مدارس عقائد أهل السنة

مدارس عقائد أهل السنة

YouTube player

محاضرة للشيخ العلامة محمد الحسن الددو

السؤال: هل تصح مقولة من يقول: أن أهل السنة هم إما أشعرية، أو ماتريدية؟ أو سلفية!

الجواب: من يقول هذا: حجر واسعاً وضيق كبيراً في مقولته.

أهل السنة: هذا الإطلاق يختلف باختلاف المقصود:

السُّنَّة في اللغة العربية مأخوذة من كلمة سَنَنَ بالفتح، ومصدره السَّنُّ بضم النون وتشديدها، وبالرجوع إلى المعاجم اللغوية، نجد أنَّ ابن فارس يذكر في معجمه مقاييس اللغة أن السين والنون (سنٌّ) تدلَّ على جريان الشيء بسهولة، وأصل استعمال اللفظ للماء، فيقال مثلا: سَننتُ الماء؛ أي أجريته في طريقٍ، والسُّنَّة هي السيرة، وسُنةَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- سيرته.[١] وسُمِّيت السّنُّة بذلك لأنّها تجري جرياً في طريق واضح، وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي الصراط المستقيم؛ أي الطريق الواضح، والمنهج القويم.[١] يقول الله -تبارك وتعالى-: (سُنَّةَ مَن قَد أَرسَلنا قَبلَكَ مِن رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحويلًا)،[٢] ويقول -تعالى-: (سُنَّةَ اللَّـهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا).[٣]

ومنها الطريقة المسلوكة، والطريق في الجبل تسمى سنة كذلك، والصميم من كل شيء يسمى سنة، ومنها قولة ذو الرمة:    تُريكَ سُنَّة وَجهٍ غَيرَ مُقرِفَة ……..مَلساءَ لَيسَ بِها خالٌ وَلا نَدَبُ.

تريك سنة وجهها، أي صميمه، وهي متسترة فيما سوى ذلك، وتختلف كلمة سنة باختلاف الإطلاق الذي تطلق به، فهي عند أهل الحديث: ” ما أثر عن النبي من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خَلقِي أو خُلُقِي، مما يصح أخذ حكم منه، أو لم يصح، وهو عند الأصوليين: ” تعريف أهل الحديث مشروط بما يصح اعتباره دليل لاستنباط حكم شرعي منه، وهي عند الفقهاء صفة الفعل الشرعي المقابل للفرض عندهم، المأمور به أمراً غير جازم، بحيث يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، ويشترط بعضهم أن يكون فعله النبي وأظهره للناس وواظب عليه ليميزوه عن المندوب.

وهي عند أهل العقائد تطلق إطلاقين: إطلاق خاص؛ السنة في مقابل الشيعة، والسنة أهل القبلة تشمل جميع المسلمين، بما فيهم المبتدعة والفساق والضلال، وفي لبنان يسمى المسلم السني ولو كان لا يصلي أصلاً يقال هذا من أهل السنة، أي من جماعتهم.

والإطلاق العام: يطلق على المتبعين للمنهج الصحيح الأصلي، المستمسك بكتاب الله وسنة رسول الله، وتصديق كل ما جاء بهما، وإعمال العقل بهما، واشتهر عقدياً أربعة مذاهب اجتهادية في الفقه هم: الأحناف، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، أما ما نزل على النبي من جبريل من فروض وأركان الإسلام ليس مذهباً لأحد، لأنه متفق عليه عند الجميع، فلا يقال فيها أنه مذهب فلان أو غيره، لأنه الدين الذي نزل على النبي، للأمة كلها، لأن المذاهب هي اجتهادية فيما زاد عن أصل النص في الفروع والفرعيات، فالمذاهب طرق للتعامل مع النصوص، كالجامعات في اختلافها في مناهجها في العلم الواحد، فيما هو غير متفق عليه، وما رأينا تعصباً للجامعات، بحيث تتضارب مناهجها في علومها، فيدرس طالب في جامعة ويكمل في غيرها دون حرج، ولهذا ما يدرس في جامعة الزيتونة يدرس في الأزهر والعكس، حتى أن رئيس جامعة الأزهر مرة كان عالم من الزيتونة، الشيخ حسين، لهذا لا إشكال في تنوع المذاهب فقهية كانت أو عقدية.

كثير من الناس يتوهم أن العقائد هي الأمر الصادق الجازم بالكلية، القطعي الذي ليس فيه اجتهاد ولا غلط ولا اختلاف، وأن على الجميع أن يدخل فيه، كما يدخل الخيط في خرم إبرة، هذا غير صحيح، لأن العقيدة علم مثل سائر العلوم، مثل الفقه، مثل النحو، مثل التصوف، فيه صواب وفيه خطأ وفيه أصول وفيه فروع، وفيه محكمات وفيه اجتهادات، ومسائل.

