أبو الحسن الندوي (1913- 1999م) ولد في الهند ودرس في دار العلوم، يعد من أشهر العلماء المسلمين في الهند، وكان رجلاً ربانياً، له كتابات وإسهامات عديدة في الفكر الإسلامي، منها: موقف الإسلام من الحضارة الغربية، السيرة النبوية، من روائع إقبال، نظرات في الأدب، من رجالات الدعوة، قصص النبيين للأطفال، وبلغ مجموع مؤلفاته وترجماته 700 عنواناً، منها 177 عنوانا بالعربية، وقد ترجم عدد من مؤلفاته إلى الإنجليزية والفرنسية والتركية والبنغالية والإندونيسية وغيرها من لغات الشعوب الإسلامية الأخرى، أسس المجمع العلمي بالهند، ورابطة الأدب الإسلامي كما أنه: عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، وعضو المجلس التنفيذي لمعهد ديوبند، ورئيس مجلس أمناء مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية، ومعرفته باللغة الإنجليزية إلى جوار العربية والأردية والهندية والفارسية ساعدته على بلوغ غاياته والتبريز بها، منح جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام.
وكان مشروعه الدعوي يقوم على:
- تعميق الإيمان في مواجهة المادية.
- إعلاء الوحي على العقل.
- توثيق الصلة بالقرآن الكريم واعتباره دستور المسلمين.
- توثيق الصلة بالسنة والسيرة النبوية.
- إشعال الجذوة الروحية (الربانية الإيجابية).
- البناء والوحدة لا الهدم ولا الفرقة، في سبيل إعادة مجد الإسلام.
- إحياء روح الجهاد في سبيل الله.
- استيحاء التاريخ والبطولات.
- نقد الفكرة الغربية والحضارة المادية.
- نقد الفكرة القومية والعصبيات الجاهلية.
- تأكيد عقيدة ختم النبوة.
- مقاومة الردة الفكرية والغزو الفكري.
- تأكيد دور الأمة المسلمة شهادتها على الأمم.
- بيان فضل الصحابة ومنزلتهم في الدين.
- التنويه بقضية فلسطين وتحريرها.
- العناية بالتربية الإسلامية الحرة المستقلة.
- العناية بالطفولة والنشء بوصفهم رجال الغد.
- إعداد العلماء والدعاة الربانيين، بمعرفة إسلامية، ورؤية عصرية.
- ترشيد الصحوة والحركات الإسلامية، بالاعتدال والوسطية.
- العمل على دعوة غير المسلمين للإسلام.
إن الشيخ يريد من طرحه في كتابه هذا بناء العالم على أسس من العفة والإيجابية والبناء، والحرية والتجديد، واليقين والإيمان، والعدالة والكرامة، لتنمية الحياة وترقيتها، وإنصاف المحقين، لأن الإسلام هو الرسالة الوحيدة القادرة على انتشال الناس من جاهليتهم وضياعهم، لإنقاذهم من الانهيار والانحلال.
ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟
لم يكن انحسار الدولة الإسلامية عن الواقع العالمي سوى مأساة إنسانية عامة لم يشهد التاريخ أتعس منها ولا أعم، فلو علم العالم حقيقة هذه الكارثة، وعرف مقدار رزيته بفقدانها دون عصبية، لاتخذ لمثل هذا اليوم عزاء ورثاء، ولتبادلت شعوب العالم وأممه التعازي، ولبست الأمة ثوب الحداد.
الباب الأول: نظرة في الأديان والأمم:
1) المسيحية: أصبحت الديانات العظمى فريسة العابثين المحرِّفين والمنافقين، فصار أمر شعوب العالم فوضى وانحلال، وتحول ما تبقى من المسيحية إلى طقوس وثنية وأفكار خرافية، ثم تحولت إلى مهاترات كلامية عن طبيعة المسيح، وحرب وقتال يشيب الرأس لهوله وأهواله، وبلغ الانحلال الاجتماعي غايته في الدولة الرومية والشرقية، وعلى كثرة مصائب الرعية ازدادت الإتاوات والضرائب، وعزف الناس عن الزواج وقضوا مآربهم بالفجور والزنا، وصارت الخيانة والرذيلة والانحلال هي عملة الوصول للمآرب، يقول "غوستاف لوبون" في كتابه (حضارة العرب): " ولقد أكرهت مصر على انتحال النصرانية الغربية، ولكنها هبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط الذي لم ينتشلها منه سوى الفتح العربي"، وهكذا اجتمع لمصر الاضطهاد والاستبداد والاستغلال وكدر عليها صفو حياتها، والحبشة لم تكن بعيدة عن هذه الأجواء التعيسة، ومثلها الأمم الأوروبية المتوغلة في الشمال والغرب فكانت تتسكع في ظلام الجهل والأمية والحروب الدامية.
2) اليهودية: هم أغنى أمم الأرض مادة في الدين، وأقربها فهماً لمصطلحاته ومعانيه، لكنهم لما اتصفوا به من كبر واستعلاء وعزلة، لم يكن لهم تأثير في الآخرين، خاصة في القرنين السادس والسابع لما أصابهم من تدهور خلقي، وانحطاط نفسي، وفساد اجتماعي، عزلوا بذلك عن إمامة الأمم وقيادة العالم، وحدث بينهم وبين النصارى حروب دموية طاحنة، استعان كل منهم بالأجنبي على أخيه، سواء من الفرس، أو الروم، وأصاب اليهود القسط الأكبر من هذا العدوان والتقتيل والإبادة.
3) إيران والمجوسية: فارس شاطرت الروم في التمدن وحكم العالم، إلا أنها لم تراعِ القيم الأخلاقية التي تعارف البشر عليها، في الامتناع عن نكاح المحرمات، فتزوج يزدجرد الثاني بنته ثم قتلها، وبهرام جوبين تزوج بأخته، وذكر هذا المؤرخون والرحالة الصيني (هوئن سوئنج) وغيره، ودعى مزدك إلى المشاعية في النساء والأموال: ذكر ذلك (الشهرستاني) و (الطبري)، وقدسوا ملوكهم الأكاسرة وألهوهم، حتى لو كانوا أطفالاً، أو نساء، وكان الرعية طبقات متمايزة، لا يوظف في منصب سوى من كان من نسب رفيع، وأسرة من الأشراف، يتعالى بعضهم على بعض، وكانوا يمجدون القومية الفارسية ويتعصبون لها، ولا يرون في الآخرين مساواة لهم، انتقلوا مع الزمن من عبادة الله إلى عبادة نوره، ثم عبادة النار والشمس، (الزرادشتية)، وأصبحوا بعدها أشبه باللادينيين والإباحيين في أخلاقهم وأفعالهم.
4) الصين ودياناتها: كانت ثلاث: (لا وتسو) + (كونفوشيوس) + (البوذية)، الأولى دعت إلى الزهد والترهب، والثانية اعتنت بإدارة الدنيا والسياسة بالحكمة وحرية التعبد، أما البوذية: فلم تكن إلا طرقاً لرياضة النفس وقمع الشهوات، والتحلي بالفضائل، ثم تحولت إلى وثنية من خلال صنم بوذا والتفنن في شكله ومعابده، ففقدت الروح والأخلاق السامية التي كان يدعو إليها، بل فقدت فكرة الإيمان بالله.
5) أما الأمم الأخرى في آسيا الوسطى وفي الشرق، كالمغول والترك واليابانيين، فقد كانت بين بوذية فاسدة، ووثنية همجية، لا تملك ثروة علمية، ولا نظاماً سياسياً راقياً، إنما كانت في طور الانتقال من عهد الهمجية إلى عهد الحضارة، ومنها شعوب لا تزال في طور البداوة والطفولة العقلية.
6) الهند وديانتها ونظمها: أحط أدوارها مستهل القرن السادس الميلادي، وامتازت عن جيرانها بثلاث: (1) كثرة المعبودات والآلهة كثرة فاحشة. (2) الشهوة الجنسية الجامحة. (3) التفاوت الطبقي والمجحف والامتياز الاجتماعي الجائر، وقد ارتقت صناعة نحت التماثيل في هذا العهد، وعكفت الطبقات كلها من الملك إلى الصعلوك على عبادة الأصنام، حتى أنهم عبدوا آلة التناسل لإلههم الأكبر " مهاديو " وعبدو الفرج العاري للرجل والمرأة على السواء، وانعكاس ذلك على قصور علية القوم وأسافلهم على حد سواء، في الاختلاط والتعري والسكر والعربدة، حتى في دور العبادة، وحين أخذت بأسباب التحضر في القرن الثالث قبل ميلاد المسيح، سنت الحكومة نظاماً يقسم المجتمع إلى أربع طبقات: 1- البراهمة (الكهنة) 2- رجال الحرب (شتري) 3- الزراع والتجار (ويش) 4- رجال الخدمة (شودر)، وهؤلاء من [فم القادر، وسواعده، وأفخاذه، وقدميه]، والمنبوذون، هم (شودر) أحط من الكلاب والحيوان، ولا قيمة له ولا حقوق، أما المرأة فإنها مجرد أمة للرجل بعد وفاته تخدم أهله أو تحرق.
