيهما إلى المصداقية أو عدمها، من خلال عرضهما على البراهين المناسبة لكل منهما، فاليقين هو بلوغ الحقيقة درجة الثبوت، ومثله الإيمان بما يراد تصديقه، بعد عرضه على التمحيص المناسب (البرهان)، وقد وضح القرآن حججه وإثباتاته البرهانية على كل ما عرضه من حقائق، وليس كما فهمه الغرب من ثقافتهم الدينية المضطربة، ولهذا كان إيمان المسلم يقين ثابت ببراهين عقلية منطقية، لا محل للشك فيها بتاتاً، بعد أن عرضها على الشكوك وأثبت بطلانها معه.
الإيمان الإسلامي مقولة معرفية: لأنه مرتبط بالمعرفة وصحة الأخبار المماثلة لطبيعة المنطق والمتعلقة بكل ما هو وراء الطبيعة من أخلاقيات وجماليات، كالنور الذي يضيء رؤيتنا للأشياء التي تقع عليها حواسنا وحدسنا، ولولاه لما كان هناك شيء اسمه التفكير، والتوحيد هو معرفة الحق، الذي لا يستعصي على المعايرة والبت القاطع فيها، والتي بوسع الإنسان الوصول إليها، بطرق منطقية وعقلية، والشك إنكار للمعرفة وإنكار للحقائق كذلك، وهي نقيض الأمان والإيمان، ويؤدي إلى العدمية، أما في الإسلام فإن الإيمان يستدل عليه بالعقل والبراهين التي تؤكده، وتؤكد استحالة نفيه، واستحالة الشك فيه، لأنه يصل بنا إلى العبثية التي تناقضها سنن وقوانين الكون برمتها، (الغزالي: أثبت أن إبطال الشك أو إثباته لا يتم إلا بالعقل والمنطق نفسه – كتاب: (المنقذ من الضلال))، ولهذا أثبت العقل له كل ما آمن به وصدقه.
وحدانية الله، ووحدة الحق: واحدة، لأن نقضهما يستدعي تعدد الحقيقة، وتعدد الآلهة، وهذا ينفي الحقيقة ذات الوجه الواحد، والوجهة الواحدة، ولهذا كان التوحيد الإسلامي مبادئه ثلاثة: 1- رفض معارض الحقيقة، 2- نفي تناقض النهائي، 3- الانفتاح على دليل المخالفة.
المبدأ الأول: ينفي الزيف والخداع في الإسلام، حيث يقر بالتمحيص والنقد البناء، وما غاير الحقيقة يحكم ببطلانه، وبالتالي لا يقبل الحكم بالهوى ومجرد الظن من غير دليل، ولو كانت هذه القيمة تعارض المصلحة الخاصة، لأنها تتقدم على المصالح الخاصة، باعتبار سمو الحقيقة على المصالح، لأن التمسك بها هو المصلحة الشرعية.
المبدأ الثاني: نفي التناقض هو العقلانية، وما يظهر في الأحكام والقيم من تناقض يزال للتأليف بين العقل والوحي، مع اعتبار الوحي مقدم على العقل، وفتح المجال من أجل إزالة هذا التعارض في حال ظهوره، من خلال ثلاث طرق: 1- بمراجعة فهم الوحي، 2- أو مراجعة النتائج العقلية، 3- أو القيام بالأمرين معاً، وهذا من مقتضى أن التوحيد يوحد الحق باعتبار عصمته وانتفاء معارضته للواقع، وأن التعارض يعود لقصور فهمنا، وقصور إدراكنا، والمراجعة تتعلق بفهمنا البشري، وليس بانسجام الوحي، لأنه منسجم تماماً، والأصل عدم تعارض الوحي والعقل.
المبدأ الثالث: الانفتاح على دليل المخالفة، دون تعصب أو ركود، والقول حين لا يصل إلى مبتغاه: نقول "الله أعلم"، لأن موضوع المعرفة هو آيات وسنن الكون التي خلقها الله، وعلمه بها كامل ومطلق، وعلمنا من عطاء الله ومنه، وهو على الدوام مقارب وليس كامل، لمحدودية معرفتنا، وقصور عقلنا، لكن ما كان من وحيه المنزل فنحن منه على يقين، لأن الله مصدره.
المبدأ الرابع: التسامح: من أسس التوحيد ونتائجه، لأن الله هو الخير الأسمى، وأن ما يقدره الله هو الخير، وسوء الظن به تعالى ضلال وانحراف، وما تقودنا إليه حواسنا خير ما لم تكن غير سوية، والتفاؤل على الصعيد المعرفي والأخلاقي هو التسامح، ونقبل الحاضر والواقع ما لم يتبين زيفه، من ناحية صحته، أو يسره، استجابة لمتطلبات الحياة، وإرسال رسول لكل أمة من الأمم، سماحة من الله وكرم، وتمكين الإنسان من معرفة الحق فطرة هو بوابة هذا التسامح، وتوجيه الناس جميعاً بالحنيفية للتمييز بين الدين الحق، من غيره، له الأولوية في البحث عن الحقيقة.
التوحيد: مبدأ الغيب:
يعتبر الهندوسي أن الكون هو شؤم حل من الإله (البراهما) وفيه، فكان جسده هو الأشياء التي نراها منه أو لا نراها، وبحسب سلوكه يترقى فيرجع إلى الإله، أو يتدني في أشياء أقل وأحط، وعند المسيحي: فإن الطبيعة والعالم فسدت بالخطيئة، وعمت على الجميع، فأصبح العالم والدنيا شراً، في مملكة الشيطان، ولم ينظر المسيحيون إلى الدنيا والطبيعة بإيجابية، إلا بعد أن تعرفوا على مقولات أهل الإسلام، ولهذا كانت النظرة الإسلامية إليها محترمة وإيجابية، باعتبارها نعمة ومنة من الله، سخرها لفعل الخيرات وتحقيق السعادات والفلاح، وتحكمها ثلاث مبادئ: النظام – والهدفية – والخيرية.
أولاً- الكون المحكم: من مقتضيات وحدانية الله الخالق، أن كل ما في الكون يصدر بمشيئته وإرادته، وأن ما يحدث من الأسباب والسنن يتم كذلك بمشيئته وإرادته وحده، لغاية يريدها سبحانه، وأن أفعالنا المختارة نحن المسؤولون عنها، ولو أن قوة إيجادها بيد الله ومشيئته، لأننا لا نستطيع خلق أفعالنا بأنفسنا، وهذا يجعلنا نتلمس هدى الله في أفعالنا، ونستخدم السنن التي منحنا الله إياها، وسخرها لنا بإرادته وتوفيقه، ولم يمنح الله الفعل والخلق لأحد من خلقه، لأنه هو على الدوام الخالق والميسر لما نظمه في الكون في كل لحظة، ومع كل مخلوق، وكل تفسير بأن الله أعطى قدرة الخلق بالتسبب والتسبيب غير صحيحة بتاتاً، لأنه لا قوة فاعلة مع الله تعالى، وهذا ينفي ما ينسب إلى السحر والشعوذة والجن والأرواح من مزاعم الخلق والأفعال، سوى ما يأذن الله به من تأثير ابتلائي واختباري يحاسبهم عليه، وبين التوحيد ان العقل بإمكانه أن ينضج من خلال اكتشافه سنن الطبيعة والعلوم والحياة، دون أن يربطها بالخرافة مع التسليم بأنها ذات طابع دنيوي سنني من خلق الله وقدرته وتدبيره، وتعود إليه في مبتدأ الأمر ونهايته، وما بين الأسباب والمسببات علاقات علية تحكمها بأمر الله، من أجل دوام انتظام معرفة الله، والرقي بالعلم لتحقيق كلمته ومنهجه وشرعه، ولولا هذه السببية النمطية المحكمة لاستحال الاطمئنان للرقي بالعلم، وافتراض كون استقراء الطبيعة يكشف لنا عن سننها بالحتم والضرورة وأنها هي مصدر هذه السنن، فنده أبو حامد الغزالي قبل ألف سنة، وأيدته اكتشافات العلم الحديث بعد اكتشاف أنشتاين نظريته النسبية، وتوصل " هايسنبرج" إلى انتفاء الحتمية في العلم، وأيده أكثر من عالم في القرن 21م، ونحن كمسلمين نقر ونعتقد بأن الكون ونظامه وسننه من فعل العليم الخبير الله تعالى وحده، واستقراء العلوم والسنن يتقدمه المقدمة الأساس وهي "لا إله إلا الله".