فمن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وكل ما جاء به فهو من أهل الجنة، واشترطوا عليه ستة شروط وهي: الإيمان بأركان الإيمان الستة، وان يفعل خمسة أمور: وهي أركان الإسلام الخمسة، ومات على ذلك، فهو من أهل الجنة، والله خلق الإنسان من ثلاثة عناصر: البدن، والعقل، والروح، ولهذا كان الدين ملبياً لهذه العناصر متطلباتها، فكان الإسلام خطاب الله للبدن، والإيمان خطاب الله للعقل، والإحسان خطاب الله للروح، وبقدر التوازن في هذه الأمور يكون الإنسان مستقيماً معتدلاً ناجياً.

والمذاهب العقدية: كان منها ما هو ابتداع ليس من الإسلام ولا من شرع الله، مما هو تكذيب لله، أو تكذيب لرسوله صلى الله عليه وسلم، كمن يتلقى الدين من مصادر لم يأتي بها النبي، ولم يرد فيها نص من القرآن الكريم، فهذا يكون ابتداع مذموم غير مقبول، وهؤلاء هم أهل الأهواء، ولا نكفر من كان منهم يؤدي الأركان السابقة التي ذكرنا، التي تشكل العمود الفقري للدين، إلا إذا وقع في أمر حكم فيه قاضٍ فيكون كفره في المسألة التي حكم القاضي بها عليه بالتكفير بذاته، وغير هؤلاء هم أهل السنة، وهم مذاهب في العقائد ثلاثة:

1): مذهب أهل السلف الأوائل: الذين كانوا في عهد النبي من الصحابة وأتباعهم وآمنوا بمثل ما ذكرنا عن الالتزام بأركان وكليات الدين، وهؤلاء لم يكن في زمنهم تحدي ومشكلات في العقائد، لقربهم من زمن التنزيل، وفصاحتهم التي استقبلوا بها الوحي فأدركوا مراده، بيسر وسهولة، وجلهم من العرب واللسان العربي، وفهمهم للخطاب القرآني مباشر، وما فهموه فعلوه طبق ما فهموه، وما لم يفهموه أوكلوه لله فلم يفتشوا عنه، ولم يسألوا فيه ما يعنتهم ويثرب عليهم، لأنهم لم يستشكلوا أي مسألة مما أشكلت على الناس فيما بعد، بعد أتباع التابعين، حين انتشر الإسلام بين العجم، وابتدع المعتزلة ما يحل هذه الإشكالات على زعمهم، حتى أن من آمن واتبع النبي، ومن عارض النبي من المشركين، ” أبو جهل، والوليد ابن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، لم يعترضوا على شيء من القرآن في الصفات ومثيلهاً، يدل على أنهم فهموا المراد كما فهم الصحابة المؤمنون، بجامع اللغة الواحدة التي يتحدثوا بها وهي العربية، ومذهب السلف هؤلاء المذكورين، هو مذهب السكوت عن صفات الله، والإيمان بها كما ذكرت، في إطار قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)) سورة الشورى، وهو مذهب التفويض، كما قال الإمام أحمد تفسيرها قراءتها لا كيف ولا معنى، دون بحث ولا تنقيب، مما نزل من صفاته تعالى، في إطار قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، ولهذا لما سئل الإمام مالك عن قوله تعالى: (الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5)) سورة طه، قال: ” الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ” ما أراك إلا صاحب سوء، أخرجوه عني”، كانوا يصدقوا بها ولا يسألون عنها، لكن وقع أهل السنة بعدهم في مشكل لأن من سبقهم جلهم عرب يفهمونه على السليقة، وما غمض عليهم مما لا يؤدي إلى عمل سوى التصديق والإيمان فآمنوا وصدقوا دون عناء البحث في هذه الأمور فلم يكلفوا أنفسهم فيما سوى الجهاد والعمل، وهذه الأمور لا جهاد فيها ولا عمل.

لكن لما دخل الناس في دين الله أفواجاً، وهم من شتى الشعوب والألسنة، لا يمكن أن نجيبهم على تساؤلاتهم في مثل هذه الصفات بنفس الطريقة التي سلم بها الجيل الأول، لأن لسانهم المختلف يصعب عليهم تقبل إجابة الإمام مالك، أو أحمد، فاجتهد أبو الحسن الأشعري والماتريدي في باب التوحيد والعقائد بما ييسر على هؤلاء العجم فهم هذه العبارات والألفاظ، فقسموها إلى ثلاثة أقسام:

1): ما يدرك العقل أنها صفات لله تعالى: ولا إشكال فيها مثل: أنه السميع، البصير، الغفور، الودود، الرحمن، الرحيم، لا إله إلا هو، فعال لما يريد، الحي، القيوم، وهي صفات لله واضحة جداً لا إشكال فيها، ولا يماري أحد فيها ولا تشكل على أحد، ويسمى الله بها فيقال: الله السميع البصير…الخ.

2): أفعال لله تعالى: كخلق السماوات والأرض والخلائق، وإنزال المطر، وتقسيم الأرزاق، وهذه مفهومة للعقل، ويدرك العقل أنها أفعال لله فيقول العبد: الله خالق، الله رازق، الله يحيي ويميت، ولا إشكال في هذه النسبة من الأفعال لله تعالى، وهي معقولة المعنى ومفهومة.