7) العرب خصائصهم ومواهبهم: أما العرب فقد امتازوا بين أمم العالم وشعوبه في العصر الجاهلي بأخلاق ومواهب تفردوا بها أو فازوا فيها بالقِدْح المعلَّى، كالفصاحة والبيان وحب الحرية والفروسية والشجاعة والصراحة في القول، وجودة الحفظ وقوة الذاكرة والوفاء والأمانة، لكن ذلك لم يدم على إطلاقه بعد أن وقعوا في الشرك والجاهلية، وكثرة الأصنام، فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص، بل كان لكل بيت صنم خصوصي، وعبد بعضهم الملائكة، أو الجن، أو الكواكب، وأنكر كثير منهم البعث والنشور والحساب، وانتشر فيهم الخمر والقمار والربا، وإكراه الإماء على الزنا، وزنا الاستبضاع (لنجابة الولد)، وزنا (خيمة المومس)، وكانت المرأة في جاهلية العرب لا حقوق لها، ولا ترث وريثها، وربما وأدها وهي حية، وكانت العصبية القبلية محرك الحروب بين القبائل على أتفه الأسباب، حرب (البسوس) و (داحس والغبراء) وحياتهم البدوية الخشنة جعلت الغزو والسلب طريق سد الجوع ودفع الهلاك منه.
الفصل الثاني: النظام السياسي في العصر الجاهلي
الملكية المطلقة: لأسر بعينها تتوارث الحكم المؤبد، في فارس، وفي الصين تأليه للحاكم على أنه ابن الإله، والرومان كانوا يقدسون الشعب الروماني الحاكم، ويسيئون معاملة غيرهم من الرعية غير الرومانية، ومنهم البلاد المستعمرة، أسوا معاملة لصالح الفئة الرومانية الأصلية، وجباية الضرائب في إيران لم تكن إلا لصالح الحاكم وزبانيته فحسب، على حساب الفقراء والرعية، دون تقديم أي خدمات وعوائد عليهم، مع انتشار الفساد والرشوة والتلاعب بالضرائب، وكان المجتمع الرومي (في عهد الانحطاط) خاضعاً لنظام طبقي جائر يرزح تحته، وما كان لأحد في هذا المجتمع أن يغير حرفته، وكان لا بد للابن أن يتخذ حرفة أبيه، والحال في إيران مع الفقراء والمزارعين لا يختلف كثيراً عن الحال في روما كذلك.
المدنية الزائفة: استحوذ ملوك فارس والروم على حياة الترف والبذخ وطغى عليهم بحر المدنية المصطنعة والحياة المزورة وغرقوا في الملذات والشهوات إلى أذقانهم، وكانت الدولة الفارسية والرومية، كفرسي رهان في البذخ والترفه في دقائق المدنية والترف، وقد وصف حسان ابن ثابت مجلس عامل الروم على الشام من الغساسنة "جبلة بن الأيهم" كأنه يصف حدائق الجنة وقيانها من الترف والعطور واستعمالات صحائف الذهب والفضة، وقلد هؤلاء الأمراء طبقة من الأثرياء وعلية القوم على حساب الفقراء والمعدمين.
الضرائب الباهظة: أثقلت كاهل الفقراء والمزارعين والتجار، حتى أن مناجم الذهب في أرمينيا كانت خالصة للملك، حتى أن أحد المؤرخين وصف ذلك بالقول: " الراعي الصالح يجز صوف غنمه (رعيته) ولا ينتفه، حتى أصبح الناس بين غنىً مطغٍ وفقرٍ منس، مما أنساهم الاهتمام بالآخرة، وأمر الدين، لكلا الفريقين.
الباب الثاني: من الجاهلية إلى الإسلام
الفصل الأول: منهج الأنبياء في الإصلاح والتغيير:
بُعِثَ النبي محمد صلى الله عليه وسلم والعالم أصبح فيه الراعي ذئباً، والخصم الجائر قاضياً، والمجرم فيه سعيداً حظيا، والصالح محروماً شقياً، والمنكر معروفاً والعكس، وشاعت عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية، وتسوقها إلى هوة الهلاك، لم يكن الرسول زعيماً إقليمياً أو وطنياً، بل نبي من الله للبشرية قاطبة، ومشكلة الإنسانية يومها لم تكن عند العرب فحسب، بل في البشرية قاطبة، وشعوب الأرض وأممها كافة، وإنما بعث كما قال "ربعي بن عامر" لملك الفرس: " ابتعثنا لنخرج عباد الله جميعاً من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، دعا الناس إلى الإيمان بالله وحده، ورفض الأوثان، والكفر بالطاغوت بكل معاني الكلمة، وقام في القوم ينادي: " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا !" ودعاهم إلى الإيمان برسالته، والإيمان بالآخرة.
الفصل الثاني: رحلة المسلم من الجاهلية إلى الإسلام:
دافعت قريش والعرب عن جاهليتهم دفاع المستميت، لكن محمداً وأصحابه الأوائل ثبتوا ثبوت الجبال الراسيات، وكان جُلُّ هؤلاء شباب من قريش الخلص آمنوا بالدعوة ووقفوا معها وتخلوا عن طاعة آبائهم وعشيرتهم في سبيل مرضاة الله، وطمعاً في الجنة والآخرة، واكتفى رسول الله بتربية هؤلاء ثلاثة عشر عاماً في مكة، لم يأذن لأحد منهم أن يدافع عن نفسه أذى قريش بسيف أو عصى، مع أنهم أبناء الحروب الطوال في صحراء الجزيرة القاسية، حتى صقل شخوصهم على الطاعة والأدب والسلام والالتزام، ولما هاجر النبي وأصحابه المؤمنين بدعوته إلى المدينة، آخى بين الأوس والخزرج وسيوفهم تقطر من دماء بعضهم، ثم آخى بينهم وبين المهاجرين، فأصبحت الأخوة الإيمانية الدينية فوق كل اعتبار آخر أرضي، فكون نواة لوحدة الإنسانية والشعوب والأمم مع بعضها من خلال الدين والعقيدة والإيمان، وجاهد معهم الشرك والكفر والطاغوت بجهادهم لأنفسهم من كل الرزايا التي يمكنها أن تفسد نقاء النفس وطهارة القلب ونزاهة الروح، فأصبحوا كالملائكة بين يديه في التغيير والتطوير والجهاد.
أغرب انقلاب وقع في تاريخ البشر:
تأثير الإيمان في الأخلاق: ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فاقت كل تصور له كان له في الأمم السابقة، حيث كان الإله مجرد صانع صنع صنعته واعتزل، أما في القرآن فقد كان الإله خالقاً قادراً اتصف بكل صفات الكمال، وتنزه عن كل صفات النقص والعجز والوهم، هذا الإيمان حول الرجل فيه من مجرد صفات غرائزية، إلى صفات إنسانية راقية، حتى أنه إن اقترف ذنباً عليه عقوبة مميتة، جاء فاعترف بنفسه يطلب العقوبة من رسول الله ليطهر نفسه أمام الله، خشية عقوبة الآخرة، (ماعز- والغامدية)، ونزاهة المجاهدين وعفتهم في غنائم الحروب، أمثلة لا مثيل لها في أي جيش من جيوش أهل الأرض كلها، ودخول جعفر وأصحابه على النجاشي من غير سجود له، قائلين: "لا نسجد إلا لله وحده"، وصنيع "ربعي بن عامر " في إيوان رستم الفارسي، وعزته وجوابه له، وكأن الموت والحياة لا يخطر في باله إطلاقاً، حتى يؤدي ويبلغ رسالته إلى الطغاة وأهل الغرور، وما صنعه مجاهدوا بدر وأحد ورغبتهم باستعجال الجنة، يدل على بلوغ إيمانهم بها الحد الأقصى، وإصرار الأعرج "عمرو بن الجموح" على أن يطأ الجنة بعرجته يوم أحد، فقتل شهيداً فيها، ومثل هذا كثير في أثر التربية المحمدية التي كان معلمها محمد صلى الله عليه وسلم، ومنح الأنبياء عليهم السلام الناس قبل بعثته عليه السلام، مبادئ ثابتة ومحكمات هي أساس المدنية الفاضلة، والحياة السعيدة في كل زمان ومكان، فحرموها على تعاقب الأعصار، بالتحريف والتبديل، فبنوا مدنيتهم على شفا جرف هار، فزاغ أساس المدنية وتداعى بناؤها، وخر عليهم السقف من فوقهم، بينما كان الصحابة رضي الله عنهم سعداء موفقين جداً، إذ عوّلوا في ذلك كله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكفوا المئونة وسعدوا بالثمرة، ووفروا ذكائهم وقوتهم وجهادهم فصرفوه فيما يعنيهم من الدين والدنيا وتمسكوا بالعُروة الوثقى، وأخذوا في الدين بلب اللباب.
الفصل الثالث: المجتمع المسلم:
هذا الإيمان والدين جعل البشرية ترى أنها أسرة واحدة من اب واحد آدم عليه السلام، ولها رب واحد الله القدير الحكيم الرحيم سبحانه، واجتث جذور العصبية المقيت، وحصر التناصر في الحق فحسب، وجعل الجميع يتحمل مسؤوليته عن نفسه وعمن يلوز به من الناس، راعٍ كان أو رعية، رجلاً كان أو امرأة، خادماً أو مخدوماً، سيداً أو مسوداً، ولا طاعة في معصية الخالق، وأصبح الخليفة والحاكم مطاع ما أطاع الله في رعيته، ومال الدولة للمستحقين من الرعية، والحاكم أحدهم لا غير، وإذا أخطأ مع أحد من رعيته، الحكم بينهما القاضي والقضاء الشرعي العادل.