ثانياً- الكون الغائي:
الطبيعة بسننها ونظامها في الزمان والمكان تتضمن غايات ومهام تكشفها لأفهامنا، فيما يتعلق بكل ظاهرة أو مخلوق، أو شيء موجود فيها، أو في أحشاء حشرة أو نواة ذرة، أو جزء من مادة أو عنصر، لتحقيق التوازن البيئي والكوني، في سلسلة من الغايات المترابطة المتكاملة، تظهر أكثر في عوالم، من عوالم أصغر وأدق يصعب علينا تتبعها ومعرفة سر وجودها، وهي بالتأكيد لها ذلك القدر من الغائية والفاعلية التي لما هو أكبر من الظواهر والمخلوقات، كشف العلم عن كثير منها حتى الآن، وغاب الكثير عنا وعن العلم والعلماء كذلك، مع اليقين بعظمة وحكمة الباري فيها.
الطبيعة بوصفها مملوكة لله تعالى بالأصالة: تستند إلى ماورائية غيبية مقدرة من الله، والبعد الأخلاقي في تعامل الإنسان مع عناصرها، ويرتبط هذا المبدأ بأربعة معطيات:
أولها: مالك الكون والطبيعة الحصري هو الله تعالى، والإنسان مأذون له بحق الانتفاع، على أن يحسن هذا الانتفاع بطريق الأمانة بين يديه والاستخلاف، وأن يتركه كما تسلمه أو في وضعية أفضل، وهو مسؤول عن هذه الوضعية والمهمة والتكليف.
ثانياً – أن الطبيعة مسخرة للإنسان، وقابلة مطواعة للسعي في تطويرها لخدمته وبني جنسه والآخرين بالأحسن والأفضل، وهذا لا يعفيه من المسؤولية عنها وعن تصرفه فيها.
ثالثاً – الإنسان مكلف بالانتفاع بالطبيعة والتصرف بنحو أخلاقي، ويحرم عليه أن يخرم المبادئ والقيم الأخلاقية في طريقة الانتفاع بها، فيحرم عليه التبذير، والإسراف، والسرقة، والغش.....الخ.
رابعاً – إباحة استكشاف الطبيعة والاستمتاع بها والتسخير بمقتضى الجمال الذي يغلفها، ويجسد محتوياتها، وفق الغايات التي وضعها الله في موجوداتها وعناصرها.
التوحيد: مبدأ الأخلاق
خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، واستخلفه في الأرض لطاعته وعبادته، وجعل ما سخره له لتحقيق هذه الغاية أمانة في عنقه، وتحقق مشيئة الله في الطبيعة تقف عند القيمة النفعية السننية، أما بنسبة للإنسان فإنها ذات طبيعة أخلاقية، لأنها تؤدى بحريته في اتخاذ موقف بين الفعل والترك، والخير والشر، وهو المؤهل للسمو الأخلاقي في حركته، أو الهبوط للدرك الأسفل، من النفع أو الضر.
أولاً- إنسانية الإسلام: توحيد الله الرحيم، وخلقه الإنسان لغاية سامية، وإنعامه عليه بالحواس والعقل والفهم، لتيسير قيامه بمهمته الجليلة تلك، عن اختيار وحرية وإبداع، هي التي تجعل لحياته بهذه المواصفات معنى، يليق بعظمة خالقه، وتكريم لمخلوقه المميز "الإنسان" ليكتب تاريخاً في الأرض والكون يليق بعظمة الخالق، ويليق بإنسانية الإنسان وقيمته وقيمه الأخلاقية، من دون كل الخلائق، وهو محتوى إنسانية الإنسان، وهذا هو فارق رئيس بين فحوى الحضارة الإسلامية، من سائر الحضارات الأخرى، التي ألهت الإنسان وأباحت له رذائل لا تصدر حتى عن سلوك الحيوان (الوحش)، بينما اعتبرت المسيحية أن الخطيئة ركبت الإنسان بالتوارث عن أبيه الأول، ولا انفكاك له عنها بفعله الخاص دون أن يخلصه منها الإله بموته وصلبه، نيابة عن كل إنسان، ليحرره من خطيئته.
أما الهندوسية: فاعتبرت غالبية الناس ملوثين ومنبوذين، وقلة في طبقة الأطهار، ولا مجال للتحرر من الطبقية تلك إلا بعد الموت ونسخ الروح في كائن آخر، وهلما جرا، إلى أن يرتقي إلى طبقة البراهما والأطهار بعدها، أما البوذية فاعتبرت وجودنا شر ومعاناة، الخلاص منه بالانضباط العقلي، بينما الإسلام هو الذي جعل إنسانية التوحيد قيمة فطرية وأخلاقية وإنسانية في آن واحد، لا تنفصل عن الدين ولا تقبل الازدواجية والثنائية في معايير الحياة، لأنها مرتبطة بوحدة الحق، ووحدة الخالق، المستحق وحده للعبادة والتقديس، وهذا كله متناسق مع المنطق والبرهان والدليل، وأن التدين حجته واضحة وانتقاد ما يشكل منه على الفهم القاصر يقبل الحوار النقدي، لإثبات واقعيته وصدق مقولاته، وأن كل موجودات الكون وسننه تعمل بتدبير دائم من خالقها الله تعالى، ولهذا كانت أبواب العلوم الطبيعية والإنسانية مفتوحة على مصراعيها للإنسان، ليتزود منها ويزيد فيها، بأطر علمية منهجية، وكذلك أخلاقية وجمالية، وهذا هو جوهر الشريعة والثقافة والحضارة، في مظلة توحيد الله، ووحدة الحق، ووحدة الحياة.
ثانياً – الغاية من خلق الإنسان: سؤال أخلاقي فلسفي بآن واحد، ويمكن التعبير عنه بتحقيق الخير الأسمى، وهو الامتثال لإرادة الله في ملكوته، والانسجام مع قيم الوجود الكوني، وهذا ما يعبر عنه ب (عبادة الله تعالى)، وهي في الماديات قهراً وفي الإراديات طوعاً، ولولا ذلك لما كان للحياة أي معنى، لأن التمييز بين الجانبين، يتعلق بامتلاك الحرية، أو عدم امتلاكها، والإنسان مهيئ للقيام بالسلوكيات الأخلاقية، لأنها جوهر التكليفات الإلهية، ومقتضى وظيفة الاستخلاف في الأرض، (خليفة)، وسمى القرآن هذه المهمة (حمل الأمانة)، ولا تعتبر هذه التكليفات أمانة إلا إذا كان حاملها يتمتع بالحرية والاختيار، والقدرة على الفعل في اتجاهين متعاكسين، يثاب على أحدهما ويعاقب على الآخر، ومنحه العلم والمعرفة من خلال أداة برمجية عالية المستوى، وهي (العقل)، ليختار المناسب الحكيم، وهذا ما رفع مقام الإنسان فوق مقام الملائكة.
ثالثاً – براءة الإنسان: حين مولده، بغض الطرف عن محيطه والآخرين، وأنه مسؤول عن أفعاله المختارة فحسب، وذلك بعد بلوغه سن (البلوغ والرشد)، ونفى عنه المسؤولية حين تنتفي لديه الاستطاعة، لأن انتفاءها هو انتفاء للحرية والاختيار.
رابعاً – الخلق على صورة الله: في كونه على الفطرة والبراءة، كما في اليهودية كذلك، وليس على ما تقوله المسيحية، من كونه محملاً بالخطيئة الأولية، وهذه الصورة المشابهة لله هي العقل في الإسلام، ونفخة الله في الإنسان (من روح الله)، مما جعل البشر متساوين في إنسانيتهم، غايتهم العمل الإيجابي المتمثلة بتطبيق إرادة الله تعالى، من خلال الفعل الأخلاقي، دون أن يحمل هم الماضي الذي لا فعل له فيه، قبل التكليف.
خامساً – التفعيل: بلغ ذروته ببعث الله تعالى عيسى عليه السلام لتأكيد وجوب حسن النية في الفعل الصالح، وليس مجرد ما يظهر منه من ظواهر قد تكون خادعة إذا طلب من وراءه المنافع الدنيوية والمصالح الشخصية، لأن النية تحدد صلاح العمل قبل تنفيذه، إذا أريد منه وجه الله تعالى، وهو المطلوب أولاً وآخراً، بعد أن غالى اليهود في التمسك بحرفية الشعائر، دون أن يكون قالبهم الداخلي الذاتي خيِّراً، وهذا ما أكد عليه عيسى عليه السلام، بعد أن استشرت في اليهود المظاهر، وفقدت الشريعة روحها الصافي الخَيِّر، وهذا ما استفاض التأكيد عليه في الإسلام، في مسائل النية وتحديدها قبل العمل الصالح، وجمع بين صلاح النية، وصلاح العمل، ولهذا ربط الإسلام بين الإيمان والعمل، وعزز الإيجابية في الحياة، لبناء الحياة وفق إرادة الله تعالى، لتحقيق الكمال الإنساني، من خلال نظام مجتمعي متعاون، قائم على الرشد والعدل والتآخي الإنساني، وجعل مفهوم الأمة شامل لكل المسلمين على اختلاف قومياتهم وعروقهم، مؤكداً على الأخوة الإيمانية، والانخراط الطوعي في العمل الصالح والحياة السرمدية، الممتدة بين الدنيا والآخرة.