3): ما لا يمكن اعتباره من الصفات، ولا من الأفعال، مما نسب إلى الله بأمره، كالوجه، واليدين والعين والأعين، والساق، والقدم، والنزول والهرولة، والقرب والأصابع والجنب، والمعية…..الخ وهي مما لا يعقله العقل، ولا يستسيغ وصف الله به، فلا يقال: ” الله وجه، الله عين، الله ساق، فلا تكون صفات، وليست هي كذلك أفعال، وهذه هي التي وقع فيها الإشكال، وانقسم أهل السنة فيها إلى:

أ- التفويض فيها والتسليم بها واعتبارها صفات لله تعالى، دون تفسير ولا تأويل، ونقول أنها صفات لله كما يليق به، ولا تشبه ما هو عند البشر مما يشبه اللفظ دون المعنى، وهو مذهب الحنابلة، وليس مذهب السلف كما يزعمون.

ب): التأويل: لما لا يستسيغه العقل وهو ليس من الصفات ولا الأفعال، لأن ابن عباس رضي الله عنه، والصحابية أم سلمة أولوا فقال ابن عباس لما سئل عن المعية العامة، أولها بالعلم والإحاطة، ووردت المعية في سورتين، إحداها سورة الحديد، والأخرى المجادلة، قوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) سورة الحديد، وقوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ) سورة المجادلة، هذه في المعية العامة، أما المعية الخاصة فلا إشكال فيها، لأن معناها النصرة والتمكين (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)) الأنفال، (إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)) سورة البقرة، والاجتهاد في تفسيرها لئلا يقع الناس في تجسيم الله ونسبة الأعضاء إليه، فيتوهم الجاهل والأعجمي أن الله يشبه آلهتهم الوثنية السابقة، فاجتهد فيها علماء التوحيد، وقال أبو الحسن الأشعري، ما الفرق بين تفسير ابن عباس وأم سلمة في المعية العامة، وما نسب إلى الله أو نسبه إلى نفسه من الصفات الإشكالية، فنجتهد فيها ما يقبله العقل وتحتمله اللغة التي نزل بها القرآن، كما أول ابن عباس، وأم سلمة، فأول الوجه ب (الذات) والعين ب (البصر) وأن اليد (القوة)، (ويداه مبسوطتان) ب الغنى والكرم، (والساق) ب الشدة.

ج): الماتريدي: قريب من مدرسة الأشعري: وقريب من مدرسة الحنابلة، فقال: بدل أن نفسرها بعلمنا، نقول أنها ليست على ظاهرها، لكن الله أعلم بتفسيرها، فنوكل تفسيرها لعلم الله بدل علمنا، فيكون مذهب ثالث في الاجتهاد العقدي.

أخيراً – كل هؤلاء هم أهل السنة والجماعة، وإن شاء الله كلهم ناجون، وأما القول بأن جماعة ما من المسلمين، بأنهم هم الفرقة الناجية، ما سواهم في النار، فهذا وهم من الفهم، لأنه ليس هناك فرقة هي التي تكون ناجية وما عداها من المسلمين هالك، إن يوم القيامة لا يحاسب الناس إلا فرادى، فليس هناك جماعات ولا فئات، ولا أحزاب ولا طوائف، إنما يقف الناس بين يدي الله للحساب فرادى، فمن بطأ به عمله، لم ينفعه فرقته ولا نسبه.

تعقيب: التشغيب بالأمس واليوم على وحدة الأمة والصف الإسلامي، من خلال طرح مثل هذه الطروحات العقدية والعقائدية، ما كانت تحصل لولا توقف الجهاد، وضعف الدول الإسلامية والخلافة، فيجد الزنادقة من جهة، والمنافقون من جهة، والخوارج من جهة، والشعوبيون من جهة، ودخل اليوم المستشرقون المغرضون الحاقدون على هذا الخط، بأوامر استعمارية، في إطار سياسة مغرضة ماكرة، لضرب الإسلام وأهله من غير حرب، وإنما عن طريق من ذكرنا إعلامياً، لتشويش أذهان شباب أهل الإسلام، فيكفر بعضهم بعضاً، وربما حارب بعضهم بعضاَ، باسم الشرك والبدعة والضلال والإسلام، مع العلم أن هذه الأمور ليست عملية في إطار الإنجاز العملي، والسلوكي الإنتاجي، في قيام نهضة أمة ينتظر العالم بأسره قيام نهضتها لنشر العدل والتوحيد والأخلاق والسلام، ويكفي غير العالم والمتخصص، من إيمانه وإسلامه كما ذكرنا بالشروط أعلاه، أن يشهد: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويؤمن بأركان الإيمان الستة إجمالاً، ويطبق أركان الإسلام الخمسة، كما فعلها النبي وأصحابه في زمن خير القرون، عهد الخلفاء الراشدين، ومن تبعهم من أئمة الفقه والهدى الأربعة، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

 

مشاركة :