بعد أن ذلت نفوس الناس في طاعة المكروه الظالم دون حماس ولا حب ولا رغبة إلا الاضطرار، جاء النبي محمد عليه الصلاة والسلام فأحيا نفوس الناس ورد إليهم أرواحهم بعد أن جف بريقها، فشعروا بالحب الحقيقي بين القائد والمقود، وبين الآمر والمطيع، وإيثار الالتزام بطاعته على كل محبوب آخر ولو كان النفس والمال والوالد والولد، حتى روت السيرة والسير قصصاً لا مثيل لها في حب النبي وإيثار سلامته على الزوج والأخ والولد والوالد، وقال "عبد الله بن مسعود الثقفي" حين رجع من الحديبية لقومه: "وفدت على الملوك، ولم أرى من يعظمهم كما يعظم أصحاب محمد محمداً، حتى فضلة وضوئه يكادون يقتتلون عليها، حتى قال سعد بن معاذ يوم بدر: " والله لئن استعرضت هذا البحر خضناه معك" وما فعله عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول مع أبيه من منعه دخول بيته والمدينة إلا بإذن رسول الله بحد السيف، لمقولته التي ذكرها القرآن عن رسول الله، أكبر دليل على صدق الحب الحقيقي للرسول صلى الله عليه وسلم المقدم على حب أي شيء سواه.
الفصل الرابع: تحويل النبي خامات الجاهلية إلى عجائب إنسانية:
بهذا الإيمان النقي والتربية النبوية الحكيمة، وكتاب الله المعجز، حول الرسول المعلم الناجح ذخائر الجاهلية المدفونة في الخرافة والشرك والسفاسف، إلى أبطال عالميين خالدين إلى الأبد، حول عمر راعي الإبل إلى مؤسس امبراطورية عادلة حضارية لا مثيل لها، وحول خالد بن الوليد من ابن تاجر أسلحة، إلى قائد عسكري لم يخسر معركة واحدة من مائة معركة خاضها في مواجهة دولتين تحكمان العالم فارس والروم، ومثله أمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح يدحر هرقل من الشام إلى الأبد، وعمرو بن العاص داهية قريش وسفيرها يصبح داهية العالم ويفتح مصر ويحكمها، وهذا سعد بن ابي وقاص يفتح فارس، وهؤلاء العبيد الرقيق يتحولوا على يد النبي إلى سادة: سلمان الفارسي، وبلال الحبشي، وسالم مولى أبي حذيفة، وزيد بن حارثة، وأبنه أسامة وأبو ذر الغفاري، وأبو الدرداء، وعمار بن ياسر، فضلاً عن عبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، والفتى زيد بن ثابت الأنصاري، يحول الرسول هؤلاء إلى علماء أفذاذ يتفجر العلم من قلوبهم قبل ألسنتهم، صنع النبي صلى الله عليه وسلم حكومة برجال يرجحون جانب الهداية على الجباية، ويجمعون بين الصلاح والكفاية، وهنا ظهرت المدنية الإسلامية بمظهرها الصحيح، وتجلت الحياة الدينية بخصائصها التي لم تتوفر لعهد من عهود التاريخ البشري.
الباب الثالث: العصر الإسلامي
الفصل الأول: عهد القيادة الإسلامية:
تزعم العصر الإسلامي العالم وقاده بالعدل من خلال: 1- شريعة إلهية منزلة بكتاب مقدس معجز، 2- ورجال رباهم وزكاهم رسول الله على كل خلق إنساني كريم، 3- ومساواة إنسانية لا تميز بين عربي وعجمي إلا بالتقوى، حتى تفوق العجم في العلوم الشرعية والعقلية، فحفظوا الدين أكثر من أهله وخاصته، (كما ذكر ابن خلدون) وقادة حكم، من المماليك والترك والكرد جاهدوا وحكموا وعدلوا. 4- ورعاية وتزكية وتربية للجسد والروح والقلب والعقل والجوارح معاً، لئلا يختل نظام الحياة في الإنسان فينعكس على البيئة والناس بالطغيان، (كما حدث بين الرهبانية والمادية من ميل إلى هؤلاء أو هؤلاء فاضطربت أمور الناس والحياة بينهما بالحرمان من الفطرة السليمة والتوازن الإنساني، وهذا ما نجده ونلمسه اليوم في كل المجتمعات التي حرمت الإسلام الحنيف).
دور الخلافة الراشدة في المدنية الصالحة:
لا مثيل له في التاريخ كله، كأن الذي يحكم الناس ملائكة لا بشراً، خلقاً وسلوكاً وذمة، وعفة وإنصافاً، وهم وجنودهم يصف حالهم أحدهم فيقول: " إنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم" يعتبرون الحياة والعالم ملك لله استخلفهم عليه، وهم رسل له بين الناس حملوا أمانة تبليغ رسالته، وحالهم مع الدنيا أنها دار اختبار موقف المسلم منها: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة".
المدنية الإسلامية وتأثيرها في البشر:
حول الإسلام مفهوم الدين في الواقع الإنساني من مجرد روحانيات وفكر أفلاطوني، إلى دولة وحكومة مثالية واقعية حية عادلة إنسانية تسودها قيم خلاقة، وأخلاق قيمة، زلزلت الطواغيت والكفر والإلحاد والفساد والفوضى، في كثير من بقاع الأرض شرقاً وغرباً، حتى أزهرت الحياة في نفوس الناس، وأمن الضعيف الفقير على نفسه وماله وشرفه قبل القوي الغني الجبار، وسرت روح الإسلام وقيمه حتى في الديانات الأخرى المغايرة له وهذا ما ذكره أحمد أمين في كتاباته يقول: " ظهر في المسيحية في القرن الثالث الهجري نزعة إنكار الاعتراف أمام القسس، واختيار الدعاء لله مباشرة بالغفران، كما ظهرت حركة تحطيم الصور والتماثيل فيها، وذلك بمرسوم أصدره الإمبراطور الروماني "ليو الثالث" سنة 726م يحرم تقديس الصور والتماثيل، وانكرت بعض الطوائف المسيحية ألوهية عيسى، وأنه مجرد نبي، ومنهم تأثر " لوثر" بمثل هذا التجديد في المسيحية، فأصبح يعرف " بالبروتستانتية" وفي الهند حدث الكثير من هذا التأثير كما ذكره مؤرخون من الهند ورجالات الفكر والسياسة فيها، كما أقر بذلك رئيس وزراء الهند "جواهر لال نهرو" وخاصة فكرة الأخوة الإنسانية ورفض فكرة المنبوذين، وذكر مؤرخون ومفكرون أوربيون عن تأثير الإسلام في الحضارة الأوربية وعلومها وثقافتها بشكل لا يمكن إنكاره، حتى حل أخيراً الانحطاط في حياة المسلمين فنسي الناس فضائلهم وأثرهم.
الفصل الثاني: الانحطاط في الحياة الإسلامية:
بدأ بغياب وزوال الحكم الراشدي، وتحوله إلى حكم ملكي، وغياب الرجال الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم على عينه وهذبهم بخلقه وكماله، فكانوا نعم الحكام ونعم القضاة ونعم القادة ونعم الأمراء ونعم الجنود.
شروط الزعامة الإسلامية:
1) الجهاد: بذل أقصى الوسع والطاقة لإعلاء كلمة الله في النفس والجسد والبيئة والناس، بمعرفة وعلم، ومقاومة الكفر وأهله بكل سلاح يمكن المسلم من الاستعلاء بدينه والحق الذي كلف بتبليغه للناس.
2) الاجتهاد: علم وحكمة وفهم في الحاكم والأمير يرشد الأمة في النوازل والغمة، يستخدم نعم الله في التصدي لها وحل إشكالياتها، وحينما انتقلت الإمامة إلى غير الأكفاء بدأ العد التنازلي للتدهور الحاصل في الأمة الإسلامية، ومنها فصل الدين عن السياسة، فتحولت إلى ما يشبه القيصرية والكسروية المستبدة، (ملكاً عضوضاً) كما أخبر النبي بذلك، وانعزل كثير من العلماء عن الحكام، وحدث بينهما عداء وتنافس في الصراع على كسب الرعية، ربح فيه العلماء، وخسر به الحكام، ورفعت العصبية الجاهلية رأسها من جديد بين الحكام والمحكومين، فانكبت الرعية والحكام إلى اللهو والملذات والترف، فضعف تأثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فضعف تأثير الإسلام على الناس وغير المسلمين، لضعف تمثيله من قبل القائمين عليه.
3) الاهتمام بالعلوم العملية المفيدة: شرط للتوازن في القوة بين متطلبات الجسد ومتطلبات الروح بالجمع بين
العلوم الشرعية والعلوم الطبيعية، لكن مع الأسف كان الاهتمام الأول للعلوم الشرعية، واستبدلوا الاهتمام بالعلوم الفلسفية (وعلم الكلام) للرد على الزنادقة وأمثالهم، بإهمال العلوم الطبيعية العملية لتسخير نعم الله في خدمة الإنسان واحتياجاته وقوته، التي فطن إليها الغرب فبذ بها العالم وسيطر بها على الشعوب والأمم، وفرض ثقافته وقيمه ومصالحه عليها، مع أن القليل من التفوق العلمي الإسلامي أخذه الغرب وبنى عليه كشوفاً علمية واختراعات مكنته من أن يسحب البساط من تحت أقدام المسلمين فيسيطر هو على الساحة بها، بسبب إهمال المسلمين لها، وهذا ما حدث في القرنين 17م و18م، انتشرت كتب الفقه والتصوف، وانحسرت كتب العلوم والطبيعة من بيوت المسلمين، فأحدثت هذا الخلل الذي لم يغب عن آيات القرآن الكونية، والآيات التدبرية، لكن قصَّر المسلمون في الجمع بين آيات الأحكام، وآيات الآفاق.
4) الحذر من الضلالات والبدع: لأن الدين منزل محكم فإذا عملت فيه العقول دون ضوابط متقنة، دخل فيه التحريف الذي دخل على الملل السابقة والأمم قبله، والحافظ من هذا كتاب الله المحفوظ، والسنة المدونة المحفوظة كذلك، استمسك بها رجال مجددون في كل العصور، منهم من نجح في ذلك ومنهم قضى نحبه على هذا، وكثير من المخلصين والمصلحين والعلماء ما بدلوا ولا غيروا، حتى غادروا هذه الدنيا وهم على ذلك.