سادساً – العالمية: سمة الشريعة الإسلامية، لأن الخلائق والناس ملك الله تعالى، وهذا المبدأ نقيض الحصرية الفردية، أو القبلية والقومية، وهذا ما وقع في فخه السيء اليهود حينما زعموا أنهم شعب الله المختار، كما وقع كثير من المسيحيين في فخ مثيل لهذا من خلال توظيف المفهوم القدري والزعم بأنهم غير الآخرين من حيث اللون والعرق والمكان والانتساب إلى إبراهيم، لكن الإسلام أبى هذه المفاهيم ورفضها، واعتبر الناس جميعاً خلق الله، والتميز يكون بالقرب من الله والتقوى، وأن كل مولود يولد على الفطرة، والمسلم بينه وبين الله عهد، فيه تبادل التزام بين الله وعباده، وليس وعد كما زعمت اليهودية والنصرانية.
سابعاً – إيجابية الحياة الدنيا: ليتمكن الإنسان من عبادة الله في دنياه، جعل الله الدنيا مطواعة له، ومتقبلة لفعله فيها، وجعل كلاً من الإنسان والكائنات متلائم وجودياً مع الآخر في الإسلام، على النقيض من الفكر الهندوسي، والبوذي، الذي يعتبر الشر مقوم تكويني لازم في الكائنات، بينما هو في الإسلام من إساءة استعمالها، ولهذا نهى الإسلام عن الغلو في العبادات، وأكد على الموازنة بينها وبين المطالب الدنيوية من زواج وتجمل وراحة وترويح عن النفس، مع تنمية قدراته وملكاته وعلاقاته مع نفسه والبيئة والطبيعة والآخرين من بني جنسه، وحتى مع الحيوان، وذلك شرط التوازن وعدم الإسراف، مع التزام النظام الشرعي السياسي للتعاون معاً في خدمة إظهار وتحقيق إرادة الله في الكون، ولهذا نهي عن الرهبنة والانقطاع عن الدنيا والحياة، وروحانية الإسلام متضمنة بالاستمساك بالقيم الأخلاقية، المانعة من الظلم والحقد والإسراف والتمييز.
التوحيد: مبدأ النظام الاجتماعي
أولاً- تفرد الإسلام: بأن البعد الاجتماعي أساس أصيل في الدين، ووجوب حسن التعامل معه من خلال قيمه الاجتماعية والأخلاقية والتعبدية، في حسن التعامل مع بعده في الزمان والمكان والأشخاص والأشياء والتاريخ، لجعل ذلك جنة دنيوية في مقابل جنة أخروية جزائية على هذا الصنيع، ومفهوم الخلافة والاستخلاف هو تحقيق إرادة الله الخيرة في حياتهم تلك قبل انتقالهم إلى جنته تعالى الخالدة، وتشكل العبادات والشعائر جزء يسير من تلك العلاقات الاجتماعية، ويتفرع عنها ما يأتي:
1- المغايرة لأديان الهند: التي تنظر إلى الدنيا ومعطياتها على أنها شر، والخلاص في الموقف السلبي منها.
2- المغايرة لليهودية: التي تعتبر النظام القبلي الخاص باتباعها هو منحة من الله لهم وحدهم دون الناس باعتبارهم شعب الله المختار.
3- المغايرة للمسيحية: كانت ردة فعل على العنصرية والشخصانية القبلية اليهودية، بالالتفات إلى الذات وتطهيرها من القرابة الأنانية، لكن العيسوية تحولت من التطهر الداخلي إلى التطهر الخارجي من مستلزمات الدولة والمادة والدنيا والأغيار العبيد، ثم إلى الفصل بين الكنيسة والدولة والحياة، واعتبار الخلاص الفردي أساس النجاة.
4- المغايرة للعلمانية الحديثة: التي استبعدت الدور الديني في الحياة الاجتماعية، بسبب طغيان الكنيسة واستفرادها بأمورها دون تمثيل شعبي للمجتمع في شؤونها، فكانت ردة فعل العلمانية على ذلك باستبعاد الدين من السياسة والاجتماع، لكن حجج العلمانية في ذلك كانت واهية.
ثانياً – التوحيد والمجتمعية: مقتضى الإقرار بأنه (لا إله إلا الله) الخالق المالك الحكم في كيفية تحقيق إرادته في وجودنا الحياتي الغائي، المنزه عن العبث في وجودنا، باعتبار الحياة اختبار لنا في تحقيق إرادته الخيرة تلك، من خلال التعاون مع الآخرين بشراً وغير بشر، في حسن التصرف في حياتنا ووجودنا، باعتبار ما وهبنا من حرية اختيار مسؤولة، بمراعاة سنن الله الخالق في هذا الوجود، باعتبارنا مخلوقين من قبله تعالى، وموظفين في ملكوته، حسب شريعته الخاتمة (القرآن والسنة) وسيرة سفيره إلينا محمد ابن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام، الذين أقاموا دولة الإسلام الأولى النموذجية لبيان هذه المقاصد، وشرعية الوسائل المحققة لذلك، وهي للبشرية قاطبة، بمعيارية ثبات محكماتها، وقابلية تكييف متشابهاتها مع ظروف التحولات الزمانية والمكانية والشعوبية والشخصانية بما يتلاءم مع اليسر ورفع الحرج، لتحقيق الصالح العام والخاص، لكل فرد وجماعة، فيبقى التشريع إلهي المصدر، وبشري التنفيذ، بمنزلة الجمهورية الحاكمة بدستور شرع الله، والخروج على هذا المنهج، خروج على شرع الله تعالى.
ثالثاً – مضمونات نظرية: تحقيق مراد الله في ملكوته من خلال خليفته في الأرض (الإنسان) ينطلب وجود أمة تمثل الشهود على الناس جميعاً (كنتم خير أمة) بمقتضى:
1- الطابع العام للحياة الإسلامية: المبني على أساس الوعي بالضمير وباعث النية الشخصي لكل فرد فيها، والشعور برقابة الله له، واطلاعه على ضميره وقلبه، خاصة فيما يتعلق فيما بينه وبين الله، أما ما بينه وبين الناس، فالحكم هو الآثار القابلة للقياس والتقييم، والقضاء أحد آليات هذا القياس والتقييم، وهنا يكون الحكم على الظاهر والظواهر، حسب أنظمة الدولة والحكم في عصر من العصور.
2- والنسيج الاجتماعي الواضح المرتبط بالزمان والمكان والتاريخ، من خلال علاقات إنسانية وتعاون بشري مثمر، لأن وجود المجتمع الصالح شرط للفلاح الديني، ونحن نعلم أن العصابات لها أنظمة تحكمها وتحكم أفرادها.
3- علاقية القيميات: واختلاف المطالب الفردية عن المطالب المجتمعية:
أ‌- اختلاف المردود القيمي بين السعي الفردي، عن السعي المجتمعي.
ب‌- الاختلاف بين ما ينبغي وما يمكن بين الفردي والمجتمعي.
ت‌- أهمية الانفتاح لمجمل تأثير القيم.
ث‌- جدلية المناقشة بين الرؤية والتحقق منها.
4- المضمونات العملية: في الممارسات القيمية ثلاثة: 1- العالمية، 2- الكلية، 3- الحرية.
أ‌- القيم الربانية عامة للجميع، كالسنن التي تحكم جميع الخلائق، والتوحيد والدين للبشرية كافة، مع رفض العنصرية والتحيز الخاص لأي انتماء أرضي.
ب‌- تساوي البشر المنفتح في الانتماء لآدم، وعلاقية الأشياء وجوانب الحياة جميعاً لتجسيد إرادة الله ومنهجه فيها، وحسب احتياجاته منها، في إطار الأحكام الخمسة (الفرض، والحرام، والمندوب، والمكروه، والمباح)، ويفقد المجتمع إسلاميته إذا اقتصر على جانب دون جانب آخر منها، مع أن هذا من طبيعة الدول الغربية ومجتمعاتها، لأنها تمجد جزءًا من الحياة، ولا تمثل الحياة ككل متناغم، كما هو في الإسلام.
