إنه البطل الفيلسوف رئيس جمهورية البوسنة والهرسك المسلمة
نبوغ مبكر:
بدايات النبوغ المتفرد كانت بادية علي عزت بيجوفيتش منذ الصغر، ففي سن الخامسة والنصف، نجح في قراءة القرآن الكريم كله، وتعلم التلاوة وقد حصل جراء ذلك النبوغ المبكر على جائزة من والده وهو أحد أصدقائه، ثم ساهمت والدته بالخطوة التالية بعد نهاية تعلمه في الكُتاب، فسجلته في المدرسة الابتدائية.
بالنظر إلى طفولة ذلك الفيلسوف النابغة، فقد كانت والدته هي أحد أهم المحركات في حياته، فإيقاظه كل يوم من أجل صلاة الفجر، والإلحاح عليه ليهزم ذلك التكاسل الذي يمكن أن يصيب الفتى ابن الثانية عشرة، وقد كانت صلاة الفجر دائماً في المسجد المجاور لهم في الحي، والذي حمل اسم “حجسيكا”.
قرأ ما كتبه هيغل وكانط وغيرهما من الآراء ثم قرر في النهاية أن اليقين العقائدي كما وجده في النهاية هو صحيح الإسلام بعيداً عن الاختزال والسطحية وافتقاد الجوهر والمضمون، كانت الفاشية الشيوعية والنازية هما المذهبان الأكثر فرضاً للقوة والانتشار حول العالم، وفي الوقت نفسه كان الإيمان الذي يقدمه مشايخ المسلمون في ذلك الوقت هشاً وسطحياً لا يحمي المنتسبين إليه من المواجهات الحقيقة مع العقائد والأفكار المناوئة، فكان قرار علي ورفاقه التعاون مع علماء جمعية الهداية والتي كان يرأسها في ذلك الوقت الشيخ محمد هانجيتش، ليكونوا جميعاً جمعية الشبان المسلمين في عام 1941 وعمل على تسجيل الجمعية بشكل قانوني ضمن القواعد القانونية المعمول بها لإنشاء الجمعيات.
وفي عام 1943 و1944 سعت السلطات الشيوعية إلى جمع الشباب تحت منظمة تحكمهم وتضعهم تحت أعين الدولة، فتظاهر حينها الشبان المسلمون رافضين قرار الحكومة الجديد، مما عرض علي ورفاقه للاعتقال، وكانت تلك بداية رحلة علي مع السجن، فقد حكم عليه بالسجن 3 سنوات، وهو في العشرين من عمره عام 1946، 3 سنوات قضاها علي في السجن، ونفذت الحكومة العديد من أحكام الإعدام لزملائه، وبخروجه عام 1949 بدأ بيجوفيتش مرحلة جديدة من حياته فحصل على وظيفة بشهادة الثانوية والتحق بكلية الزراعة والتي تركها فيما بعد ليلتحق بكلية الحقوق،
صبيحة 23 مارس/آذار، فوجئ علي برجال من الأمن اليوغسلافي يدخلون منزله ويفتشونه بالكامل، ثم اقتادوه بعدها علي إلى مقر الأمن القومي وكانت الاتهامات تدور في فلك محاولات علي ورفاقه إعادة المسلمين الحاليين إلى عقيدتهم الحقيقية، وتسمية المتهمين أبناءهم بأسماء مسلمة، والحجة الأخرى أن كتيب «الإعلان الإسلامي» الذي كتبه بيجوفيتش واحداً يدعو إلى أسلمة المسلمين، واستمرت المحاكمة لأكثر من 30 يوماً، وكان قرارها بسجن علي عزت بيجوفيتش 14 عاماً، وبالحكم على رفاقه بأحكام تراوحت بين 6 أشهر و15 عاماً، لكن سنوات السجن الأولى كانت مبعثاً لأولى الإضاءات بعيدة المدى التي قدمها بيجوفيتش، حيث خرجت مسودة لكتاب كان قد عمل عليه وأخفته أخته عام 1946 في فترة سجنه، فأكملها علي بسرية وأرسلت إلى ناشر أمريكي بعد ما مرت برحلتها إلى كندا، لتخرج النسخة الأولى من كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب” عام 1984.