5) عدم اليأس والتسلح بالأمل: وهذا ما حدث في القرن السادس الهجري، بعد الحدث الأول في الردة الأولى يوم مسيلمة الذي تصدى له أبوبكر الصديق، وتصدى للحروب الصليبية في القرن السادس، بعد أن احتلوا فلسطين وأجزاء من الشام البطل عماد الدين زنكي (541هـ) فاسترد الرها، وأكمل ولده نور الدين زنكي (569هـ) مشوار الجهاد لاسترداد القدس، ثم تبعه لهذه المهمة صلاح الدين الأيوبي فهزم أوروبا مجتمعة في معركة حطين (583هـ) وحرر القدس من الصليبيين، واستعاد هيبة العالم الإسلامي وقوته، وأقر لهمة صلاح الدين وقيادته الحكيمة المؤرخون الغربيون حتى سموه القديس لسماحته وتسامحه وأخلاقه العالية.
6) وجود القيادة الواعية المخلصة: افتقدها العالم الإسلامي بعد موت صلاح الدين الأيوبي، ولم تظهر [إلا في بعض أمراء المماليك كقطز، والظاهر بيبرس، وابن طولون، في مصر والشام] وهذا ما جعل العالم يحسب للمسلمين ألف حساب، إلا أن ضعف العالم الإسلامي وتخلفه استمر مع الأيام نحو الانحدار والتقهقر، إلى أن جاء دور ونهوض الدولة العثمانية في الأناضول.
الفصل الثالث: دور القيادة العثمانية:
ظهر على مسرح حياة المسلمين العثمانيون الأتراك، وفتح محمد بن مراد القسطنطينية (753هـ) = 1453م، مستخدماً صناعة المدافع العملاقة والعلوم النارية في حربه بكفاءة عالية، تزن الكرة التي يرمى بها 300كغ لمسافة أكثر من 1500متر، ونقل سبعين سفينة ليلاً على أخشاب مطلية بالشحم براً إلى الخليج البحري في مقابل أسوار القسطنطينية، وكان الشعب التركي على فطرته في قيادة آل عثمان، وأنه لما تعرض للتهجير الهمجي من المغول من آسيا إلى الأناضول، واجهوا المغول والبيزنطيين معاً بحروب أداروها بحماس وشجاعة، مكنتهم من التحول إلى فروسية لا مثيل لها، بسبب إسلامهم وإيمانهم، ألهبتهم الروح الجهادية لتحقيق النصر على أعدائهم، فتفننوا في فن الحروب واستخدام الأسلحة، وبسطوا سيطرتهم على بلاد في القارات الثلاث، من فارس إلى مراكش إلى فينا وموسكو، عهد السلطان سليمان القانوني، لكن اصابهم ما أصاب العرب كذلك من خمول وانحطاط وجمود في العلم والصناعة، مكنت أوروبا من سبقهم إليها، بعد صراع مرير بين الكنيسة والعلماء، انتصر فيها العلماء الذين نجوا من اضطهاد الكنيسة، فحيدوا دورها عن حياة الأوربيين، بثورات انتصروا فيها وهزمت الكنيسة، لكن علماء الإسلام لم يستفيدوا من تطور الحياة، فبقوا حيث هم في علوم الفقه وعلم الكلام، فحرموا المسلمين من المعرفة العلمية الطبيعية، فهزم المسلمون بهذا الإهمال الجوهري للعلوم العملية التطبيقية، وحل الانحطاط الفكري والعلمي العام على حياة المسلمين، في العالم الإسلامي بأسره، على رغم وجود دولتين في عصر الأتراك مسلمتين إحداها الدولة المغولية (1546م) مؤسسها "بابر التيموري" وخلفه " أورنك زيب" مستمسكاً بالكتاب والسنة، لكن لم يلاحظ التطور الذي يحدث في أوروبا من ناحية العلوم والتطور والصناعة، ودولة أخرى صفوية شيعية انشغلت بحرب الدولة التركية ومنافستها.
نهضة أوروبا وسيرها نحو العلوم والصناعة:
استيقظت أوروبا من غفلتها الطويلة في القرن 16م و17م حينما كفت يد الكنيسة عن التدخل في السياسة والفكر بعد صراع طويل مع نوابغها من العلماء والمفكرين، فنبغ منهم مبتكرون عمالقة (كوبرنيكس + برونو + غليليو + وكبلر+ ونيوتن+ وكلمبس+ وفاسكودي غاما+ ومجلن+ ...الخ).
تخلف المسلمين في مرافق الحياة:
الخمول الذي أصاب المسلمين عم بلادهم قاطبة في تركيا خاصة؛ حتى أن المطبعة منعت أول الأمر خوفاً من أن تستخدم في تحريف القرآن، والمحاجر الصحية تأخرت إلى ق 18م، وكذلك مدارس الفنون الحربية والصناعات العسكرية حتى أنهم لما رأوا بالوناً في السماء يحلق ظنوه من أعمال السحر والشياطين، حتى أن مصر سبقت تركيا في استعمال القطارات بأربعة أعوام، وفي استعمال طوابع البريد ببضعة أشهر، وتخلفهم في الصناعات العسكرية حتى أن أوروبا هزمت تركيا سنة (1774م) بجيوشها هزيمة منكرة، فانتبه السلطان سليم الثالث إلى هذه المسألة فأنشأ مدارس جديدة وألف جيشاً على الطراز الحديث، وأدخل تعديلات على النظام السياسي، إلا أن حالة الجمود على القديم في البلد، أدت إلى ثورة الجيش عليه واغتياله، فخلفه محمود الثاني (1807- 1839م) وعبد المجيد الأول (1839- 1851م) فتقدمت تركيا بعض التقدم، لكن كانت أوروبا قد قطعت أشواطاً شاسعة في التطور والتقدم والعلوم والصناعة، فلم تستطع تركيا مجاراتها.
الباب الرابع: العصر الأوروبي
الفصل الأول: أوروبا المادية:
طبيعة الحضارة الغربية وتاريخها: ليست وليدة القرن العشرين: بل يرجع إلى الحضارة الرومانية والفلسفة الإغريقية وآدابها من آلاف السنين، فبرز ذلك كله في القرن 19م في ثوبه البراق، من نسج اليونان والرومان، وما تمتعت به أوروبا من خصائص الحضارة الإغريقية، التي تميزت ب:
- الإيمان بالمحسوس، وقلة تقدير غير المحسوس.
- قلة الدين وغياب الخشوع.
- الاعتداد بالحياة الدنيوية والاهتمام بملذاتها.
- النزعة الوطنية.
يجمع هذه الخصال كلها في مذهب (المادية) فكان شعاراً لفكرها وتفكيرها، في الثقافة والعلم والفلسفة والشعر والأدب والدين، حتى أنهم جعلوا الإله آلهة متعددة نحتوا لها أصناماً وبنوا لها معابد تمثل كل مظهر من مظاهر الحياة المادية، ونسجوا حولها خرافات وأساطير، حتى ذكر كثير من مفكريهم رقة الدين في اليونان وقلة الخشوع وكثرة اللهو والطرب في حياتهم، يقول ليكي في كتابه (تاريخ أخلاق أوروبا): " إن الثقافة اليونانية كانت عقلية وذهنية محضة، وكانت الثقافة المصرية بالعكس من ذلك روحية باطنية، وينقل أن " المصريين كانوا يعظمون آلهتهم بالتضرع والبكاء، وكان اليونانيون يعظمون آلهتهم بالرقص والغناء" والولوع بالتماثيل والصور والغناء والموسيقى التي يسميها اليونان الفنون الجميلة، وقدسوا الحرية الشخصية التي لا تعرف قيداً ولا تقف عند حد، وكان حب الوطن يتقدم فضائل الأخلاق التي أجمع عليها حكماء اليونان، وأن أرسطاطاليس لم يكتف بحب وطنه والولاء له فحسب؛ بل قال: إن اليونانيين ينبغي لهم أن يعاملوا الأجانب بما يعاملون به البهائم" وتفوق اليونان على الرومان في العلوم والآداب والعلوم؛ بينما الروم تميزوا بالجندية والقوة العسكرية، فأخذوا ثقافتهم عن الإغريق واليونان، وكانت شجاعتهم وتضحياتهم لا أثر للدين فيها، وإنما بتأثير الوطنية وحب الوطن، وهذا ما رصده المسلم النمساوي (محمد أسد) في كتابه الإسلام على مفترق الطرق: " إن الفكرة التي كانت تسيطر على الإمبراطورية الرومانية هي احتكار القوة لها واستغلال الأمم الأخرى لمصلحة الوطن الروماني فقط، لم يكن رجالها يتحاشون من أي ظلم وقسوة في سبيل حصولهم على ثروات الآخرين، أما ما اشتهر من عدل الروم فلم يكن إلا للروم فقط.
الانحطاط الخلقي في الجمهورية الرومية:
صوره (درابر) الأمريكي بقلمه البليغ قائلاً: لما بلغت الدولة الرومية في القوة الحربية والنفوذ السياسي أوجها، ووصلت في الحضارة إلى أقصى الدرجات، هبطت في فساد الأخلاق والانحطاط في الدين والتهذيب إلى أسفل الدركات، وكان شعارهم القوة تستحق الثروة.