ت‌- المسئولية: مرتبطة في الإسلام بالفطرة، وهي تطال كل فرد مكلف بالغ عاقل، على مقتضى ما منحه من عقل وحرية مسؤولة فردية، ولهذا كان المجتمع الإسلامي مدرسة كونية النطاق، تحكمه الأخلاق والقيم، بما فيها القيم الاجتماعية، والكيانات الاعتبارية، للوصول إلى سعادة الدارين.
التوحيد مبدأ الأمة:
أولاً- مفهوم الأمة: الأنظمة الاجتماعية غير الإسلامية فحواها جماعة ومجتمع، ترتبط بقيم ومبادئ ما، رأسمالية، شيوعية، ديمقراطية، ليبرالية...الخ، وارتباطها بنظام سياسي ما لا يبعد أن يحوي الجماعات والمجتمعات عبر المصالح الخاصة المشتركة، بينما في الإسلام يعتبر مفهوم الأمة هو الذي يستوعب كل الاختلافات في جماعات، كالشعوب والأقوام، وهنا يتحد هؤلاء تحت سقف أمة ومجتمع عالمي، (أمة الإسلام)، يتيح لكل فرد منهم أن يعبر عن الأمة بالنيابة، بمنطلق الثقافة والحضارة الواحدة، دون أن يفقدوا هوياتهم الخاصة وانتمائهم لجماعات مختلفة، على أن يكون الانتماء للإسلام فوق كل انتماء، وهو غير قابل للترجمة، والتحيز لأنه يشمل الانتماء للعالم والكون بأسره، والفرد خليفة فيه، حتى في حال كان الفرد تحت سلطة دولة أخرى ودين آخر.
ثانياً – طبيعة الأمة:
أ- أمة عالمية: تضم الجنس البشري بأسره فطرة، وواجب كل مسلم انتمى إليها أن يدعو من لم ينتمي إليها بسبب العوائق والبيئات لهذه العودة والانتماء، ويعترف الإسلام بالانتماءات الأخرى المباحة الواقعية على أن تحكمها الشريعة، دون أن تنغلق على نفسها أو تنفصل عن الأمة الجامعة، أو تتبنى ما يأباه الإسلام من قيم أو أنظمة منحازة، لأن الإسلام وشريعته هي الحاكمة، وليس شيء آخر.
ب- مصالح إنسانية: في كل الأنظمة الاجتماعية الواحدة المشمولة بأحكام شرع الله، مع أن الغرب حاول أن يصنع مثل هذا عبر الحقوق الإنسانية للإنسان لكنه فشل في جميع محاولاته تلك، بتخريب معنى القداسة لأي شيء، ولو كان يتعلق بمصالح الإنسان نفسه، فحلت الشكوكية مكان الأدرية.
ج- أمة الكلية: لكل مجالات النظام الاجتماعي، والنشاط الإنساني، الذي يحكمه منهج الله التشريعي، وفق مراد الله، والمقاصد الشرعية لكل نشاط الإنسان، في الأحكام الخمسة، ويشملها مفهوم الفلاح الأبدي.
د- أمة الحرية: بنظام انضباطي نفعي وقيم أخلاقية، يكون دور الدولة فيه التعليم والإقناع والريادة.
هـ- أمة الرسالة: لتنفيذ إرادة الله في ملكوته الأرضي، كما بينها القرآن حسب مفهوم تحميل الإنسان الأمانة.
ثالثاً- الديناميات الداخلية للأمة:
أ- لا إسلام دون الأمة: الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، على مستوى الفرد والجماعات، ولو كانوا ثلاثة، يؤمروا أحدهم، ولا قبول للمفهوم المسيحي بالخلاص الفردي فحسب، وتحميل المسؤولية لقيصر نيابة عن رعاياه، لأن الإسلام تضامن وتكافل فردي وجماعي في كل شؤون الحياة، ومسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية عامة، ولا تقبل الانعزالية الرهبانية كما في المسيحية.
ب- أمة واحدة لا تتعدد: لأن الله واحد، وعبادته ومنهجه واحد، ومفهوم الأمة مرتبط بالدين، وليس بشيء آخر غير الدين، لأن جوهر الانتماء هنا هو القيم الأخلاقية (الدينية) وليس شيئاً آخر غيرها، ولا يقبل هنا الانقسام الديني الذي يشكل اختلافات فاصلة بين المسلمين، ومفهوم الاجماع هو أحد أشكال التوحيد والوحدانية باعتبار الجميع عبيد لله الواحد، لكن هذا لا يمنع الاختلاف الاجتهادي والتنوع بين المسلمين والناس، مع ثبات المبادئ الكلية.
ج- طبيعة وحدة الأمة:
(1): وحدة الأمة شاملة: لا تقسم الحياة إلى أخروي ودنيوي، ومقدس ومدنس، لارتباطهما ببعض بعروة وثقى من التكاليف والاختبار للوصول إلى إعمارهما معاً، لارتباط الإسلام بالمبادئ الأزلية، عبر الوحي القرآني والنبوي، إجمالاً وتفصيلاً، ويكمل دورهما اجتهاد علماء وعامة المسلمين لتطبيق ما يحتاجون إليه حسب حاجاتهم وعصورهم.
(2): أمة ذات مضمون ملموس: تتناغم فيه شموليته ومحتواه، مع كامل نواحي الحياة.
(3): أمة دينامية: متناغمة في شمولها وكمالها، لكن وقع النقصان بالتوقف عن الاجتهاد، وعدم ترك باب التجديد مفتوحاً، والتخلي عن الوسطية عند الحاجة إلى الوسطية، والتخلي عن المقرر حينما يؤدي إلى هدر وهدم قيمة أعلى في حال الاضرار، لأن الضرورات تبيح المحظورات، وكما قفل بعض الأبواب، فإنه جعل لها مفاتيح خاصة بها حين اللزوم، ولم يقبل من بعض أصحابه التبتل والرهبنة، تحقيقاً للوسطية، وأنها سنة النبي في حياته وحياة أصحابه، بلا إفراط ولا تفريط.
(4): أمة عضوية: جميع أفرادها كأعضاء الجسد الواحد يخدم بعضه بعضاً، كالبنيان المرصوص، وتداعي سائر الأعضاء بالسهر لمصلحة العضو المحتاج، وكأبناء القبيلة الواحدة، وفقدان هذا الترابط يستحيل وجود الإسلام (الناضج المتكامل) كما تستحيل الحضارة وإنسانيتها، والحياة السامية، والاعتمادية هذه قد يغالى فيها إلى درجة منع الرقي الفردي فيها، بشدة النزعة الجماعية، (بسبب الانتماءات غير الإيمانية) لكن الوسطية تعيد التوازن بين الفردي والجماعة.
د – إمكانية إقامة الأمة: هي شرط تحقيق كمالات الإنسان وكمالات الإنسانية، وكذلك شرط نجاح الشيطان وجنوده في شرورهم، إذا افتقد أهل الإيمان أو ضعف تحقيقهم لمفهوم الأمة، كما نجح به (الصهاينة) ولو إلى حين، وكذلك (المستعمرون)، والمغول (بزحفهم)، وهذا على نجاح أمم الإجرام، وافتقاده هو علة فشل أمة السلام والإسلام، ولاسترجاع الاهتمام بمفهوم وحدة الأمة في الإطار العملي، يمكننا أن نلاحظه في التجمعات الصوفية، (كالسنوسية) و(المهدية) من خلال قيم [التحاب، والتآخي، والتعاون، والتزاوج، والتآنس، والفعل والكف عنه، وحقيقة تحقق هذا مرتبط (بالهداية الربانية) شرط أن توفر المجموعة المتناغمة السياق المبادر لتلقي هداية الله لأفرادها، (بالطاعة والالتزام والإخلاص)، من خلال نشاطاتهم القيمية المذكورة آنفاً، وهذا يمكن من خلال توثق عرى التآخي العملي قبل النظري في الروابط المحدثة المجتمعية، (اتحادات + جمعيات+ نقابات+ الأحياء+ البلديات...الخ)، على أن يتبنى المسلم الترابط والتعاون العشري للمقربين منه على غرار (عشرة نقباء وعرفاء ووكلاء) يوم العقبة ويوم حنين، ويكون هذا العمل نواة التآخي الحقيقي على الإسلام، والتضامن بينهم في تمتين العلاقات الأخرى المجتمعية والرسمية، واعتبار يوم الجمعة يوم لقاء دائم في حي متقارب البيوت، لممارسة الحياة الرحبة السعيدة المتعاونة، كما فعل رسول الله بين المهاجرين والأنصار، للتنمية الروحية والمعرفية والاجتماعية الاقتصادية، وربط عشرة عروات ببعضها كأسرة واحدة ممتدة، ترعاها الدولة والحكومة، بجهاز تنظيمي إداري، لتحقيق مشروعات الأمة، ومشروعات المجتمع، والقرية والمدينة.