كان بيجوفيتش تواقاً للحرية، فكان السجن بالنسبة له سبباً في الاكتئاب والحزن والألم.. وفي 25 نوفمبر/تشرين الثاني 1988، خرج بيجوفيتش من محبسه ليستنشق نسيم الحرية من جديد، ويحصل على استراحة محارب لمدة عام، قرر بعدها تأسيس حزب للمسلمين في البوسنة، فأنشأ حزب العمل الديمقراطي في 26 مايو 1990م، حيث انعقدت الجمعية التأسيسية للحزب في قاعة فندق هوليداي إن، والتي امتلأت عن آخرها من كل بقعة من يوغسلافيا، وقد كان ذلك أول علامات التحدي والعصيان في مواجهة النظام في يوغسلافيا.
وبعدها بقليل جرت أول انتخابات حرة نتج عنها وبحسب الدستور تكوين مجلس رئاسة من 7 أعضاء 2 من الصرب و2 من الكروات و2 من البوشناق المسلمين و1 عن الأقليات، ويختار المجلس رئيساً للجمهورية وقد كان الاختيار هو علي بيجوفيتش، وفي فبراير/شباط من عام 1992 شارك شعب البوسنة في استفتاء الاستقلال وقد وافق البوسنيون بالأغلبية على الاستقلال عن يوغسلافيا.
وبدأت الحرب بعدها بقليل رغم كل مشاريع الإصلاح السياسي التي قدمها بيجوفيتش والتي كان من بينها إقامة اتحاد كونفدرالي يعطي كل دولة استقلاليتها السياسية دون الدخول في الحرب، لكن ميشلوفيتش رئيس الصرب كان يحلم بصربيا الكبرى، وقد شاهد المسلمون ذلك مذ بدأت المذابح، فقد تفاجأ المسلمون بأن الصرب والكروات من جيرانهم قد هاجموهم كأنهم أعداء منذ زمن طويل، وفي كل منزل حاول علي بيجوفيتش الإقامة فيه، كان يتعرض للقصف والمهاجمة لذا كان دائم التغيير لمكان إقامته، وفي الوقت نفسه كان دائم المرور في كل المدن البوسنية وسط الناس يطمئنهم.
في وسط الحرب وبين المذابح وعمليات القتل الجماعي والاغتصاب المستمرة في سراييفو وسربرنيتشا، لم ييأس بيجوفيتش من التحرك لدعم المقاتلين على كافة الجبهات حتى خرج ذات نهار في مؤتمر صحافي يتحدث أمام الجميع فتهافتت عليه المكالمات من كافة أنحاء المواقع القتالية في البوسنة، من الجنود والقادة يرفضون الاستسلام، ويعلنون أنهم سيكملون القتال بما تبقى لهم من مؤن وسلاح، وبالفعل وفي الفترات التالية بدأت العمليات القتالية من طرف مقاتلي البوسنة تزداد حدتها بقوة، مما دفع بمعسكر الصرب للتراجع قليلاً ومن هنا بدأت المبادرات تُطرح لإيقاف النزيف المستمر، حتى وقُعت معاهدة دايتون في الولايات المتحدة وحصلت البوسنة على استقلالها العسكري، ولم يمض الكثير حتى وقع قادة الجرائم العسكرية الصرب كمتهمين أمام محكمة العدل الدولية كمجرمي حرب.
وبعد مرور 10 سنوات في حكم البوسنة وصل بيجوفيتش إلى الخامسة والسبعين من عمره وبدأ الإنهاك يظهر عليه، حتى جاء ذلك اليوم الذي استيقظ فيه ولم يسعفه بصره للرؤية جيداً، فسقط على السلم وتكسرت أضلاعه وأصيبت الرئة، وبقي في المشفى 40 يوماً تقريباً، تحدث فيها مع أصحابه عن شعوره بالرغبة في الرحيل، وتفكيره في أن البقاء في الحياة لم يعد أمراً يشغل تفكيره، وقد كان بنوه وأزواجهم يحيطون به في أيامه الأخيرة في مرقده في المشفى، وقد كانت زوجة ابنه باكر آخر من كانت بجواره وهو يغمض عينيه لآخر مرة، قبل أن يُوارى الثرى في مقابر الشهداء كما تمنى، في جنازة شهدت خروج كافة سكان البوسنة بكافة مدنها وأقاليمها مرسلين إليه الوداع الأخير، باكين رحيل الرجل الذي غير تاريخهم للأبد.