ولما كان قسطنطين إنما توصل إلى الملك على جسر من أشلاء النصارى وأنهار من دمائهم؛ التي أريقت في الذب عنه والنصر له، عرف لهم الجميل وبذل لهم وجهه، ووطأ لهم أكنافه وقلدهم مفاتيح ملكه، وخلط بين مبادئ النصرانية ومبادئ الوثنية، وأخرج لأوروبا ديناً جديداً ليس فيه من دين الله إلا الاسم، والرهبانية المبتدعة المغالية، شعارها تعذيب الجسد وسيلة الخلاص، وهجر الدنيا وملذاتها سبيل الجنة، فأكل الرهبان الحشائش والعشب، وتنزهوا عن لمس الماء والاغتسال، وكانوا يخطفون الأطفال إلى الجبال والأديرة ليربوهم على الرهبانية، وهذا زاد من حدة الاستمساك بالمادية في أوروبا، عكس ما أرادته الرهبانية من تعديلها وتخفيف لأوائها، فكانت حركة الفجور والإباحية وحركة الغلو في الزهد والرهبانية تسيران في البلاد النصرانية جنباً إلى جنب، بل الأصح أن الرهبانية كانت معتزلة في الصحارى والخلوات لا سلطان لها على الحياة، وحركة الخلاعة والإباحية كانت زاخرة طامة في المدن والحواضر، حتى صارت المراكز الدينية تزاحم المراكز الدنيوية في فساد الأخلاق والدعارة والفجور، واتهم القسوس بكبائر ومنكرات، وبدأ النزاع والمنافسة بين البابوية والإمبراطورية في القرن الحادي عشر، وكان البابوات يتمتعون في هذه العصور الوسطى بنفوذ واسع وسلطان عظيم لم يكن للملوك والأباطرة، حتى شقيت أوروبا برجال دينها الأشقياء الفاسدين، الذين حاربوا العلم والعلماء، واضهدوهم، وحاكموهم (بمحاكم التفتيش الكنسي) فأحرق منهم الآلاف، منهم العالم (برونو وغاليليو).
الظلم لا يدوم: فصل الدين عن السياسة، واتجه الغرب إلى المادية، دين الرومان واليونان الأصلي قبل المسيحية وبعدها، ونهض الكتاب والمؤلفون والأدباء والمعلمون والاجتماعيون والسياسيون في كل ناحية من نواحي أوربا، يفسرون الأخلاق تفسيراً مادياً، تارة ينشرون الفلسفة النفعية، وطوراً فلسفة اللذة الأبيقورية، ودعا ميكيافيلي ( 1469 – 1527 م ) إلى فصل الدين عن السياسة، وكانت الثورة الفرنسية من نتائج هذه السياسة، ومقولتهم الشهيرة أعدموا آخر الملوك بأمعاء آخر قسيس، وتهافت الأدباء والمفكرون على تزيين حياة الحرية الشخصية، ونشر الإباحية في الملذات والشهوات دون ضابط من عقل أو دين، فعاد الأوربيون إلى ما كانوا عليه أيام أجدادهم اليونان والرومان، ويصف الكواكبي الإنسان الغربي بالقول: " الغربي مادي الحياة، قويُّ النفس شديد المعاملة، حريص على الاستئثار والانتقام ، كأنه لم يبق عنده شيء من المبادئ العالية والعواطف الشريفة التي نقلتها له مسيحية الشرق، فالجرماني مثلاً جاف الطبع يرى أن العضو الضعيف من البشر يستحق الموت، ويرى كل الفضيلة في القوة وكل القوة في المال" وحتى الحركات الروحية العلمية كانت الغاية منها محاولة اكتشاف مادي في العالم غير المادي، من باب الترف العلمي، وليس لفهم آيات الله في خلقه، لأنها لا تؤمن بالله، بخلاف الكشف الروحي في التصوف الإسلامي، وتضحيات الغربي وطنية وسمعة لا علاقة لها بقيم أخروية، أو رضا الله، بينما فسر "كارل ماركس" أبو الشيوعية الحياة الاجتماعية والسياسية أنها انعكاس للحياة الاقتصادية، والإنتاج الصناعي الذي يحدد علاقات الطبقات الاجتماعية بين من يملك ومن يعمل، والتناقض بينهما هو الذي يحدد متى تحدث الثورة على هذه العلاقات المتناقضة، وهذه فلسفة وحدة الوجود الاقتصادي في العالم الغربي، شرقيه وغربيه، على حد سواء.
نظرية دارون وتأثيرها في الفكر والحضارة: قائمة على التطور الطبيعي والبقاء للأصلح وتطور الإنسان من الحيوانات إلى قرد ثم إنسان، وهذا ما جعل الجمهور والدهماء يقبلون بهذه النظرية، لتخفف من عبء مسؤوليات تصرفاتهم المتزنة، بالعودة إلى حياة الغاب والبدائية، ومن جنايات الإنجليز (اعتماداً على نظرية دارون) اعتبروا البنغال مجرد قرود يمكنهم من تجنيدهم في الحروب، في حال منعهم من استخدام القوارب في حصاد الأرز، فمات الناس من الجوع، وفسد الأرز في أرضه، ليبرهنوا على فشل الحكم الذاتي في إدارة البلاد، ومثل ذلك فعل "اللورد ماونت بيتن" حاكم الهند سنة 1947م حين تغافل عما يدبر من مجازر لقتل المسلمين فيها، لأن الباكستانيين لم ينتخبوه حاكماً عليهم كما فعل أهل الهند، فوقعت مجزرة مروعة لا مثيل لها في البلاد، وتأييد ترومان للصهيونية لإنشاء دولة إسرائيل، وتخليه عن حقوق العرب في فلسطين، من أجل مصالح انتخابية لدى يهود أمريكا، وكذلك سكوت أمريكا عن فظائع فرنسا في الجزائر، سقوط أخلاقي عن التحلي بالأخلاق الإنسانية.
الفصل الثاني: الجنسية والوطنية في أوروبا:
المسيحية على علاتها في التحريف، يبقى فيها من تعاليم السماء، ما لا يفرق بين الأجناس والألوان والأوطان، وينظر للناس باعتبارهم أبناء آدم، ولهذا جمعت النصرانية الأمم الأوربية تحت لواء الدين وجعلت من العالم النصراني عشيرة واحدة، لكن انكسار الكنيسة وتراجع الدين جعل العصبية القومية والنعرة الوطنية تغلب على الشعور الديني، حتى أن بعضهم تبرأ من المسيح باعتباره رجل أجنبي، وهذا ما أكده السفير البريطاني "لورد لوثين" في محاضرة له في جامعة عليكرة سنة 1938م بأن: " القضاء على الوحدة الدينية يقوي الوحدة القومية والوطنية" وبالعكس، ومثل أوروبا فعلت روسيا في حماستها الوطنية والقومية، فنسبت كثير من الاكتشافات والاختراعات إلى علماء روس.
عدوى الجنسية في الأقطار الإسلامية: بعد انحلال رابطة الخلافة والدين، تأثر العالم الإسلامي بالفكر القومي الغربي، فتنادى الأتراك إلى النزعة الطورانية، ما قبل الإسلام، (ضياء كوك ألب، وأحمد أغائف، ويوسف أقشورا..وآخرون) ومجدوا المغول، وجنكيز خان، ومثلهم فعل الإيرانيون بإحياء (القومية الفارسية)، والزردشتية، والمانوية، والمزدكية الإلحادية الإباحية، والعرب صنعوا مثل ذلك حين قدسوا الخطوط التي وضعها سايكس بيكو بين بلدانهم، فصار العرب ليسوا عرباً فقط بل: [سوريين، ومصريين، وخليجيين، وكويتيين، وعراقيين، ومغاربة، وجزائريين، وسودانيين...الخ.].
الديانة القومية الأوربية وأركانها: جعلت البلدان التي خطتها الطبيعة أو خطتها غاية سياسية واستعمار، إلهاً دونه كل شيء، ولا تعترف بوجود الإنسان في غير منطقتها فلا تحترمه ولا تتعرف عليه، وتدين لهذا الوطن، بكل ما يدين به العباد المخلصون من عبادة وتقديس، تحارب من أجله، وتقاتل الآخرين وتسحقهم، من أجله وأجل مصالح مواطنيه، وإلى اليوم هذا الاعتبار واضح، لكن قد يعبر عنه صراحة، أو من خلال النفاق، ولا يمكن لشعب أن يؤمن بالقومية، ثم لا يعتدي ولا يتطاول على الآخرين ويزدريهم، كما لا يمكن أن يسرف الإنسان في الخمر، ثم لا يسكر ولا يهذي كما قال الشاعر: " ألقاه في البحر مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء.
خصوصاً إذا كان العلم والأدب والشعر والفلسفة والتاريخ وحتى العلوم الطبيعية متعاونة على إنشاء العاطفة القومية والنعرة الشعبية والخيلاء الجنسية، والفخر بالآباء والتعظيم بالماضي، ولا يكون رادع من خلق ولا وازع من دين، وتولى القيادة رجال لا يعرفون غير القومية والمجد القومي غاية مرمى ودين، والتحليل للانتماء القومي يتضمن جانبين: الإيجابي: توحيد الناس في توجه واحد وكتلة واحدة، والسلبي: هو اعتبار كل ما هو خارج وطنهم وقوميتهم عدو أو لا شيء، ومكروه، ودونهم في كل شيء.
الحل الإسلامي لمعضلة الحرب والمناقشات الشعوبية: الحل أن يكون للبشرية عدو آخر من غير الإنسان، يجمع عليه البشر قاطبة، وقد حدده الله وبينه، في قوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً)، والإسلام قسم الناس إلى معسكرين: أولياء الله وحزبه، وأولياء الشيطان وحزبه، والحروب التي قامت عهد النبي لإرساء دولة الإيمان والإسلام خلال عشر سنوات العهد المدني: قتل فيها (1018 المسلمون منهم 259 والكفار 759 ) بينما في الحرب العالمية1: (1914-1918م) أصيب 21مليون نسمة قتل منهم 7مليون إنسان، وفي الحرب العالمية2: المصابين: 50 مليون إنسان، وإذا لم يكن للإنسان عدو من خارجه، جعله من أبناء جنسه وعمومته، كما قال الشاعر العربي الجاهلي:
وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا.