التوحيد مبدأ الأسرة:
أولاً- أفول نجم مؤسسة الأسرة عالمياً:
1- المساواة: خطط الشيوعيون لإلغاء التنظيم الأسري، بالمشاعية والإباحية، لكنهم فشلوا وتراجعوا عن ذلك، وسارت الرأسمالية في نفس الطريق، مما أدى إلى تآكل الرابطة الأسرية لديهم كذلك، وشيوع مواليد أطفال غير شرعيين، وعلاقات أشبه بالحيوانية، وفقدت الأجيال المعاصرة فيهما مفهوم الاستخلاف الثقافي بين الأجيال، فماتت الفضائل، وانتشرت الشذوذات والرذائل، وبقي العالم الإسلامي والعالم الثالث محتفظاً بدرجة معقولة من المفهوم الأسري إلى اليوم، خاصة أن الإسلام يربط الأسرة بمفاهيم قيمية وإنسانية وأخلاقية لا زالت لها فاعلية، في المحافظة على النظام الأسري والاجتماعي.
2- الأسرة كوحدة تأسيسية: في المستوى الأول للتكاثر والبقاء، والثاني لحسن التعامل بين الأفراد، والثالث المستوى القبلي تكميلي شبيه بمفهوم الأمة المصغر، أما المستوى الرابع فهو العضوية الدينية لإقامة شرع الله، ليعم البشرية كلها، دون فرز أو عنصريات، فتصبح الأسرة هي الناظم المؤسسي للوجود الإنساني الحضاري، ومفهوم القوامة بين الرجل والمرأة وكذلك مفهوم صلة الرحم والقربى، هي الناظم للمسؤوليات الأسرية الفردية والجماعية، لنجاح الأسرة وسعادتها، وتحقق الأسرة مفهوم التوحيد من خلال الأحكام الناظمة لعلاقات أفرادها، ومسؤولياتهم تجاه طاعة الله، وأحكام شريعة الله.
3- مشكلات معاصرة:
1- المساواة بين المرأة والرجل: في القيمة الإنسانية والواجبات الدينية والدنيوية، والحقوق المدنية.
2- التكامل بين دور المرأة والرجل: في قيام المرأة بدور الأمومة، ودور الرجل في الأبوة والقوامة، وهو لصالح المرأة في هذا الجانب بالكلية.
3- السفور والعزلة: قبل الإسلام ومشاركة المرأة في بناء المجتمع والأمة من خلال (أخذ البيعة) و (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) و (الهجرة والجهاد) و (الوقر في البيوت) من غير ضرورة أو مبرر للخروج منها، قيم لها وزنها في الإسلام والحضارة المنبثقة عنه.
4- الزواج والطلاق: واجب ديني حضاري، يعمل الإسلام على تيسير أموره والحد من معوقاته، لكن التغريب الأوروبي طال شبابنا وشاباتنا في تعويق القيام به، من خلال المغالاة والاعتبارات المادية، ومن ذلك.
أ- تقديم واشتراط الاستقلال المادي عليه.
ب- يسر العلاقات المحرمة، وتفضيلها على الارتباط.
ج- الاستغناء عن الأسرة الكبيرة الممتدة بالعائلة والأهل.
1- فوائد الأسرة الممتدة: التعاون والتراحم والتناصح، وتكوين نواة خلية اجتماعية صلبة، أمام الفردية، يضاف تجمع ثلاثة أجيال بثقافة معرفية متقاربة، وتنوع أعمار تحقق الانسجام التآلفي، والمشاركة الوجدانية.
2- المرأة المسلمة عاملة ومهنية: في أسرتها الصغيرة والممتدة، وأعظم دور لديها الأمومة، يضاف إليها مهمة نشر الإسلام والدعوة إليه، ولا يمنع إن لم يكن يشجع الإسلام المرأة لإتقان مهنة تفيد فيها أسرتها ومجتمعها.
التوحيد مبدأ النظام السياسي:
يؤكد التوحيد: على وحدة الأمة، القائمة على الأخوة الإسلامية، يجمعهم طاعة الله ورسوله، متجاوزين كل أنواع التمايز الأرضي، لاجتماعهم في فكر وشعور وسلوك موحد يوجهه منهج علوي رباني مصدره (الكتاب والسنة) ومعيار التفاضل بينهم (تقوى الله)، وحسن (التزامهم الشرعي)، ونظامهم السياسي الجامع قائم على (الشريعة)، وشعارهم (الشهادتين)، مهما كانت ظروف حياتهم في أي بقعة من الأرض، او أي عصر من الزمن، طالما أن الذي يحكمهم شرع الله، وإلا فإن الهجرة إلى بلد يساعدهم على قيامهم بواجب طاعة الله والتزام ما شرعه الله، تكون حينها ضرورة وواجب.
أولاً- التوحيد والخلافة: لإعادة تشكيل العالم الذي ائتمننا الله عليه، من ناحية التعريف بخالقه الأحد الفرد الصمد، وتنظيمه سياسياً واجتماعياً على منهج الله الذي بينه في كتابه وسنة نبيه، ومفهوم الخلافة والاستخلاف هو تنفيذ الإرادة الإلهية من قبل الإنسان، ومفهوم (الأمة الإسلامية) هو الضامن لهذا التنفيذ، ويعبر عنها مفهوم (الدولة) في العصر الحديث وأجهزتها كافة، لكن مفهوم الخلافة هو المصطلح الأساس، الذي لا تعبر عنه الدولة في مفاهيم العصر الحديث، للفوارق التالية:
1- إجماع الرؤية: (العقل والوعي):
أ- بمعرفة القيم التأسيسية للإرادة الإلهية: وإن كانت لانهائية في الأصل، لكن نواتها مفهومة من خلال التوحيد والمنهج الشامل، المعبر عنه بالمصادر (الكتاب والسنة) و(العقل) كما في علوم الإنسان: نفس وأخلاق، و(العلوم الطبيعية) و(المجتمع) في العلوم الاجتماعية. [وإطار ذلك: الفطرة السوية، أكثر من التأطير الأكاديمي].
ب- معرفة القيم التأسيسية للإرادة الإلهية عبر التاريخ البشري، توضحه سير الأنبياء، والسيرة النبوية، وسيرة خلفائه الراشدين، يحكمها الحدس والتجريب (للتأسي والاقتداء).
ج- المعرفة بالحاضر: أكثر من ضرورة، لعلاقة التطبيق السابق بالمستقبل المنشود، من خلال استخدام واستثمار الموارد المتاحة في هذا الحاضر، من خلال مفاهيم: (إجماع) الرؤية، و(الحنيفية) للمراجعة الدائمة، و(التجديد)، و(الاجتهاد) الفقهي، والسياسي.
2- إجماع الإرادة: هو إجماع القدرة من خلال: العصبية، والحس المشترك (البيعة والعهد) على القاسم المشترك بين المسلمين، كما عبر عنها ابن خلدون بمفهوم (العصبية والعصبة)، للانخراط في الدعوة العامة والمطالبة بتحكيم شرع الله، وأوضح تعبير عنها تلبية الحجاج في الحج، (لبيك اللهم لبيك)، على شرط أن تكون تلبية منضبطة كما هي الصلوات منضبطة بمواقيتها، ومسجد الحي لكل أهل محلة فيها، لئلا تكون تلبية تحكمها العواطف الفوضوية والاندفاعات غير المحسوبة، لأن الإسلام نظام دقيق شامل، وبهذا تصبح العصبية الإسلامية عالمية، وكما هو صف الصلاة في صلاة الجماعة بالمسجد (استواء الصف، ومحاذات الكتف بالكتف) في إطار التنظيم المؤسسي للخلافة، الذي يستبعد كل أنواع الفوضى والعشوائية والتشدد أو التساهل، بما يحقق (الوسطية)، و(التعاون) المعرفي والتناصح، نراه في الذروة من خلال خطبة صلاة الجمعة، ومناقشتها لمصالح المسلمين.
3- إجماع العمل: في تطبيق خيار عمل الصالحات الموصلة للفوز بالجنة، من خلال إشباع الاحتياجات المادية والمعنوية لكل فرد في الأمة لصناعة (الحضارة الإسلامية) على ما تقتضيه (القيم الإنسانية) الفطرية، لإرساء مراد الله في (النظام الكوني)، وهذا ينفي مفهوم العزلة والرهبنة، التي تدير ظهرها لما خلقه الله لعباده في الأرض، وتأبى شريعة الله التنكر للحياة المتوازنة الوسطية، وتعتبر الفقر مرض وعاهة ينبغي علاجها واستئصالها، ولهذا حرم الإسلام الربا والاحتكار، والغش والتدليس، ولم ينس الإسلام تزويد كل فرد حسب الاستطاعة بالمعارف الأساسية والعلوم التي تساعده على الرقي بنفسه، وتيسير طاعته لله والقيام بواجباته التعبدية الشاملة، وتعبئة الأمة لصد أي عدوان على وجودها وكيانها، (بالإعداد) والجهاد الكفائي أو العيني يتكفل بحماية الأمة ومقدراتها، لتحقق ما وصفها الله به من خيرية.