ولهذا استطاع النبي محمد صلى الله عليه وسلم توحيد كل الأجناس والشعوب والأمم نحو عدو آخر وهو الكفر والباطل والطاغوت والطغيان، ولم يرجع الناس لقتال بعضهم إلا حين نسوا عدوهم الخارجي، فأراقوا الدماء الذكية بنسيان من يستحق أن يراق دمه، من أهل الشرور والعدوان (أخوان الشيطان)،
دعاية القوميين وإضرارهم بالشعوب الصغيرة: حين زينوا لها القومية والوطنية الضيقة، فما أغنى عنها شيئاً من الأمن أو السلامة، في مواجهة الدول والقوميات الكبرى، وهذا ما يدفع الدول (القوميات الكبرى) إلى خوض حروب وتبذير نفقات للسيطرة على أراضٍ كثيرة وكبيرة، لإثبات الذات، وهو نوع من الكبر والغرور والعنجهية، في السيطرة وزيادة القوة، كما فعلت بريطانيا باحتلال دول كثيرة، وهي لا تحتاج إلى هذا الاستعمار المقيت وإزهاق أرواح جنودها في البلاد المستعمرة البعيدة، لكنه الكبر والاستعلاء، فإذا نهضت أمة جديدة لتنافس القديمة في السيطرة، نشأت بينهما حرب لا هوادة فيها، وما شكلت هيئة الأمم المتحدة إلا للدفاع عن مصالح اللصوص الدوليين، أمام من يريد مد يده لاسترجاع ماله المنهوب والمصادر من غير وجه حق، وقد وصف شكيب أرسلان هذه الهيئة الدولية بأنها كعروض الشعر (بحور بلا ماء) وقوانين من غير قضاء ولا شرطة، تتلاعب بأسماء جرائمها، أو تلصقها ظلماً بالضعيف الذي لا تنطبق عليه، وصفها الشاعر الهندي محمد إقبال بقوله: (جمعية لصوص ونباشين تألفت لتقسيم الأكفان) على الشعوب المستعمرة، يقول الأستاذ "جود" الإنجليزي، إن الحروب التي تشرف عليها عصبة الأمم ليست للعدالة، وإنما لاقتسام الموارد المسروقة من الشعوب الفقيرة، تحت مسميات من اختراعها، (للدفاع عن الديمقراطية، ولحرب الفاشية...الخ.).
الفرق بين حكم الجباية، وحكم الهداية: يوضحها قولة عمر بن عبد العزيز خليفة المسلمين لعامله: "ويحك إن محمداً صلى الله عليه وسلم بُعِث هادياً ولم يُبْعَثْ جابياً" ولهذا الحكومة القائمة على الدين الحق، يهمها مصالح الإنسان وسلامته واستقامته، على أن يكون كالبقرة والشاة الحلوب، لجمع المال وتسويق المحرمات والمضرات، كما يسوق الغرب اليوم كل أنواع الغش، والبضائع المغشوشة خاصة للبلاد التي تعتبرها مستعمرات لنفوذها وسيطرتها، فالغرب يسوق مفاسده المدمرة إلى الشعوب الأخرى، ويمنع التعرف على إيجابياته أو استيرادها، تحت مسميات حرب الإرهاب، والشرعية الدولية.
الفصل الثالث: أوروبا إلى الانتحار:
عصر الاكتشاف والاختراع: الأوروبي لا ينكر، لكن ما الغاية من هذه الاختراعات إن لم تكن لنفع الناس، ودفع الضر عنهم؟ وما هو ما نسميه المقاصد المشروعة، والقرآن ذكر أنه سخر ما في الكون لخدمة الإنسان، حتى يعبد ربه بيسر ودون مشقة، ولهذا فهي أسلحة ذات حدين، يمكن استخدامها في الخير، ويمكن استخدامها في الشر، (كالنار. والسكين)، يمكن استخدامهما في الطبخ، ويمكن استخدامهما في ازهاق الأرواح.
الخلط بين الوسائط والغايات: فاستعملوا هذه القوة والعلم في حصول اللذات والتغلب على الناس وقهر المنافسين، وتنافسوا في اختراع الآلات التي ينالون بها وطرهم ويعجزون بها غيرهم، ولم يزل بهم ذلك حتى اختلطت عليهم الوسائط بالغايات، ولذلك انعدم التعادل بين القوة والأخلاق في أوروبا، فتقدمت النهضة على حساب الدين، يقول الأستاذ (جود) الإنجليزي : "إن العلوم الطبيعية قد منحتنا القوة الجديرة بالآلهة، ولكننا نستعملها بعقل الأطفال والوحوش"، إن العناية بالإنسان أهم من العناية الزائدة بالاختراعات والماديات، والتي بعضها مدمر للجنس البشري (كالقنبلة الذرية – والهيدروجينية – والنيتروجينية).
الفصل الرابع: رزايا الإنسانية المعنوية:
في عهد الاستعمار الأوروبي: بطلان الحاسة الدينية: التي تحدد الغاية من حياة الإنسان ووجوده المحدود على هذه الأرض، وما مصيره في ظل هذه الجاهلية الغربية، بعد أن فقد البوصلة الربانية (الإسلام) إلى الله تعالى، وإلى مرضاته وجنته، (وهذه من خصوصيات الشرق والفكر الشرقي منذ قديم الزمان) في التساؤل عن ما وراء الطبيعة، والحياة الدنيوية، وهي تعتبر حاسة خاصة لأهل المشرق، ومن فقد هذه الحاسة الدينية، فقد الإيمان بالغيب، وبالتالي فقد الرشد الديني الذي يقوده إلى القيم والأخلاق والإنسانية والسلام، وبتأثير الحضارة المادية الغربية، خفت التساؤل عن إجابات للأسئلة الوجودية والمصير، حتى أصبحت في طي الكتب والنسيان، ف (خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ).
زوال العاطفة الدينية: بسبب الطغيان المادي، لكن مع ذلك كنت تجد في العالم الإسلامي جزراً من البيئات التي تستمسك بحبل الله وتدعو إليه الناس، يقوم عليها مشايخ ربانيون، يربون الناس ويعلموهم الشريعة والأخلاق الإسلامية، في مناطق مغلقة على الملوك وأرباب الدنيا، يحسدهم الملوك وأصحاب المناصب، على ما هم عليه من استقامة ومحبة وتآخي وتواد، يموت الشيخ فيعقبه شيخ آخر يكمل مسيرته، وترى في حلقاتهم ومساجدهم وخلواتهم من كل الأقطار الإسلامية، يجتمع فيها من هو من أقصى المغرب، إلى من هو من تركيا أو مصر، ومن هو من أندونيسيا، يجمعهم حب الله ورسوله، ولا يفرق بينهم لسان أو قومية، غير القومية الإسلامية (الأمة الواحدة)، وكمثال: (السيد آدم البنوري الهندي (1053هـ) دفن في البقيع، كان يأكل على مائدته كل يوم ألف رجل، ولما دخل لاهور ذات مرة كان في معيته عشرة آلاف من الأشراف والمشايخ، فهابه ملك الهند (شاهجان) فأرسل إليه مبلغاً كبيراً من المال، وقال له هذه مساعدة لك على تكاليف الحج، فعرف مقصده – إبعاده – فسافر إلى الحرمين ومات فيه، وبايع الشيخ محمد معصوم (ابن الشيخ أحمد السرهندي) (1079هـ) 900ألف رجل، فاستخلف عليهم 7 آلاف معلم ومربي، لتربيتهم وتعليمهم، هذا نموذج صغير من الهند، ولو استقصينا ما في البلاد الأخرى الإسلامية من الحفاوة بالدين وأهله، لما كفى مجلدات لاستيعاب جزء من تاريخ هذه الأمة، والحفاوة بالنشاط الديني الروحي فيها، وما علمنا من سيرة (الشيخ خالد الكردي (1242هـ) الذي ازدحم الناس عليه في بغداد، يتوبون على يديه، وأنه خرَّج مائة من العلماء الفحول، وقد بايعه خمسمائة من كبار العلماء، فضلاً عن آلاف من العوام، وفي زاوية (الشيخ غلام علي الدهلوي 1240هـ) رصد مؤرخ: " أن الحضور بالمئات من سمرقند، وبخارى، وطاشقند، وقندهار، وكابل، وبشاور، وكشمير، والملتان، وسرهند، ورامبوا، والهند وأفغانستان، ولكنؤ وحيدر آباد، وما صنعه المجاهد الهندي (الإمام أحمد بن عرفان الشهيد) يفوق الخيال، في بث عقيدة التوحيد واتباع الكتاب والسنة، آلاف يتوبون على يديه، وكان من تأثير خطبه أن حانات الخمر أقفرت ولم تستطع دفع ضرائبها للحكومة في أكبر مدن الهند (كلكته)، ولما دعاهم للجهاد ضد الإنكليز، لحق به الفلاحون والتجار والباعة، دون تردد، واستشهد منهم الكثير في وادي بالاكوت 1246هـ، ولم تخفت جذوة الدين في نفوس الناس، إلا حين تسللت الأفكار الغربية عبر الإنجليز، إلى أبنائهم رويداً رويداً دون أن يشعروا بالطامة التي ستلحق بهم فيما بعد، وهو التغريب عن طريق المدارس والتعليم، وخاصة بعد أن بدأ الناس بتوجيه أبنائهم إلى التعليم الدنيوي الإفرنجي واللغة الأجنبية، وأصبحت دنيا المسلمين سوقاً ليس فيها سوى البيع والشراء.
طغيان المادية والمعدة: عيرت (كبشة بنت معد يكرب) أخاها عمرو بن معد يكرب، لقبوله بدية أخيه المقتول فقالت:
ودع عنك عمْراً إن عمْراً مسالم وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم؟.
واليوم معدة الإنسان المعاصر ليست شبراً وإنما هي محيط الأرض وثرواتها، لا يشبع منها حتى يوسد التراب، على حساب الآخرين، ولو كان ملكاً أو مسؤولاً لكان أكثر شرها وجوعاً، حتى أن من هؤلاء من يذم الفقير لا الفقر، وقد يلمِّح وقد يصرح بأن الفقير لا يستحق الحياة، ويعامله معاملة الدواب والحمير والكلاب، فيصبح مقياس تقييم الناس ما يملكوه من المال، وليس المهارات أو الأخلاق، وأصبح المال " هو القطب الذي تدور حوله رحى الحياة العصرية كما يقول الأستاذ (جود) معلم الفلسفة وعلم النفس في جامعة لندن، حتى أن شاعراً جاهلياً وصف هذا بقوله: لحا الله صعلوكاً مناه وهمه من العيش أن يلقى لبوساً ومطعماً،
وقال آخر (الحطيئة) للزبرقان بن بدر في عهد عمر:
دع المكارم لا ترح لبغيتها.... واقعد فإنك الطاعم الكاسي.
فسجنه عمر على هجائه، حتى تعهد بأن لا يهجو أحداً بعدها، من غير وجه حق. وحكِّم شاعر الرسول حسان في مقولته، فأخبر أنه منتهى السوء في هجائه وذمه، فقال: (إنه سحل عليه) أي بال.
التدهور في الأخلاق والمجتمع: مع بداية تراجع تأثير الدين في المجتمع الإسلامي، وازداد مع دخول المستعمر الأجنبي، الذي حاول اجتثاث القيم التي كانت سبباً لقوة وتماسك هذا المجتمع المسلم، مثل الحشمة، والأخلاق، والتعاون، والتعاطف، والتماسك الأسري، والتضحيات بين الآباء والأبناء، واحترام الكبير، وكان الفقير الصعلوك في قبيلة يواجه الأغنياء والأمراء بعزة نفس، ويخفي عسرته وفقره، وكان ضمير الإنسان المسلم عزيزاً يأبى أن ترصد عليه كذبة أو خيانة، حتى لو واجه بها الموت، كما فعل الشيخ رضي الله البداوني، الذي شارك بثورة ضد الإنجليز، وكان القاضي من تلاميذه، فأسر إليه أن ينكر؛ حتى لا يحكم عليه بالإعدام، فأبى، فحكم بإعدامه، وهو على حبل المشنقة، كرر عليه الطلب بأن ينكر حتى يوقف التنفيذ، فأبى وأصر قائلاً، أتريد أن يحبط الله عملي، فنفذ فيه الحكم وأعدم، ومن المعلوم في تاريخنا أن العلماء كانوا يقدسون العلم، ويأبون الوظائف التي تدر عليهم أموال كثيرة أو علاوات إذا كان ذلك سيحرمهم من نشر العلم لطلابهم، ومن ورع العالم ابن طاووس لما كان في مجلس الخليفة المنصور طلب منه أن يناوله الدواة ليكتب شيئاً فامتنع، فسأله لماذا؟ فقال: " أخشى أن تكتب أمراً بمعصية فأتحمل معك وزرها، أما رفض منصب قاضي القضاة (وزارة العدل) فقد تواتر رفضها من أئمة الفقه الأربعة وغيرهم، واليوم يتنافس كثير من المسلمين للعمل مع الأجنبي في صحافته ووزاراته الخارجية والداخلية، لتمكين هذا المستعمر من التأثير على عقول النشأ المسلم، وإحكام سيطرته على بلادهم وثرواتهم، وهذا المفهوم المادي أصلي عند الغربيين لا يحتاج إلا إغراءات لتطبيقه والتزامه، لأن مدرسة (أبيقور 271ق.م) اعتبرت أساس الحياة المنفعة، ولا قيمة لمنفعة لا تجلب لذة وسرور، وهذا هو إطار العقل الأوروبي في أدبه وتاريخه وقيمه وسياسته، ولهذا سهل على الغربيين تفكيك الروابط المنزلية، وقطع التراحم، ومقارفة الآثام التي تحقق لهم اللذات العاجلة، والشهوات الغريزية، حتى لو كانت حيوانية.
الباب الخامس: قيادة الإسلام للعالم
الفصل الأول: نهضة العالم الإسلامي:
اتجاه العالم بأسره إلى الجاهلية: تحولت أوروبا النصرانية نحو جاهليتها الإغريقية إلى المادية المنفعية، متجردة من تعاليم النبوة المسيحية، شعارها القوة في السياسة، واللذة من الجنس، والمنفعة من العلاقة، والمال من الاقتصاد، وتحولت إلى فيل هائج تدوس كل ما يمر أمامها، مما تستطيع أن تدوسه، وبانسحاب المسلمين من ميدان الحياة السياسية والدينية، استلمت أوروبا زمام المبادرة في قيادة الأمم وإدارة دفة الحياة والعالم، وأصبح المسلمون مجرد ركاب في قطارهم، وهو يسير نحو مدن لاهية كأنها ساحات سيرك للاعبين الأوربيين.
استيلاء الفلسفة الأوربية على العالم: من خلال سفرائها وجامعاتها وشركاتها، وروسيا الشيوعية ثمرة غربية.
الشعوب والدول الآسيوية: فهي في طريقها إلى الغاية التي وصلت إليها شعوب أوربا في الحضارة والسياسة، وتدين بما تدين به هذه الشعوب في الأخلاق والآداب والاجتماع، وتعتقد ما تعتقده عن الحياة والكون، بل فعلوا فيمن خالفهم في الدين، وهم لا دين رسمي لهم، كل أنواع البلاء والوحشية خاصة إذا كان مسلماً، في الصين وكمبوديا، والفلبين، وروسيا، والشيشان، فعمت الأزمة الروحية العالم بأسره غربيه وشرقيه على حد سواء.
الحل الوحيد للأزمة العالمية: أن تعود القيادة الإسلامية إلى صدارة المشهد، برسالتها الربانية الخالدة، التي كلف كل مسلم حمل أمانة تبليغ الناس هذه الأمانة، ومن الخطأ الفادح أن يرى المسلم أعداء الإسلام، وأعداء الإنسانية حلفاء له، وحماة لبلاده ومصالحه، والأنكى من ذلك أن يعيش المسلم في حواضر العالم الإسلامي وهو يغب من متع الحياة وملذاتها المادية بطريقة هؤلاء اللادينيين من الغربيين والشرقيين، وكأنه ليس لديه كتاب سماوي، ولا نبي خاتم، ولا شريعة محمدية، فيمسخ في عقله وقلبه مع زوجته وأولاده، وكأنه أوروبي باسم محمد، أو عبد الله، وخاصة إذا كان من علية القوم.
المسلمون على علاتهم موئل الإنسانية وأمة المستقبل:
الإسلام خصيم الغرب الجاهلي اليوم، في السعي لإنقاذ العالم من البهيمية والتوحش ونار جهنم، وقد حلل هذه الأدوار بيننا وبين الغرب الشاعر محمد إقبال في قصيدته (برلمان إبليس) وبين أن الخطر الذي يخافه الغرب هو عودة الإسلام، لأنه دين الكرامة والشرف، ودين الصدق والأمانة، والعفاف والمروءة، والعمل والجهاد، والمساواة والرحمة، ولهذا عملوا على إشغال المسلم بعلم الكلام والإلهيات، وتأويل الصفات والآيات، والعزلة عن الحياة، وإلا فإذا استيقظ لهم فلن يهنؤا بثبات ولا نبات.
رسالة العالم الإسلامي: ما قاله ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس: " الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"، والتراجع عن هذا الهدف جعل الناس في أغلال وأصفاد في المدينة والمملكة، مُهددين في كل وقت بمجاعات مصطنعة وحقيقية، وحروب خارجية وداخلية، وإضرابات واضطرابات أسبوعية ويومية، والعدوان وقتل الناس باسم الدين (المزيف) لآلاف الناس ومئات الآلاف، في مجازر يندى لها جبين الإنسانية، (والاضطهاد السياسي) شبيه بالاضطهاد الديني كذلك اليوم، بينما الإسلام حل كل إشكاليات العالم والبشرية، من خلال قاعدته (لا إكراه في الدين) والأخرى ( لكم دينكم ولي دين) و (كلكم لآدم وآدم من تراب).
الاستعداد الروحي: العالم الإسلامي يؤدي رسالته بالروح والقوة المعنوية التي تزداد أوربا كل يوم إفلاساً فيها، وينتصر بالإيمان والاستهانة بالحياة والعزوف عن الشهوات، والشوق إلى الشهادة والحنين إلى الجنة، والزهد في حطام الدنيا وتحمل الأذى في ذات الله صابراً محتسباً، فالقرآن وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم قوتان عظيمتان تستطيعان أن تشعلا في العالم الإسلامي نار الحماسة والإيمان، وتحدثا في كل وقت ثورة عظيمة على العصر الجاهلي، وتجعلا من أمة مستسلمة، أمة فتية ملتهبة حماسة وغيرة وحنقاً على الجاهلية، وسخطاً على النظم الجائرة، هنالك تتجدد ذكرى بلال، وعمار، وخباب، وحبيب، وخُبيب، ومصعب، وعثمان بن مظعون، وأنس بن النضر، هنالك تفوح روائح الجنة، وتهب نفحات القرن الأول، ويولد للإسلام عالم جديد لا يشبه العالم القديم في شيء.