ثانياً- التوحيد والقوة السياسية:
1- الإسلام والعالم الإسلامي: الحقائق المحزنة: عدد المسلمين اليوم كبير، لكنهم لا يعملون على تنمية قدراتهم وامكاناتهم الهائلة في خدمة أنفسهم، ولا في خدمة دينهم، بل يبددون طاقاتهم في غير طائل، سوى في خدمة أعدائهم، ولا توجد دولة تعمل على تطبيق الشريعة، سوى ما يتعلق بذر الرماد في العيون، أو وضع حبة الكرز على كيكة مكونة من مفاهيم وقوانين غربية، ولا توجد دولة واحدة في حالة تعبئة شبه المجتمع النبوي الذي أسسه رسول الله في المدينة المنورة، والأسوأ من ذلك إفلاس مؤسسات التعليم فيها، وازدياد الأمية في العالم الإسلامي، وازدياد هجرة حملة الدكتوراة إلى العالم الغربي، وتفريغ العالم الإسلامي من المتعلمين، ولا توجد مؤسسة واحدة تحاول نقل الأمة من حالة الملك العضوض والجبري، إلى حالة تجسيد النموذج الرباني لوجود الإنسان على الأرض، وقادة الأمة يفتقدون الرؤية السليمة لبناء حاضرها ومستقبلها، لتكوين المسلم الصالح المصلح؛ الحامل لأمانة التكليف الرباني في إعلاء كلمة الله في الأرض.
2- وعد القوة السياسية: يحزننا أن لا نرى دولة أو مؤسسة تحمل على عاتقها الدخول للتاريخ الحديث من موقع الفاعل المؤثر الذي يهيء الأمة لصناعة مفهوم ووقائع ما تتطلبه الخلافة الإسلامية في الأرض، كما تلقاها وقام بها أبوبكر الصديق رضي الله عنه.
التوحيد مبدأ النظام الاقتصادي
الشاعر الهندي (محمد إقبال) أول من أعلن أن جوهر العمل السياسي إبراز روحانية الإسلام في العصر الحديث، ولهذا نحتاج إلى شخص آخر يسير على خطاه فيعبر عن أن العمل الاقتصادي هو تعبير عن روحانية الإسلام كذلك، لأن الإسلام لا يرى فصل الدولة والسياسة والاقتصاد عن الإسلام، وقوام ذلك كله ميزان العدالة فيه، وهذا مرتبط بالتوحيد كذلك من نواحي عدة:
أولاً- الأولوية المشتركة للمادي والروحي:
1- مغايرة المسيحية: لقول الإنجيل: " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة من الله" (إنجيل لوقا: الإصحاح الرابع)، لكن الرهبان أسقطوا التوازن الذي تتضمنه العبارة إلى نبذ المادة والاستغراق في الروحانية والانعزالية والتقشف، على عكس ما أراده منها عيسى عليه السلام.
2- الحل الإسلامي: أ- الإسلام والأديان: أتى الإسلام بانفراجة من التدين الهندوكي الذي اعتبر العالم هو الإله المتمثل في المخلوقات المدانة باعتبارها الشر الذي لا يريده (البراهما) حتى يتخلصوا من ماديتهم وشرورهم، من خلال التمييز بين النخبة المحظية بالسمو، والمنبوذين الخدم المخلوقين من قدم الإله، بينما تمثلت البوذية الصينية بتجرد عن الطمع الدنيوي من خلال العزلة والعيش على هامش الحياة والآخرين، لتكون لهم رياضات نفسية لا تسمن ولا تغني من جوع، إلا بتقديس بعض الرهبان الذين هجروا دنياهم للوصول إلى التسامي النفسي الذي يحررهم من الدنيا كالهندوسية والمسيحية، بينما اليهودية سعت كذلك إلى تجسيد الإله كخادم قومي لشعب مختار من قبله دون سائر البشر، ولهذا جاء الإسلام فرد البشرية إلى دين الفطرة، المغاير بين الخالق والمخلوق، والإله الذي يطاع يكافئ المطيع بالآخرة (بالجنة) على أن يجعل من الأرض والدنيا جنة كذلك بالعمل الصالح، وتنفيذ إرادة الله فيها، فأعاد الإسلام التوازن بين المادي والروحي، ولهذا كان الدين الوسط العدل الفطري المستقيم مع جمال الكون وعظمة الخالق الرحمن الرحيم.
3- مضمونات التوحيد الدنيوية: مغايرة الله الواحد الأحد لجميع المخلوقات، واعتبار تأليه أي شيء سواه شرك وكفر وضلال، واعتبار جميع البشر متساوون أمامه في التكاليف والحساب، وأن التوحيد يعني أن الكل سواه عبيد له تعالى، وكان الحب من قبل العباد لخالقهم أصل التدين في كل الملل، لكن انحرف هذا الحب إلى بغض للعالم والأشياء، والترفع عن العناية به، إلى إهمال هذا العالم، أو الاتجاه نحو عبادة أجزاء منه كممثل للإله، وربما وقعوا في نبذه لتحقيق التسامي عنه مرضاة لله باعتباره غاية الغايات، لكن الإسلام لم يخلط بين الإله المطاع والعالم الوسيط المخلوق الذي امتحن الإنسان فيه بالتزام مراد الله منه تسخيرا وتنمية واستهلاكاً، مع اجتناب الممنوع منه كما منع آدم من الشجرة في الجنة، ولهذا أصبح الإسلام هو الجامع لخيري الدنيا والآخرة معاً، والتفاضل بين الناس فيها بالتقوى، والعمل الصالح، ولهذا وصف الإسلام عند أهل الأديان بأنه دين دنيوي، لكنه ليس على غرار اليهودية المتحجرة لأنه جمع بين قيمتين أخلاقيتين فيه:
أ- الدنيوية وأخلاقية العمل: يلزمنا توحيد الله تعالى، أن نلتزم القيم الأخلاقية في أفعالنا، قبل الفعل بالنية والقصد، وأثناء الفعل بالعمل والسلوك، من خلال انضباطنا بمقتضياتها الشرعية، والإخلاص بمقصدها وتنفيذها، حسب استطاعتنا، والعزلة الفردية (بالتصوف والرهبة) مرفوضة في الإسلام، إلا على سبيل التدريب، (كالتحنث والاعتكاف) الشرعيين، لتصويب الأمر بعدهما وإتقانه، ولهذا قام النبي بجميع الأدوار المطلوبة من المسلمين في حياتهم العملية، من رئاسة الدولة، إلى الخدمة داخل البيت، وسائر الأعمال الأخرى الوظيفية، والعمل العام بكل أشكاله وصوره.
ب- الدنيوية والأخروية في الإسلام: لا تنفكان عن بعضهما في دار الاختبار والامتحان على الأرض، بينما في اليهودية الآخرة هي بدل التيه والضياع والسبي في الأرض، وفي المسيحية الآخرة بديل مملكة الشيطان وقيصر والجسد، بينما في الإسلام مملكة الأرض ومملكة السماء واحدة، الأولى للعمل الصالح، والثانية جزاء هذا العمل، ولا يجوز التفريط بأحدهما على حساب الأخرى.
3- الدنيوية الإسلامية ومسعى الإنسان فيها:
أ- الفاعل الأخلاقي وشخصه: التزام المسلم بالشريعة والشعائر معاً، بما يؤمن احتياجاته واحتياجات مكفوليه، للعيش الكريم، ومنع التطفل والتسول وهو قادر، وكراهية تواكله وعجزه وتقاعسه، لأن الله يسر له سبل عيشه، وشجعه على العمل الجماعي والأسري والمجتمعي، حتى في العبادات الشعائرية.
ب- الفاعل الأخلاقي والآخرون: مسؤوليته بالتعاون معهم تعلماً وتعليماً، وشورة ومشاورة، ونصحاً وتناصحاً، بما في ذلك المفاهيم التربوية والمشاركات النفسية والسياسية، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاهتمام بالمحتاجين والأيتام ورعايتهم، وإلا فهو في عداد المكذبين بالدين.
ج- الدنيوية والإنسان الاقتصادي: الإنسان كائن اقتصادي بالضرورة، لكن نموذجه الاقتصادي من اختياره، والدين يوجهه للصورة المثلى في هذا الاختيار، ليقوم بأداء ما يجب عليه تجاه مسؤولياته عن نفسه والطبيعة والآخرين والمجتمع، في إطار القيم الأخلاقية الربانية، بخلاف الأديان التي جعلت هذا الأمر مؤجل للآخرة، بينما في الإسلام هدفه إسعاد الإنسان من منطلق "الدين المعاملة".
ثانياً – عالمية النظام الاقتصادي الإسلامي: لأنه موجه في نظامه الاقتصادي لنفع الناس جميعاً، وخاصة أتباعه، لينقلهم من حالة الضنك، إلى حالة السلام والكرامة والكفاية، دون تمييز بين البشر، إذا قبلوا نظامه هذا، ولهذا فإن قوانين الدول القومية بين بعضها من الجور الذي لا يقبله منهج الله، لأن الأرض كلها ملكه تعالى لعباده، ولهذا كان الاستغلال الاستعماري للآخرين مرفوض في الإسلام، ويؤدي إلى الحروب والأحقاد بين الشعوب بسببه، لأنه ظلم وحرمان وعدوان على الآخرين، والثورات القديمة والحديثة بسبب هذا الظلم والاستغلال، وأشار إلى هذا "ابن خلدون + وأرنولد توينبي" ولهذا أزال النبي الحواجز الانعزالية بين قبائل الجزيرة العربية، وبصيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أزالت الحواجز بين شعوب الإمبراطوريات الثلاث، فارس والروم والجزيرة العربية، فوصلت القوافل والسفن التجارية إلى أنحاء أغلب الأرض المفتوحة، وغير المفتوحة، بحماية الدولة الإسلامية، واعتبار مقياس الحلال والحرام هو الضابط للتجارة الحرة، وإلا فالقضاء والأحكام الناظمة لها توجهها في الاتجاه السليم النافع، منعاً للاحتكار أو الاستغلال، لمنع وضع الحواجز الفاصلة بين الأغنياء والفقراء.
ثالثاً – أخلاقيات الإنتاج: تبع لوظيفة الخلافة والاستخلاف في الأرض، لإحسان إعمارها، وتلبية احتياجات سكانها، والحض على العمل والإتقان والإحسان فيه، وتحقق هذا في دولة الإسلام من أول يوم لإنشائها، فيما عرف بالمؤاخاة والتناصر بعد هجرة المكيين إلى المدينة، وكلمة مادة (عمل) وردت في القرآن 347 مرة، ومن يرفض العمل والاستثمار لغناه بالميراث أو الكنوز التي يملكها فإن فريضة الزكاة كفيلة بتبديد ثروته بأسرع مما نتصور، من خلال الصدقة السنوية، ولهذا سيضطر الغني للعمل، وإلا فإن الميراث والاستهلاك والزكاة كافٍ أن يبدد ماله، مهما بلغ من الثراء، ولهذا كانت أخلاقيات الإنتاج ما يأتي:
أ- الاستخدام المسئول للموارد الإنتاجية: دون إسراف ولا تبذير، على سبيل الانتفاع المشروط، وما صنعه الغربيون في الطبيعة والبلاد الفقيرة مدمر صحياً واقتصادياً وزراعياً وجمالياً، (إجرام منظم) لا مسؤول، لتدمير وتخريب العالم والبيئة والطبيعة، بالسموم المشعة، والتبديد لكل الثروات لصالح ثراء كمي، لا نوعي، يهلك الحرث والنسل والحجر والشجر والإنسان والحيوان، بل طبقات الغلاف الأرضي (الأوزون).
ب – طهارة الإنتاج: من التغرير بالمستهلكين، من خلال فن التغليف المضر، والدعاية الخادعة للتسويق، بالتأثير على الأطفال والشباب والنساء بالدعاية المخادعة، واستخدام علم النفس الحسي والشهواني، دون ضوابط أخلاقية ولا علمية، ولا صحية، ليصبحوا ضحايا التاجر والمصنع والبائع، بينما في الإسلام ضوابط الإنتاج أربعة: 1- إنتاج المفيد النافع، 2- اجتناب إنتاج ما يضر بالناس، 3- عرض محتوى المنتج بصدق وواقعية، 4- التزام المنتج (تاجر أو صانع) الشعور برقابة الله في إنتاجه، دون أن يحتاج إلى رقابة الدولة.
ج- إنتاج ما يدر ربحاً مشروعاً وعادلاً: دون تسعير محدد – إلا في بعض السلع الضرورية – وتحديد الحد الأدنى للربح أو الأجور كذلك، حال وجود الخلل والحاجة.
رابعاً – أخلاقيات الاستهلاك: الاستهلاك مباح من الحلال إلى الحد الذي لا يصل إلى الإسراف أو التبذير، وتحدده الحاجة الواقعية، وليس الحاجة النفسية بدافع التفاخر والشهرة والتعالي، لأن هذا الحد تعالجه الصدقة والزكاة والإحسان، حسب الأحكام المفصلة لمقاديرها وشروطها وأخلاقياتها، ومصارفها، ويشمل مصرف في سبيل الله، كل ما يمكن أن تقوم به الدولة لخدمة المجتمع والناس، واعتبر الإسلام إهمال حقوق اليتيم والفقير والمسكين كفر بالدين وتكذيب، وتقع مسؤولية وقوع هذا الأمر على قادة المجتمع، قبل أن تقع على مسؤولية جميع أفراده حسب قربهم أو بعدهم ممن يحتاج إلى رفدهم وصدقاتهم، لأن التكافل فريضة إسلامية في النظام الاقتصادي الإسلامي.
التوحيد مبدأ النظام العالمي
أولاً – الأخوة العالمية: في الإسلام يجسدها مفهوم الأمة الواحدة، القائمة على الدين الذي ارتضاه الله لعباده وهو (الإسلام)، الذي ابتدأ مع آدم وختم مع محمد صلى الله عليه وسلم، وأصدق ميثاق معبر عن هذه الأخوة العالمية القائمة بين الناس على أساس الدين (وثيقة المدينة) الصحيفة، [أول وثيقة دستورية في العالم]، ودخل في هذا العهد بعد سنوات – نصارى نجران – وألحق بهم بعدها المجوس، والهندوس، وغيرهم من الأديان، ولم يكن غالبية الناس في الدولة الإسلامية من المسلمين، [هندوس + نصارى+ يهود+ زردشتيين + صابئة...الخ]، وكان 1- السلام العالمي: شعار الإسلام ومطلبه، ليشمل كافة الجنس البشري، ومن يرفضه، إنما يعبر عن حالة كامنة لإعلان الحرب في أي ظرف مناسب للرافض، أو هو عمل يراد منه عزل شعب ما عن مخالطة المسلمين والسماع منهم ما يدعوهم إليه من منهج الله لأهل الأرض، وهو بهذا يعتبر رفض للحوار ورفض للتعاون في بيان الحق بالطرق السلمية، لتحقيق واجب البلاغ الذي فرضه الله على من وعيه وعرفه، وهذه عزلة خطرة، قد تؤدي إلى ما تؤدي إليه الحروب، ولا يجبر أحد على قبول أو رفض مقتضى البلاغ.
2- قانون الأمم الإسلامي: يعتبر من يدخل فيه من الشعوب بعهد سلام، في حماية الدولة الإسلامية، ونظامها العالمي السلمي، سواء قبلت الإسلام أم لم تقبله، فإن خيار الدخول في الدين، أو خيار الدخول في النظام العالمي، يحترم مع الاستقلالية الخاصة للكيان الخاص، (لأنه لا إكراه في الدين)، والقضاء الحر هو الذي يفصل في المنازعات بين الأفراد والجماعات، مسلمين وغير مسلمين، على قدم المساواة.
3- الحرب: النظام العالمي الإسلامي، لا يتطلب من المنخرطين فيه من غير المسلمين سوى " الجزية" وإذا شاركوا مع المسلمين في الدفاع عنه، تسقط الجزية عنهم، ويحق لهم المشاركة السياسية في أعلى مناصب الدولة الإسلامية، (كمنصب رئيس وزراء)، وما دونه من المناصب، ولا يقبل الإسلام قتل الأطفال والنساء والعباد والرهبان والمدنيين، ومن يقع عليه من ذلك شيء، يقاضي المتسبب، حتى لو كان أميراً أو خليفة.