الاستعداد الصناعي والحربي: إذا أراد العالم الإسلامي، أن يضطلع برسالة الإسلام ويملك قيادة العالم فعليه
بالمقدرة الفائقة، والاستعداد التام في العلوم والصناعة والتجارة وفن الحرب، وأن يستغني عن الغرب في كل مرفق من مرافق الحياة، في طعامه وشرابه، ولباسه، ودوائه، وسلاحه.
تبوء الزعامة في العالم والتحقيق: لأن الاعتماد على المستشرقين ودراساتهم ونظرياتهم عن إسلامنا وتراثنا، لا توصلنا إلا إلى الشكوك والريبة، والانحراف عن فهم الشرع الحنيف بشكل سليم، بل فهم مغلوط مقصود يرضي إبليس وشياطين الأنس، وأعداء الإسلام.
التنظيم العلمي الجديد: بما يوافق روح الإسلام ورسالته، فإذا أراد العالم الإسلامي أن يستأنف حياته، ويتحرر من رق غيره، وإذا كان يطمح إلى القيادة، فلا بد إذن من الاستقلال التعليمي، ويدونون العلوم العصرية للشباب الإسلامي على أساس الإسلام ويستغنون به عن الغرب ويستعدون للحرب، ويستخرجون به كنوز أرضهم وينتفعون بخيرات بلادهم، وينظمون مالية بلادهم، ويديرون حكوماتها على تعاليم الإسلام بحيث يظهر فضل النظام الإسلامي في إدارة البلاد، على النظم الأوربية، وتنحل مشاكل اقتصادية عجزت أوربا عن حلها.
كل امرئ يجري إلى *** يوم الهياج بما استعدا.
الفصل الثاني: زعامة العالم العربي:
إن العالم العربي له أهمية كبيرة في خريطة العالم السياسية وذلك لأنه وطن أمم لعبت أكبر دور في التاريخ الإنساني، ولأنه يحتضن منابع الثروة والقوة الكبرى: الذهب الأسود الذي هو دم الجسم الصناعي والحربي اليوم، ولأنه صلة بين أوربا وأمريكا، وبين الشرق الأقصى، ولأنه قلب العالم الإسلامي النابض يتجه إليه روحياً ودينياً ويدين بحبه وولائه، ولأن فيه الأيدي العاملة، والعقول المفكرة، والأجسام المقاتلة، والأسواق التجارية، والأراضي الزراعية، ولأن فيها مصر النيل وثروتها ورقيها ومدنيتها، وفيه سورية وفلسطين وجاراتها، وأهميتها الاستراتيجية، وبلاد الرافدين بشكيمة أهلها، والجزيرة العربية بمركزها الروحي وسلطانها الديني، وآبار البترول الغزيرة فيها، كل ذلك قد جعل العالم العربي محط أنظار الغربيين، وتغني العرب والشرقيين به،
محمد رسول الله روح العالم العربي:
ولكن المسلم ينظر إلى العالم العربي بغير العين التي ينظر بها الأوربي، وبغير العين التي ينظر بها القومي العربي، وأخذ رسول الله بيد العالم العربي الممزق بين المستعمر الفارسي والروماني والحبشي، فأحياه بإذن الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس، وعلمه الكتاب والحكمة وزكاه؛ فكان هذا العالم بعد البعثة المحمدية سفير الإسلام، ورسول الأمن والسلام، ورائد العلم والحكمة، ومشعل الثقافة والحضارة، كان غوثاً للأمم، غيثاً للعالم المتهافت المتخلف المتصارع.
الإيمان هو قوة العالم العربي: ولا يمكن للعالم العربي اليوم التحرر من سيطرة أعدائه فرس وإنجليز وأمريكان وصهيونية إلا بما تحرر به العرب يوم أسقطوا سيطرة هؤلاء وتدخلهم في بلادهم، بالإيمان الذي غرسه محمد صلى الله عليه وسلم في قلوبهم ووجدانهم وعقولهم، تضحية شباب العرب قنطرة إلى سعادة البشرية، علم الله عند بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه لا أمة تستطيع أن تضطلع بأعباء الدعوة والجهاد وتقوى على التضحية والإيثار، لإعلاء كلمة الله عليا، سوى الأمة العربية القوية السليمة التي لم تبتلعها المدنية ولم ينخرها البذخ والترف، وأصحاب محمد أبر الناس قلوباً وأعمقهم علماً وأقلهم تكلفاً، وكان المقياس في الإيمان تحمل الأعباء، وقبول كل خسارة سوى خسارة الصدق في التضحية من أجل نصرة دين الله ورسوله، إن العالم لا يمكن أن يصل إلى السعادة إلا على قنطرة من جهاد ومتاعب يقدمها الشباب المسلم ، إن الأرض لفي حاجة إلى سماد ، وسماد أرض البشرية الذي تصلح به وتنبت زرع الإسلام الكريم هي الشهوات والمطامع الفردية التي يضحي بها الشباب العربي في سبيل علو الإسلام وبسط الأمن والسلام على العالم وانتقال الناس من الطريق المؤدية إلى جهنم إلى الطريق المؤدية إلى الجنة.
العناية بالفروسية والحياة العسكرية:
كتب المربي الكبير أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى بعض عماله العرب وهم في بلاد العجم: " إياكم والتنعم وزي العجم وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتمعددوا (بالخشونة)، واخشوشنوا (بالطعام واللباس) ، واخشوشبوا (تجلداً)، واخلولقوا (لباس غير ناعم)، وأعطوا الركب أسنتها، وانزوا نزوا، وارموا الأغراض (رمي الأهداف)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً (البخاري)) وقال: ( ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي (مسلم)) .
ومن واجب رجال التربية وولاة الأمر أن يحاربوا بكل قوتهم ما يضعف روح الرجولة والجلادة ويبعث على التخنث والعجز، من عادات وأدب وصحافة وتعليم، ويأخذوا على يد الصحافة الماجنة والأدب الخليع الملحد، والتجار الفسقة، الذين ينشروا في الشباب النفاق والدعارة والفسوق، وعبادة اللذة والشهوات، ولا يسمحوا لهؤلاء أن يفسدوا على الناشئة الإسلامية، ويزينوا لها الفسوق والعصيان، وحب الفحشاء، وقد شهد التاريخ بأن كل أمة أصيب رجالها في رجولتهم وغيرتهم، ونساؤها في أنوثتهن وأمومتهن، وطغى فيهن التبرج، ومزاحمة الرجال في كل شيء، والزهد في الحياة المنزلية، وحبب إليهن العقم، أفل نجمها وكسفت شمسها فأصبحت أثراً بعد عين.
هذه كانت عاقبة اليونان والرومان والفرس، وإن أوربا لفي طريقها إلى هذه العاقبة، فليحذر العالم العربي من هذا المصير الهائل.
محاربة التبذير والفرق الهائل بين الغني والصعلوك: تأثر العرب بحياة الترف الغربية، وفضول اللذات والشهوات والتفاخر بها تخمة مع طبقة، وجوع وشظف عيش مع طبقة أخرى أكبر منها، يجرها للثورة أو السلوكيات المهينة، الطبقة الأولى تعيش عيشة ألف ليلة وليلة، وأخرى عيشة الصعاليك، الذين ينهبون ويكدون ليبقوا أحياء، أثرة الأسر الملكية والتجار الكبار، كأثرة الطبقة الرأسمالية في أوروبا والغرب، وكأثرة قادة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، إن الأثرة – فردية كانت أو عائلية أو حزبية أو طبقية – غير طبيعية في حياة الأمة، وإنها تتخلص منها في أول فرصة، إنه لا محل لها في الإسلام ولا محل لها في مجتمع واع بلغ الرشد، ولا أمل في استمرارها؛ فخير للمسلمين وخير للعرب وخير لقادتهم وولاة أمورهم أن يخلصوا أنفسهم منها ويقطعوا صلتهم بها قبل أن تغرق سفينتهم فيغرقوا معها.
إيجاد الوعي في الأمة: إن أخوف ما يخاف على أمة ويعرضها لكل خطر ويجعلها فريسة للمنافقين ولعبة للعابثين هو فقدان الوعي في هذه الأمة، وأن تضع ثقتها في شخص غير موثوق، وتمكنه من نفسها وأموالها وأعراضها ومفاتيح ملكها، وتنسى سريعاً ما لاقت على يده الخسائر والنكبات، فيجترئ بذلك السياسيون المحترفون، والقادة الخائنون، ويأمنون سخط الأمة ومحاسبتها لهم، ويتمادون في غيهم ويسترسلون في خياناتهم وعبثهم ثقة ببلاهة الأمة وسذاجة الشعب وفقدان وعيه، والأمة العربية اليوم وهذه حالها، ضعيفة الذاكرة، سريعة النسيان، عكس الشعوب الغربية، التي على ما هي عليه من إسفاف في كثير من الأمور، إلا أن وعيها السياسي قوي وشديد، تميز بين من يخدعها، ومن ينصحها، ولا تسلم لأحد إلا بحذر، وإذا لم يحقق للشعب مراده، عزلوه واستبدلوه بغيره، وفي بلادنا العربية يسكت الناس مهما كان حجم الكارثة والخيانة والتقصير.
استقلال البلاد العربية في تجارتها وماليتها: وكل ما تحتاجه من طعام وشراب ولباس ودواء وسلاح، هو الذي يحقق لها الاستقلالية وتحقيق الأهداف العظيمة والمكانة، أصبح العالم في ظل الفتوحات العربية، ونشرهم للحضارة الإسلامية في الأرض، حالهم مع الشعوب الأخرى، كما ذكر القرآن في قوله: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).
انتهى تلخيص الكتاب 25/10/2024م.