التوحيد مبدأ الجمال:
أولاً – الوحدة الفنية الإسلامية وتحدياتها: بدأت منذ وصول الإسلام إلى الشعوب والثقافات، فطبعت فنونها بطابع التوحيد الإسلامي ووحدته عبر تأثير القرآن والسنة، واللغة العربية والشعر الإسلامي بكافة لغات الأمم والشعوب الإسلامية، فأبدعت بالصوت والحرف والرسم والألوان والأشكال تعابير خاصة بالإسلام، مفارقة كل الفنون الوثنية عند من لا يدين بالإسلام، معتمدة على الحدس والحس والشعور، ويظهر ذلك جلياً في فن العمارة الإسلامية ومساجدها، وزخارفها على الآنية والتحف والجدران، والملابس والآنية، وديانات الشرق كذلك حافظت على ترفع فنونها عن الصنمية خاصة اليهود، حيث خلت معابدهم من الصور والأصنام.
ثانياً – التعالي في الجمال: التوحيد والإله هو الآخر المطلق المغاير بالكلية للطبيعة وجميع الكائنات والحوادث، ولهذا يستحيل تشبيهه بشكل أو حدس حسي أو جمالي، والفن الجمالي هو مقاربة لجوهر معياري عقلي يتجاوز الطبيعي بشيء ما ورائي، يفوق الموجودات المتخيلة بتجاوز قصورها المدرك، ولهذا يمكن التعبير عن الفن بأنه: "القراءة في الطبيعة بحثاً عن جوهر غير طبيعي" حسب الاستطاعة، لكن وصل البعض في التعبير عن هذا الفن والجمال إلى ما يطلق عليه (التأله) وهو ما أوصل البعض إلى ما يسمى (التقديس)، لكن هذا انتكس في الفن الروماني، إلى الانحطاط والإسفاف في التعبير عن الفنون الجمالية [ نحتاً أو تصويراً أو شعراً] إلى الحسية المفرطة، لكن التوحيد الإسلامي منع مثل هذا النوع من الفن الهابط، لأنه لا يقبل تجسيد الألوهية، لأنها مخالفة لما عليه الطبيعة، وهذا جعل للإسلام مفخرته بالخلو من الوثنية والأصنام، أو الخلط بين الخالق والمخلوق، لكن هذا لا يمنع الفنان المسلم من أن يبدع في فنه، متسلحاً بقاعدة (لا إله إلا الله) لأن الله هو المطلق "المفارق الأسمى" للطبيعة والمخلوقات، فأبدع بالخطوط والزخارف و(الأرابيسك) .
1- الفتح المعرفي الإسلامي في علم الجمال: سبحانه وتعالى وجود مطلق ويجل عن الوصف، لأنه وجود مستعصٍ على الوصف، لكوننا لا نستطيع الارتفاع عن وجودنا المادي، وحتى في فن الطبيعي المحاكي للطبيعة، ليس هو الطبيعة أو الطبيعي، لكونه تمثيل ومشابهة ناقصة، فرسم زهرة، لا يعني أنها زهرة، لاستحالة قدرتنا على الخلق، ومع التعبير عن الله فنياً يكون أشد وأبعد.
أ- الوعي العربي: هو الوسط الذي اختاره الله لرسالته الخاتمة؛ مكاناً وزماناً وإنساناً، في نسق الوحي الثاني (النبوة)، واللغة العربية التي اختارها الله لتنزيله ووحيه الخاتم وقدرتها على التعبير عن كلام الله ومراده وأوامره، تشكل معجزة سابقة على مباشرة الوحي لاستيعابه والتعبير عنه في كتاب الله وسنة نبيه، ولغة العرب التي أرادها الله أن تكون حاملة لهذا الوحي ونقله للبشرية قاطبة، جذور اللغة العربية ثلاثية، كل جذر قابل للتصريف إلى ثلاثمائة شكل مختلف بتغيير الإعلال، في الحرف الأول أو الثاني أو الثالث، ويبقى معنى الأصل لا يتغير بهذه الاشتقاقات، وهذا ما يقربها إلى الفهم ويجعل المعاني منطقية ومترابطة ومنسجمة، وهذا ما نراه كذلك في فنون الرسم العربية (الأرابيسك) وتداخل الأشكال الهندسية المتنوعة للتعبير عن الجمال والخلق و(اللانهائي والمطلق)، والشعر العربي لا يبعد عن هذه الفنون من خلال تراكيبه وبلاغته وتركيباته العروضية، ومع ذلك نجد الكلمات العربية وتصريفاتها لا نهائية، بناءً على قابلية التصريف والتوليد فيها، ولهذا أمكن للسامعين البلغاء أن يضيفوا على قصيدة أي شاعر أبيات أخرى لو فهموا مقاصده وشخصيته في قصيدته إرتجالاً أو ارتحالاً.
2- القرآن الكريم: مأثرة الإسلام الفنية الأولى، الذي شكل العقل المسلم على مر العصور، وأذاق قلبه ووجدانه عظمة جماله وإعجازه، وتحدى الله به بلغاء العرب أن يأتوا بمثله أو ما يشبهه، لكنهم لم ينفكوا عن التأثر به وبمقولاته وتعبيراته التي نضحت به لغتهم، التي عارضوا بها هذا القرآن، أو سايروه، كما ظهر في لغتهم المروية التي نقلوا بها أحاديث النبي وسيرته وميراثه من جوامع كلمه إلى الأمم الأخرى في فتوحاتهم.
ب- التحقق الجمالي في الفنون المرئية: عند الغربيين أخذ شكل مشابهة الطبيعة، إنساناً وحيواناً ونباتاً، أما عند المسلمين فإنهم لم يلتفتوا كثيراً إلى الطبيعة بمقدار ما كان وعيهم نحو إدراك معرفة الله ومحبته من خلال تخيل نمطية الطبيعة، لا تفردها وتنوعها، فاقتطعوا الشكل المكرر الإبداعي في جزئيات الطبيعة للتعبير عن أشكالها المتكررة، واستخراج الاشكال الهندسية فيها من مثلثات ومربعات ودوائر وخماسيات....الخ، المعبرة عن الكائنات الحية فيها من الشجر والثمر، ووضع هذا كله في اللوحات والجدران والسجاد والكتب والأقمشة وعلى الأبواب والنوافذ، وفي الردهات والقناطر والأقواس المعمارية.
ج- الخط العربي: استخدمت الكتابة لدى الأمم الأخرى الهندوسية والمسيحية لتحقيق وظيفتها الرمزية، بأبسط صورها الوظيفية، لكن بعد الإسلام أخذ الخط العربي منحاً فنياً جديداً للتعبير عن مفارقة الطبيعي والطبيعة، للتعبير عن المطلق أو اللانهائي من الحياة، متجاوزاً المنطق العقلي الرتيب، إلى الروحانية والجمال الروحي والقلبي والمشاعري، بحيث حول الحروف المفردة إلى حروف متشاركة متصلة، كأنها أعضاء مترابطة في جسد واحد، حتى غدت الجملة كائن حي له أجنحة يطير بها، مع رأس وقدمين، وطوع الفنان المسلم الحروف في التشكيل كأنها كائن حي يتشكل مع كل جسد كلمة بصور أخرى مغايرة لما هو عليه في كلمة أو جملة أخرى، وهذا ما سما بالخط والحروف والكلمات إلى مراتب خيالية معبرة، تنبثق مع جمال بديع لا مثيل له سوى الشهادة بالشهادة، (لا إله إلا الله) و(سبحان الله)، ونجد هذا واضحاً في تطور ونمو الكتابة القرآنية للقرآن الكريم وزخارفه عبر جميع العصور، إلى يومنا هذا، لم يتوقف الفن العربي، في كتابة القرآن وتحسين هذه الكتابة، على المستوى الفردي والشعبي والعالمي، ووصف (الزمخشري) ما قام به الوزير " محمد أبا علي بن مقلة" من بيان سمات الكتابة الخمسة: 1- التوفية: (وهي إعطاء الكلمة حروفها كاملة) 2- والإتمام: (إعطاء كل حرف ما يستحقه من الحجم والتوكيد) 3- والإكمال: (إعطاء الحرف شخصيته في الترصيف والفلطحة والتقويس والظهور) 4- والإشباع: (من ترقيق أو تفخيم في جرسه) 5- والإرسال: (إنسياب الخط وحركته)، وعبر أبو حيان التوحيدي عن الكتابة بقوله: "هي تصميم روحي بوسائل مادية"، حتى أن القرآن أقسم بها وبوسائلها في قوله: (ن. والقلم، وما يسطرون1) سورة القلم، ولهذا ارتقت صنعة وفن الكتابة في العصر الإسلامي حدا جعلها في درجة من الأنسنة والسمو والتحليق العلوي تتطاول وتسمو لتواكب عظمة الإسلام وقيمه الروحية والإنسانية.
تم تلخيصه في 20/5/2024م

شارك: